ديانة الطاوية.. فلسفتها مرتبطة بالسلام وتعد إحدى وسائل القوة الناعمة للصين.. فما قصتها؟

Lu Wei-ming, priest of the Wei-ming temple, and a worshipper burn a Taoist paper amulet during a prayer ritual at the temple in New Taipei city
كاهن في أحد معابد تايوان الطاوية خلال طقوس الصلاة (رويترز)

اتجهت الأنظار مؤخرا إلى مؤتمر دولي في إسطنبول، ففي إحدى فعالياته قرع بعض الزعماء والسياسيين جرسا ضخما، كما قُدمت أنشطة فنية وثقافية تحمل شعارات السلام، وذلك ضمن طقوس تحييها منظمة تابعة للديانة الطاوية. فما تلك الديانة القادمة من أعماق التاريخ الصيني؟ وما علاقة فلسفتها الباطنية بالسلام العالمي اليوم؟

اندلع الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن قرع الجرس بعدما احتضنت إسطنبول يوم 7-9 من الشهر الماضي القمة الاقتصادية الأوروآسيوية الـ 25، والتي حضرها رؤساء دول وحكومات ومسؤولون من أكثر من 40 دولة.

ناقش المؤتمر -تحت شعار "إعادة البناء بشكل أفضل"- قضايا السلام والاقتصاد والطاقة والتنمية المستدامة وأزمة الغذاء وتغير المناخ، لا سيما في حقبة ما بعد وباء كورونا، وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.

وكان اتحاد السلام والمحبة العالميين (FOWPAL) من أبرز المنظمات التي دعيت للمساهمة في فعاليات القمة، وهو منظمة أنشأها الناشط الصيني هونغ طاو تزي بالولايات المتحدة عام 2000، ونجح في ضمها إلى عائلة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة.

هونغ طاو تزي يقدم لرئيس مولدوفا السابق كتاب "تاريخ اليوم العالمي للضمير" خلال فعالية قرع الجرس بقمة إسطنبول (موقع FOWPAL)

وبحسب الموقع الرسمي للاتحاد، تحرص هذه المنظمة على تنظيم فعاليات دولية لنشر ثقافة السلام، ومن أبرزها إحياء "اليوم العالمي للضمير" كما يقدم الموقع بعض رسائله في إطار ديني، مثل أغنية "صلاة من أجل السلام".

وفي اليوم الأخير لقمة إسطنبول، احتفل الاتحاد بقرع جرس السلام والحب الذي يزن 240 كيلوغراما، وهي فعالية يحرص الاتحاد على دعوة زعماء العالم في مناسبات عدة للمشاركة فيها، وتتطلب قرع الجرس بمطرقة ضخمة 3 مرات، مع إضمار 3 أمنيات (صلوات) قبل كل طرقة، ففي الأولى يدعو الطارق دعاء السلام للنفس، وفي الثانية بالسلام للناس، ثم في الثالثة بالسلام للعالم كله.

فلسفة الأجراس

يتمتع الجرس بمكانة خاصة في الثقافة الصينية، فالمكتشفات الأثرية تكشف عن الاهتمام بالأجراس في العصور السابقة على أسرة تشين (القرن الثالث قبل الميلاد) التي وحدت الصين. وبعد دخول البوذية هذه البلاد أصبحت الأجراس أدوات مهمة، إذ يقول المثل الصيني "هناك أجراس في كل معبد، وبدون أجراس لن تكون هناك معابد".

تمايزت أشكال وأنواع الأجراس بحسب استخداماتها، فكانت هناك أجراس بوذية وأجراس طاوية، وثالثة للبلاط الإمبراطوري، ويمكن سماع دوي الكبيرة منها على بعد 5 كيلومترات، لذا رُبط استخدامها في المعابد بأداء الطقوس لجذب قلوب المصلين وبث الرهبة في نفوسهم.

وبحسب المصادر الطاوية، فإن قرع الأجراس يؤدي إلى تحريك المصلين والأرواح معا، ودفعها نحو الاندماج والاتحاد مع الطاو.

The Wider Image: Taoist priest honours China's coronavirus dead with memorial tablets
أحد معابد مدينة جينان الصينية حيث يمارس كاهن طاوي طقوسه (رويترز)

أصول المعتقد

وكي نفهم جذور هذه الطقوس، لنعد إلى منبع العقيدة نفسها، فالأديان الشعبية الصينية تنتمي إلى عائلة المعتقدات الآسيوية التي لا تنفك عن أصلها الباطني (الغنوصي) حيث يغلب الاعتقاد بحلول كائنات روحية في الكون، تتنوع بين طرفي الخير والشر، وهي أقرب ما تكون إلى الآلهة، وقد يعود بعضها إلى الأسلاف الغابرين.

ظهرت الفلسفة الكونفوشيوسية في القرن السادس قبل الميلاد خلال عهد سلالة تزو الحاكمة، ومع أن الطاوية نشأت قبلها فإنها لم تنتشر إلا في عهد سلالة هان بالقرن الثالث قبل الميلاد، وذلك قبل أن تنتشر البوذية (ذات الأصل الهندوسي والتي نشأت في نيبال) بعهد سلالة تانغ، التي تزامن حكمها مع ظهور الإسلام بجزيرة العرب.

Hong Kong Celebrates Cheung Chau Bun Festival Amid The Coronavirus Pandemic
معبد طاوي في هونغ كونغ (غيتي)

يعتبر الفيلسوف لاو تسي المؤسس الأبرز للطاوية، وما زال وجوده التاريخي محل خلاف، إذ يرى بعض المؤرخين أنه مجرد شخصية رمزية نُسبت إليه أصول تلك الفلسفة، والتي تجسدت في الكتاب الأشهر "طاو تي تشينغ".

وتقول الرواية -والتي يعتبرها البعض أسطورة- إن لاو تسي قرر أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الهجرة من الصين إلى الهند، هربا من الحروب والقلاقل، فطلب منه حرس بوابة المدينة أن يترك لهم كتابا يختصر فيه كل حكمته قبل الرحيل، فقدّم لهم كتابا يتضمن 81 قصيدة قصيرة تلخص أفكاره، ونشأ بذلك مفهوم الطاوية، أي "الطريق".

عقائد الطاوية لا تختلف عن مثيلاتها الباطنية (الغنوصية) الآسيوية، حيث تكثر فيها التعبيرات المجازية وتتعدد احتمالات التأويل، وهي لا تقدم لنا مفهوما واضحا للألوهية، ولا نجد لديها وصفا لشعائر العبادة.

تحتفي الطاوية بـ "التاجيتو" وهو رمز شهير بالثقافة الصينية لا يعرف تاريخ نشأته، ويمثل مفهوم الاتحاد بين مبدأين متعارضين "يين ويانغ" فيُرمز لهما بدائرة خارجية تمثل "كل شيء" وبداخلها منحنيان متداخلان، إذ يؤدي تفاعل طاقة اليين "الأسود" مع اليانغ "الأبيض" لنشوء الحياة وتعدد أشكالها.

A priest reads as he waits at a desk behind red lanterns at the Qingyanggong Taoist Temple in the south-western Chinese city of Chengdu
رمز "التاجيتو" على مدخل أحد معابد مدينة تشينغدو الصينية (رويترز)

وترى هذه الفلسفة أن الأضداد يحتاج كل منها للآخر كي يوجد ويستمر، فالظلام يتكامل مع النور، والسكون يحتاج إلى النشاط، والبارد يتحد مع الساخن، والذكر يتحد مع الأنثى، وهكذا تستمر الحياة.

وكما هو حال الباطنيات الأخرى، ينبثق الكون لدى الطاوية من فوضى أولية (هيولى بالمصطلح الفلسفي) ثم يدخل في سلسلة منظمة من دورات الاتحاد بين اليين واليانغ، لتتشكل بذلك هيئة الأشياء، سواء كانت أرواحا أو أجسادا مادية.

وتمدد الطاوية مفهومها لصراع الأضداد لتفرضه على كل مناحي الحياة، فهو أساس الطب الصيني الشعبي مثلا، إذ يقسم العمليات الحيوية في جسم الإنسان على أساس أن تكون كل منها من جزأين متضادين ومتكاملين في الوقت نفسه، لتصبح مهمة الطبيب قائمة على إعادة ضبط التوازن بين العنصرين في كل عضو، وفي كل وظيفة حيوية على حدة.

فمثلا، عندما ترتفع نسبة اليين في الجسم تظهر أعراض ارتفاع درجة الحرارة والصداع واحمرار الوجه والتهاب الحلق، فيسارع الطبيب إلى ممارسة الطقوس واستخدام الأدوية والأطعمة التي تحرض على رفع نسبة اليانغ، طمعا في استعادة العافية.

Ping Zhang works on face for acupuncture face lift.
العلاج بالإبر الصينية في واشنطن يستند إلى فكرة احتواء الوجه على قنوات الطاقة التي تتطلب موازنة "اليين" و"اليانغ" (رويترز)

تنجيم وطقوس

تتشابه الطاوية أيضا مع الأديان الصينية والهندية الأخرى بتقديسها للأرواح، إذ تمتلئ المعابد الطاوية بالأعلام المربعة والمثلثة، وهي تحمل مخططات تهدف إلى تحقيق وظائف عدة، أبرزها توجيه أرواح الموتى، والتقرب للآلهة و"الخالدين".

ويحظى التنجيم بحفاوة بالغة لدى الطاوية، كما تتداخل مهام كهنة المعابد بما كان يمارسه العرافون والشامانات والسحرة في العصور الغابرة.

وعلى سبيل المثال، كان "الفانغشي" بالقرن الثالث قبل الميلاد هو الشامان الذي يمارس السحر لطرد الأرواح الشريرة والتواصل مع عالم الشياطين، واستمرت ممارساته في التطبيق مع ظهور الطاوية، وما زالت كذلك حتى اليوم، ويُزعم أن لها دورا في فنون العلاج والاستشفاء بالطاقة الحيوية.

Taiwanese Celebrate Mid-Summer Ghost Festival
إحراق هيكل ورقي خلال احتفال طاوي في تايوان اعتقادا بطرد الأرواح الشريرة (غيتي-أرشيف)

تتميز الطاوية عن الأديان الصينية الأخرى منذ نشأتها بنبذ طقوس التضحية، فقبل تأسيس الطاوية كانت القرابين تقدم لأرواح الموتى والآلهة على السواء في المعابد، لكن الطاوية رفضت ذلك بشدة، وما زالت معابدها تحظر تقديم الأضحيات الحيوانية، وتكتفي بقبول حرق بعض النباتات والبخور.

ويحيي أتباع الطاوية أعيادهم كل سنة باحتفالات كرنفالية صاخبة، فيطلقون الألعاب النارية وينظمون مسيرات ملأى بالزهور، وينفذون رقصات الأسد والتنين، كما يرتدي بعضهم دمى ضخمة تمثل الآلهة الأسطورية، ويقدمون استعراضات الكونغ فو.

A Taoist performer puts on a show for tourists in Wudang Mountain in Shiyan
استعراض يقدمه أحد الطاويين في معبد بمجبال وودانغ الصينية للسياح (رويترز)

ويعتقد الطاويون أن المشاركين في هذه الطقوس ليسوا مؤدين فقط، بل تتلبس بهم الأرواح، لا سيما عندما يمارسون طقوسا خطيرة مثل طعن أجسادهم بالسيوف والأسياخ.

وتحظى الاحتفالات والمهرجانات الطاوية بحضور جماهيري كبير في أنحاء الصين، كما تقام من قبل الجاليات الطاوية في دول عدة مثل ماليزيا واليابان وتايلند وحتى كندا.

A woman who is dressed up as Zhongkui, the traditional Chinese masculine deity who captures evil spirits in temple festivals, poses for a photograph in Taitung county
سيدة تستعد للمشاركة بمهرجانات المعابد مرتدية زي أحد الآلهة الطاويين المخصصين لالتقاط الأرواح الشريرة (رويترز)

الطاوية والسياسة

يرى بعض المؤرخين أن الطاوية تطورت بهدف تصحيح الكونفوشيوسية، فالطاوية ترفض التشديد الكونفوشيوسي في الطقوس وهرمية النظام الاجتماعي، وتقدم بديلا أكثر براغماتية يتجسد في المفاهيم الطبيعية والعفوية، كما نجد فيها جذورا للفلسفة الفردانية التي تطغى على ثقافة الغرب اليوم.

وعندما دخلت البوذية الصين استفادت كثيرا من الطاوية، كما كان للأخيرة دور في تشكل مذهب بوذية الزن الذي يحتفي كثيرا بالطبيعة، ولا يكترث للكتب المقدسة، ويركز اهتمامه على الحياة الدنيوية. ونرى هذه الأفكار منسجمة مع نمط الحياة العلماني في الغرب الذي يجد في الطاوية وبوذية الزن تطعيمات "روحية" للحياة المادية بدون التزام بالطقوس والتكاليف الدينية التي تفرضها الأديان السماوية، وهو ما يبدو جليّا في انتشار معتقدات "حركة العصر الجديد" منذ ستينات القرن العشرين وحتى اليوم.

ولعل تركيز الطاوية على التطبيق العملي ساعدها على النجاة، إذ لم تصطدم الحكومات الصينية الحديثة معها كما فعلت مع غيرها، فعندما أعلن الزعيم ماوتسي تونغ فرض الشيوعية الإلحادية على الأمة الصينية أواخر أربعينيات القرن العشرين، بدأت الحملة على الأديان لاستئصالها من المجتمع، فأغلقت الكنائس والمساجد والمعابد البوذية، ثم جرّمت "الثورة الثقافية" حيازة النصوص الدينية، فاضطر الكثير من رجال الدين للتخفي أو الهرب.

وبالرغم من هذا الاضطهاد الواسع، ظلت الكونفوشيوسية والطاوية في مأمن نسبي من حملات الاستئصال، فهما جزء أصيل من التراث الصيني الذي يصعب الفكاك عنه بعكس الأديان الأخرى، كما جرت العادة منذ القدم على اعتبارهما فلسفة للحياة أكثر من ضمهما إلى عائلة الأديان.

وعندما تراجع الشيوعيون عن اضطهاد الأديان منتصف السبعينيات، وعن مزاعم "الثورة الثقافية" باعتبار التراث الديني سببا للرجعية، عادوا للاحتفاء والعناية بمعابدهم حتى مع إنكارهم للاعتقاد بوجود أرواح وآلهة، لا سيما مع اعتقادهم بإمكانية توظيف هذه الفلسفات في تأليف المجتمع الصيني، واختراق مجتمعات الغرب أيضا.

The Wider Image: Taoist priest honours China's coronavirus dead with memorial tablets
دير طاوي يقيم فيه العديد من الكهنة بمقاطعة شاندونغ الصينية ويحظى برعاية السلطات (رويترز)

كان المؤسس لاو تسي يركز على إقحام مفهوم "الطاو" في الأفكار الاجتماعية والسياسية لتحقيق السلام والازدهار، فخصص الكثير من وصاياه للحكام، وقال "إذا اتبع الملوك والنبلاء أحكام الطاو، فلن تستطيع حتى الأشباح والأرواح أن تزعجهم" مطالبا إياهم بتجنب الصدام مع شعوبهم، ومشددا على رفض الحروب وضرورة العمل الدؤوب على تجنبها بكل وسيلة ممكنة.

ويرى نشطاء السلام في فلسفة الطاوية اليوم ما يدعم أهدافهم، وقد يكتفي البعض باقتباس نصوص لاو تسي، أو الاستفادة من كتاب "فن الحرب" الذي وضعه في القرن السادس قبل الميلاد الفيلسوف والقائد العسكري الصيني سن تزو، لكن منظمات أخرى ترى في دعوات السلام هذه نافذة لترويج المعتقدات الطاوية نفسها، باعتبارها الحامل الفلسفي للمبادئ السياسية السلمية.

وقد تكون الطاوية أيضا إحدى وسائل القوة الناعمة للصين الصاعدة اليوم، فإلى جانب السلاح النووي والصواريخ الباليستية وحاملات الطائرات الصينية، هناك أيضا أجراس السلام التي يقرعها الناشطون الطاويون الصينيون برفقة مئات الزعماء، حاملين على أجنحتها شعارات المحبة إلى أنحاء العالم، وفي طياتها طيف من المفاهيم الدينية والفلسفية الأخرى.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية