في غزة.. حفار قبور بشهادة ماجستير

نجا مهدي بأعجوبة من قصف استهدف المقبرة خلال حرب إسرائيلية على غزة-رائد موسى-الجزيرة نت
مهدي نجا بأعجوبة من قصف استهدف المقبرة خلال حرب إسرائيلية على غزة (الجزيرة)

غزة- أن تكون من ذوي المؤهلات العليا وتحفر في باطن الأرض طلبا للقمة العيش فأنت في غزة، حيث لم تُبق إسرائيل فرصا كثيرة للحياة، في ظل حصار خانق تفرضه على القطاع الساحلي الصغير منذ 15 عاما.

ويحفر مهدي رمضان شعبان في الأرض قبورا للموتى، باحثا لنفسه عن فرصة للحياة فوقها، بعدما ضاقت به الدنيا، ولم يتمكن من الحصول على فرصة عمل يتمناها بوصفه معلما للغة العربية التي يحمل شهادة الماجستير فيها.

يحمل مهدي شهادة الماجستير في اللغة العربية ويعمل حفار قبور في غزة لتأمين لقمة العيش-رائد موسى-الجزيرة نت
مهدي يحمل شهادة الماجستير ويعمل حفارا للقبور لمساعدة والده بتوفير احتياجات الأسرة المكونة من 7 أفراد (الجزيرة)

حفار قبور

"العالم يبني لتطوير حياته.. واحنا (نحن) في غزة حياتنا مدمرة فوق الأرض، ونحفر في باطنها للبحث عن حياتنا المسروقة"، بهذه الكلمات القليلة الممزوجة بكثير من الألم يستهل هذا الشاب العشريني الذي يعمل حفارا للقبور في مقبرة شمال قطاع غزة.

مهدي من مواليد 1993، ويعمل مع والده وشقيقه الأصغر محمد متعهدين بحفر قبور في مقبرة الفالوجا في مخيم جباليا للاجئين، الأكثر اكتظاظا بالسكان في قطاع غزة.

ويقول مهدي للجزيرة نت "منذ 5 أعوام أعمل في هذه المهنة لمساعدة والدي في توفير احتياجات أسرتنا المكونة من 7 أفراد".

ويتقاضى مهدي نحو 20 شيكلا (نحو 6 دولارات) عائدا ماديا عن القبر الواحد، وقال "منذ 4 أيام لم أبع قبرا ولم يدخل جيبي شيكل واحد".

ويكلف القبر نحو 350 شيكلا، من أجل حفره وتجهيزه، وتذهب ثمنا لمواد البناء، ويتبقى القليل منها أجرة للحفارين.

وحفر القبور في غزة، يتم -والحديث لمهدي- إما بطلب من ذوي المتوفى، الذين يحددون مكانا يختارونه إلى جانب قبور أحباء لهم، أو بالتجهيز المسبق، حيث يتم حفر قبور وتجهيزها، ومن ثم بيعها.

يؤمن مهدي شعبان أن الوحدة الوطنية تمثل بوابة لزوال الاحتلال والخلاص من المعاناة والآلام-رائد موسى-الجزيرة نت
مهدي يؤمن بأن الوحدة الوطنية تمثل بوابة لزوال الاحتلال والخلاص من المعاناة والآلام (الجزيرة)

حلم خارج المقبرة

ذهب مهدي لمرافقة والده في مهنة حفر القبور بإرادته، لكنه ظل -حسب وصفه- يشعر بنفسه "داخل قفص"، ليس شعورا بالنقص أو خجلا من هذه المهنة، التي يقول إنها "صرفت علينا طوال حياتنا"، ولكن لأن لديه حلما بالعمل في قاعات التدريس، وليس بين شواهد القبور.

وخلال عمله في حفر القبور، التحق مهدي ببرنامج الماجستير في جامعة الأقصى بمدينة غزة، وأنهى دراسته في تخصص نحو ولغة عربية (لسانيات)، غير أن الجامعة لا تزال تحجز شهادته منذ العام الماضي لعدم قدرته على دفع ما تبقى من رسوم تقدر بـ540 دينارا أردنيا (نحو 760 دولارا).

وبسبب ذلك، يشبه مهدي نفسه بعصفور داخل قفص، يعجز عن الطيران، وفضلا عن ندرة الوظائف في غزة، فإنه عاجز عن مجرد البحث عن وظيفة، أو التقدم لمنح دراسية لنيل درجة الدكتوراه التي يحلم بها منذ الطفولة.

وقال "أشعر بنفسي كأنني طائر بلا جناحين، لعدم قدرتي على دفع رسوم الدراسة والحصول على شهادتي لاستكمال الطريق نحو حلمي، وتغيير واقعي، وانتشال أسرتي، وصناعة حياة أفضل".

يتقاضى مهدي أقل من 5 دولارات نظير حفر وتجهيز القبر الواحد-رائد موسى-الجزيرة نت
مهدي يتقاضى أقل من 5 دولارات نظير حفر القبر الواحد وتجهيزه (الجزيرة)

نكبة ونكبات

ينحدر مهدي من أسرة اضطرت عام 1948 إلى هجرة قريتها "الجيّة" داخل فلسطين المحتلة، واللجوء إلى قطاع غزة.

وتقيم أسرة مهدي في منزل صغير لا تتجاوز مساحته 150 مترا مربعا، في بلدة بيت لاهيا (شمالي القطاع)، وكان تعرض لأضرار مادية خلال حروب إسرائيلية سابقة.

ويقول مهدي "ونحن نعيش ذكرى النكبة 74، تمر بنا في غزة نكبات أخرى، وكلها بفعل الاحتلال، من حروب واعتداءات وحصار، تدمر حياتنا وتحولها إلى جحيم لا يطاق".

ويجاهد مهدي -الذي يشارف على الثلاثين من عمره من دون زواج- كي لا يقع "فريسة" لليأس، ويشغل نفسه في مبادرات تطوعية، وتقديم المساعدة لطلبة في البحث العلمي والتدقيق اللغوي، فضلا عن المشاركة في مؤتمرات لغوية، ونشر أوراق بحثية في مواقع متخصصة.

وتظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (مؤسسة رسمية) أن نسبة البطالة لدى خريجي الجامعات في مختلف التخصصات بلغت 78% في غزة خلال عام 2020، مقابل 35% في الضفة الغربية.

وحسب بيان نشره الجهاز على موقعه الرسمي في يوليو/تموز الماضي حول "مجال الدراسة وعلاقته بسوق العمل"، فإن مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية خرجت عام 2019 أكثر من 42 ألف طالب وطالبة في مجالات مختلفة، في حين لا يستوعب سوق العمل المحلي سوى 8 آلاف متخرج سنويا.

مهدي -الذي كاد أن يفقد حياته في قصف إسرائيلي استهدف مقبرة الفالوجا في إحدى الحروب على غزة- يؤمن بأن بوابة الخلاص من المشكلات والمعاناة اليومية تبدأ بالوحدة الوطنية وزوال الاحتلال.

المصدر : الجزيرة