"الأراجوز" ظاهرة تراثية وأداة لتشكيل الوعي المجتمعي في تركيا

أحد مشاهد عرض الأراجوز لمياء أحمد - اسطنبول
أحد مشاهد عرض الأراجوز في إسطنبول الذي يمزج السخرية بكثير من المعلومات والتوجيهات (الجزيرة)

إسطنبول- "خيال الظل" أو "الأراجوز" فن شعبي تركي ساخر يمثل أحد الأشكال المبكرة للمسرح، شخصياته تتسلل من عمق التاريخ لترسم البسمة على الوجوه وتملأ القلوب بالبهجة، من خلال حوار تفاعلي مرح.

يعد "الأراجوز" واحدا من أهم ركائز الثقافة التركية التقليدية المتأصلة في الذاكرة الجماعية للأفراد، التي لا تزال تلعب دورا رائدا في تشكيل وعي المجتمع. ويهدف إلى معالجة الأمور الحياتية اليومية ومناقشة القضايا العامة بشكل فكاهي يدفع الجماهير إلى الضحك على همومهم، مازجا السخرية بكثير من المعلومات والتوجيهات، مما يجعله أحد أهم وسائل التثقيف.

ما أصول "الأراجوز"؟

ما زالت نشأة مسرح الظل موضع جدل كبير، فلا توجد معلومات دقيقة حول بداية ظهوره، ويرى بعضهم أن منشأه مصري أو غجري، والشائع أن أول ظهور له كان في دول جنوب شرقي آسيا: كالصين وإندونيسيا وجزيرة جاوا، ثم انتقل إلى المغول من الصين، ومن ثَمّ جاء به الأتراك معهم بعد هجرتهم إلى الأناضول منذ القرن 16.

وهناك مؤشرات تدل على أن أصوله التركية، فكلمة "أراجوز" مشتقة من اللفظ التركي "كراكوز" (Karagöz) المركب من كلمتين، ومعناهما العين السوداء، للدلالة على النظرة السوداوية للحياة.

ويعد "كراكوز" أحد شخصيات فن الظل التركي المهمة، وهو بطل الرواية فيه. ويقول أمين تاشديمير، كاتب مسرحي وفنان متخصص في هذا الفن: "يُعتقد أن الأراجوز بدأ في مدينة بورصة التركية، ويمكنني الجزم بأنها من اختراع عثماني، فأحداث القصة الأصلية تحدث في مدينة عثمانية".

يستخدم في عرض الاراجوز التقليدي الدف ذي الأجراس والمزمار لمياء أحمد - اسطنبول
في عرض الأراجوز التقليدي يستخدم الدف ذو الأجراس والمزمار (الجزيرة)

تناغم وفكاهة

و"الأراجوز" نوع من العروض اللفظية، يعتمد على استخدام رسوم ثنائية الأبعاد، مصنوعة من الجلد الشفاف الملون، تُحرَّك بمساعدة العصي، خلف شاشة بيضاء، تسمى ستارة الخيال أو المرآة، يسلط عليها إضاءة مركزة، في محيط معتم.

وتظهر الشخصيات مصحوبة بالموسيقى والرقصات المحلية. وتتحقق الوحدة في الأداء بتناغم الكلمات والموسيقى والرقص وحركات التصوير، ويتعامل مع الموضوعات من خلال التأكيد على العناصر الفكاهية، والمعاني المزدوجة والمبالغات والتقليد.

ويُستخدم في العرض عادة آلتان موسيقيتان: المزمار ودف الأجراس، وتُعزف موسيقى مختلفة عند بداية كل مشهد، تساعد الجمهور على معرفة أصول الشخصيات الجديدة التي انضمت إلى المشهد.

إبداع وخيال

ويوفر هذا النوع من الفن مجالا فسيحا للإبداع، ومناخا خصبا للخيال، مع حرية كبيرة في صياغة النصوص، تيسّره بساطة الأدوات المستخدمة، التي لا تتسنى في المسرح الحديث. وفي حديثه إلى "الجزيرة نت"، يقول تاشديمير: "بمعدات بسيطة جدا يمكننا أن نرسل الشخصيات إلى الفضاء ونجعلها تتجوّل فيه، لا يوجد شيء واقعي، نحن نقوم بعرض يساعد على تحفيز خيال الجمهور".

ويتميز النص بأنه يأخذ بالاعتبار مشاركة الجمهور، فالحضور يشارك في الحوار، فضلاً عن قلة التكلفة، فعدد الممثلين قليل، وحاجاتهم بسيطة وغير مكلفة.

بقول الحالم بتحريك الدمى ومساعده بضرب الدف لمياء أحمد - اسطنبول
محرك الدمى يسمى بالتركية "خيالي" أي الحالم، وحينما يحرك الدمى يضرب مساعده الدف (الجزيرة)

محرك الدمى

يقوم بالعرض شخص واحد يؤدي جميع الأدوار، مهما كان عدد الشخصيات، فيحرك الدمى ويؤدي الأصوات واللهجات المختلفة، ويسأل ويجيب ويعزف ويغني، وله مساعد يقوم بتمرير الأدوات، وقد يضرب الدف أحيانا.

ويطلق بالتركية على محرّك الدمى اسم "خيالي" (Hayali)، أي الحالم، وذلك "لأنه يحلم ويعكس أحلامه على ستارة الخيال، للتواصل مع الجمهور"، كما يقول كامل ديمير، كاتب مسرحي ومحرّك دمى.

ومحرّكو الدمى فنانون متعددو المواهب، فهم كتاب ومخرجون وموسيقيون وممثلون في آن واحد، يغنون ويعزفون بمفردهم، ويصنعون رسومهم الخاصة، كما يمكنهم تغيير نص المسرحيات والارتجال، حسب الجمهور.

والطريقة التقليدية لتعلم المهنة أن يصبح متدرّبا لدى معلم أو فنان، فلا توجد معاهد خاصة لتعليم فن "الأراجوز"، وغالبا ما يبدأ المرء المهنة في وظيفة مساعد، ويظل متدرّبا فيها لسنوات.

تصنع الرسومات من الجلد الطبيهي وتلون بصبغات طبيعية لمياء أحمد - اسطنبول
تصنع الرسومات من الجلد الطبيعي وتلون بصبغات طبيعية (الجزيرة)

صنع الدمى

تُسمّى شخصيات "الأراجوز" دمى مجازا، بينما هي في الحقيقة عبارة عن رسوم ثنائية الأبعاد. وتعد صناعة دمى "الأراجوز" من الحرف اليدوية التقليدية، إذ يقوم محرك الدمى بصنع رسوماته بنفسه يدويا، بما يتوافق مع النصوص التي يؤلفها.

وتصنع الدمى من الجلود الشفافة، كجلود الجمال والعجول والماعز وغيرها، وتنقع بالماء لمدة يومين، حتى يتساقط ما بها من شعر، وتُختار لذلك الأيام الشديدة الحرارة.

ثم يتم كشط الشعر بسكين، ويُنقع الجلد مرة أخرى في الماء لمدة 5-6 أيام، مع تغيير الماء صباحا ومساء. ثم يجفف في الظل حتى لا يتحول إلى اللون الأسود.

تُرسم الرسوم على الورق أولاً، ثم تُطبَّق على الجلد، وتُقطع بسكين خاصة، ثم تلون بصبغات طبيعية مستخرجة من النباتات، ويتم توصيل القطع بواسطة خيوط معينة، ثم تثبت عصي التحريك، لتصبح الرسوم جاهزة للعرض.

صناعة دمى الأراجوز من الصناعات اليدوية التتقليدية لمياء أحمد - اسطنبول
صناعة دمى الأراجوز من الصناعات اليدوية التقليدية في تركيا (الجزيرة)

تغيرات وجهود

كانت مسرحية الظل التركية تُعرض في العصور القديمة على الأشخاص البالغين غالبا، وتطورت حتى أصبحت أحد مصادر النقد الاجتماعي والسياسي. وكانت المسرحيات تعرض في القصور والبيئات الخاصة، ثم اتسع نطاقها مع مرور الزمن فعُرضت في المقاهي والحدائق العامة.

ومع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ودخول المسرح الغربي إلى تركيا في القرن الـ19، قل الاهتمام بعروض "الأراجوز"، وأصبح أصعب ما يواجه الفنان هو إقناع الجهات المختلفة بإقامة عروض لديها.

وتسعى الحكومة التركية إلى تشجيع الفنون التراثية، ومن ضمنها "الأراجوز". وبذلت وزارة الثقافة والسياحة جهودا فعالة لإحياء هذا الفن ورعاية عروضه، وتعاونت مع "جمعية أراجوز" لتقديم دروس في جامعة رومالي- إسطنبول، وتقديم دورات تدريبية. كما تقوم مديرية الفنون الجميلة بدعم المسرح التقليدي ورعاية فن "الأراجوز".

ويعمل بعض المتحمسين بجهود فردية على تطويره، وتحديد حاجات الجمهور، وكتابة نصوص جديدة، مما أدى إلى انتعاشه. يقول ديمير لـ"الجزيرة نت" إن "الدولة العثمانية تميزت بالثراء والتعدد السكاني، فكانت الحكايات تستوحى من هذا الثراء، البنية الموجودة اختلفت كثيرا، لذلك نقوم باختراع نصوص ومسرحيات جديدة تثير الاهتمام".

ومع هذه الجهود التي كللت بالنجاح، باتت مسرحيات "الأراجوز" تعرض في المسارح والمدارس والمهرجانات والاحتفالات والقنوات الإعلامية، وفي المناسبات الرمضانية والأيام الخاصة، وحفلات الختان.

الحالم ومساعده أثناء تأدية العرض لمياء أحمد - اسطنبول
"الحالم" ومساعده في أثناء تأدية العرض  (الجزيرة)

الأراجوز للأطفال

ومؤخرا، زاد الإقبال على مسرحيات "الأراجوز" في تركيا، وخصوصا من الأطفال الذين يستمتعون بأجواء الفكاهة والمرح، ويتفاعلون معها بكل حماسة.

وأخذت المؤسسات العامة كالمدارس والبلديات تنظم عروضا مجانية للأطفال، كمصدر للبهجة والترفيه والتعليم. وفي حديثها، لـ"الجزيرة نت"، تقول ليلى شباط: "أحضرت ابنتي اليوم إلى العرض لتستمتع وتتعلم المزيد عن تاريخنا، فهو عرض ممتع نحضره كلما أتيحت لنا فرصة".

و"الأراجوز" في تركيا أضحى إطارا تعليميا يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يقدم عروضا تفيد الطفل، وتقوي مهارات التواصل الاجتماعي لديه من خلال الحوارات التفاعلية، واستخدامها كأداة تعليمية فعالة، وربط الجيل الجديد بالتراث.

وفي هذا السياق، تقول أوزلام بولات للجزيرة نت: "جئت بابني لحضور المسرحية، ليتعرف أكثر على التقاليد ويزيد ارتباطه بثقافة بلدنا وتاريخه".

واستحدث المتخصصون نصوصا مناسبة للأطفال في موضوعات متنوعة، منها القصص الخيالية الهادفة، والقصص التاريخية. أما الغالب على حكاياتها، فهي الأحداث اليومية وشجارات تدور بين أشخاص مختلفين بطريقة تعليمية مسلية.

المصدر : الجزيرة