أزمة الهوية الأوروبية.. الفيلسوف الألماني هابرماس يحذر بلاده من العواقب الوخيمة للحرب الأوكرانية

صاغ عالم الاجتماع والفيلسوف يورغن هابرماس الجدل الألماني حول صادرات الأسلحة باعتباره فجوة بين الأجيال يجري خلالها استخدام لغة "الثقة الشديدة بالنفس" و"صاخبة" في ظل صراع عسكري.

epa03506224 German philosopher Juergen Habermas gives a press conference at Heinrich Heine Institute in Duesseldorf, Germany, 12 December 2012. Habermas will receive the Heine Prize on 14 December 2012 which is endowed with 50,000 euros. EPA/MARTIN GERTEN
الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس يعد أبرز منظري مدرسة فرانكفورت المعاصرين وله أكثر من 50 مؤلفا في الفلسفة والاجتماع (الأوروبية)

أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيرات كبرى في عالمي السياسة والفكر، ونالت ألمانيا حصة كبيرة من هذه التغييرات، إذ اعتبرها المستشار الألماني أولاف شولتز نقطة تحوّل في التاريخ، فهل تدخل أوروبا وألمانيا حقبة جديدة حقا؟ وفي أي مسار يتحول التاريخ؟

تكشف الحرب -في واحد من وجوهها في ألمانيا- عن الانقسام بين التيارات والأجيال حول الدروس التي يجب أن تستخلصها البلاد من تاريخها في شن صراعات دامية، إذ يصطف بعض كبار الفنانين والمثقفين في البلاد لصالح أو ضد تزويد كييف بالأسلحة في سلسلة من الحملات المفتوحة.

بعد أيام من إعلان الحكومة الألمانية أنها سترسل حوالي 50 مدفع "جيبارد" مضاد للطائرات إلى أوكرانيا، طالب بيان وقع عليه 26 فنانا ومفكرا بارزا، بينهم الروائيون والكتاب مارتن فالسر وجولي زيه وروبرت سيتالر، بالالتفات إلى "مسؤولية ألمانيا التاريخية" عبر "مساعدة الجانبين على إيجاد حل وسط يمكن لكليهما قبوله".

وقوبل البيان بردود غاضبة بينها رموز من اليمين الألماني وحزب الخضر، ووقع 58 فنانا ومفكرا، منهم الروائية الحائزة على جائزة نوبل للآداب هيرتا مولر، بيانا ناقدا للبيان الأول، جاء فيه أن "أولئك الذين يريدون سلاما تفاوضيا لا يؤدي إلى خضوع أوكرانيا للمطالب الروسية، يجب عليهم زيادة القدرات الدفاعية (لأوكرانيا) وإضعاف العداء الروسي قدر الإمكان".

فجوة بين الأجيال

صاغ عالم الاجتماع والفيلسوف يورغن هابرماس الجدل الألماني حول صادرات الأسلحة باعتباره فجوة بين الأجيال يجري خلالها استخدام لغة "الثقة الشديدة بالنفس" و"صاخبة" في ظل صراع عسكري.

وأضاف أن جيل الشباب، الذي يمثله هابرماس بوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك (41 عاما)، "نشأ على إظهار الحساسية تجاه الأسئلة المعيارية" وتمكّن فقط من "رؤية الحرب من منظور النصر أو الهزيمة"، في حين أن جيله -هابرماس يبلغ من العمر 92 عاما- "يعلم أن الحرب ضد قوة نووية لا يمكن الفوز بها بالمعنى التقليدي للكلمة".

وقال إن "التركيز الواسع النطاق المؤيد للحوار وحفظ السلام في السياسة الألمانية" كان "قناعة عقلية مكتسبة بشق الأنفس"، نظرا لسجلها الحافل كدولة عسكرية عدوانية، وهي القيم التي تم استنكارها تاريخيا من اليمين، بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" (The Guardian) البريطانية.

وفي التقرير الذي كتبه المؤرخ البريطاني آدم توز، الأكاديمي بجامعة كولومبيا، لصحيفة "نيو ستايتس مان" (new states man)، اعتبر أن العدوان الروسي يطرح مثل هذه الأسئلة الجوهرية على ألمانيا، لأن "الأمة" في شكلها الحالي تدين بوجودها للنهاية السلمية للحرب الباردة التي مكّنت من إعادة توحيد البلاد المنقسمة.

وكان نجاح حقبة التوحيد، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثمرة سياسة عملت فيها التجارة والانفراج مع الاتحاد السوفياتي على سحب الستار الحديدي، إذ "كان الحفاظ على العلاقات الجيدة مع موسكو يعني دائما عقد اتفاق مع الشيطان"، وبحسب الكاتب، لا تعكس الصور النمطية المسبقة تعقيد السياسة الألمانية، الحقيقة هي أن مشكلة الموازنة بين روسيا وألمانيا مشكلة حقيقية، ولا أحد يجسد هذا التاريخ باستمرار أكثر من يورغن هابرماس.

الفيلسوف الألماني

منذ نصف قرن مضى، ظهر هابرماس باعتباره الوريث في ألمانيا الغربية لتوجهات النظرية النقدية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت، التي سميت باسم معهد البحوث الاجتماعية الذي تأسس في جامعة فرانكفورت عام 1929.

ومن جذوره الماركسية في حقبة ما بين الحربين، طرح هابرماس نظريته النقدية عن التواصل في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. كان انشغاله طوال حياته يتعلق بإمكانية العقل والتحرر المتأصل في اللغة والخطاب والمداولات. مدفوعا بالالتزام بالتقاليد التي يعود تتبعها إلى عصر التنوير، نأى بنفسه في الثمانينيات عن المفكرين الفرنسيين الراديكاليين مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا. في أواخر التسعينيات، أيد قصف حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) ليوغوسلافيا. كل ذلك أكسبه شهرة كمدافع عن "القوة الغربية".

ويقول الكاتب إن الاستنتاج الشائع بأن هابرماس هو شخصية "امتثالية" يعني إساءة فهم فلسفته وسياسته بشكل عميق، ولكن الأهم من ذلك كله دوره العام في ألمانيا الحديثة؛ فلمدة 70 عاما، كان قوة جدلية في الحياة العامة، تحدى روابط الفيلسوف الكبير مارتن هايدجر بالنازية، وفي السبعينيات صاغ نظرية معقدة لأزمة الشرعية، وفي الثمانينيات من القرن الماضي عارض إعادة التسلح النووي وشجب التحول القومي في التأريخ.

في لحظة الوحدة الوطنية في عام 1990، لم يطالب ببساطة بضم ألمانيا الشرقية بل باتفاقية دستورية، وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي كانت دعوته إلى أن يوافق الخضر على التدخل في يوغوسلافيا باسم مسؤولية الحماية أمرا مثيرا للجدل، وفي 2003 كون هابرماس جبهة مشتركة مع دريدا ضد الحرب في العراق، وبين عامي 2010 و2015، بعد أن انتقد منذ فترة طويلة إضفاء الطابع القضائي على السياسة الألمانية تحت سلطة المحكمة الدستورية القوية، شجب الانجراف التكنوقراطي لسياسة منطقة اليورو.

وفي عام 2022، يخشى هابرماس مرة أخرى عودة اليمين تحت عباءة الحماس للمقاومة الأوكرانية، وكتب مقالته الطويلة يوم 28 أبريل/نيسان الماضي متخوفا من ذلك، وقوبل بعاصفة من الرفض. هذه المرة يُتهم هابرماس بالدفاع عن تقليد قديم ومفتقد للمصداقية لسياسة ألمانيا الغربية، والتواطؤ مع بوتين، والتشبث بأفكار قديمة حول الحرب النووية في وقت تنتعش فيه قضية الأوكرانيين بين الأجيال الشابة من الألمان.

وما يعترض عليه هابرماس ليس الدعوات للقيام بالمزيد من أجل أوكرانيا، ولكن الطريقة التي يتم بها القيام بها، ما يقلقه هو "الثقة بالنفس التي يلاحق بها الساخطون أخلاقيا في ألمانيا حكومة اتحادية متحفظة"، فالثقفة بالنفس تخون نفسها والتصعيد مخاطره مروعة.

ويعتبر مؤيدو الفيلسوف الألماني أن الحماس لدعم أوكرانيا لم يقتصر على صقور اليمين، بل امتد للعديد من دعاة السلام السابقين في صفوف حزب الخضر، ويتخوف هابرماس من أن ما يتم التشكيك فيه هو التحول السلمي الألماني الذي لا ينبغي أبدا اعتباره أمرا مفروغا منه. لقد كان التحول صعبا، وكما يشير هابرماس، "تم التنديد به مرارا وتكرارا من قبل اليمين".

هذا الأسلوب في الجدل هو نموذجي لهابرماس. في الوقت الذي يقدم فيه نقدا سياسيا حادا، يقدم تحليلا للأسس الاجتماعية والسياسية التي تنبني عليها التوجهات، ويرى هابرماس أن الخلاف هو بين "عقليات معاصرة ولكنها تاريخيا غير متزامنة". فكما زعم النقاد وأقر هابرماس، فقد تأثر هو وجيله بسياسات العصر النووي وعواقبه، وفرض هذا نهاية للتاريخ العسكري بأي معنى تقليدي.

بالنسبة لهابرماس أوكرانيا في مرحلة بناء دولة قومية، وألمانيا تتجاوز ذلك بكثير. عند التحقق من ردود الأفعال العفوية المتمثلة في الحماس والتضامن مع أوكرانيا، ينصح الألمان بالنظر في هذه الفجوة وما تنطوي عليه، ويتساءل "أليس نوعا من خداع الذات الاعتماد على انتصار أوكراني على شكل الحرب القاتلة لروسيا دون أن تحمل السلاح بنفسك؟ الخطاب العدائي غير متسق مع المنصات التي يتم إطلاقه منها".

سراب ما بعد الحرب

ما يحذر هابرماس زملاءه الألمان منه هو السراب القائل إن هناك طريقا ما إلى المستقبل عن طريق أوكرانيا.

ويعتبر أن التحدي الذي يتعين مواجهته بشكل جماعي في أوروبا هو كيفية تقديم دعم حقيقي مع إدراك المسافة الفاصلة، فـ"أوكرانيا يجب ألا تخسر هذه الحرب"، ومع ذلك "يجب أن يستمر مشروعها لبناء دولة قومية"، والمهمة مختلفة بالنسبة لأوروبا نفسها، ما يجب أن يكشفه التناقض مع أوكرانيا ليس الافتقار إلى هوية وطنية بطولية مناسبة، ولكن الافتقار إلى القدرات ما بعد الوطنية على مستوى الاتحاد الأوروبي، بحسب تعبيره.

ويختم الكاتب آدم توز بالقول إن الولايات المتحدة تقدم عشرات المليارات لمساعدة أوكرانيا في قتالها، وقدرة السياسيين الأميركيين في الاتفاق على ذلك الدعم العسكري وليس على الرعاية الصحية أو سياسة تغير المناخ هي علامة على الخلل الوظيفي في أميركا، وما ستجلبه السياسة الأميركية في المستقبل القريب يسهل لأي شخص تخمينه، وقريبا قد تواجه أوروبا صداما مربكا للزمن التاريخي والسياسي ليس في أوروبا الشرقية، ولكن عبر ضفتي المحيط الأطلسي.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + نيو ستايتس مان