سلالة العجاج.. تدوين سيرة بدو "الجزيرة السورية" الشفهية

رغم نمط السيرة في "سلالة العجاج" إلا أنها تأخذ من الرواية حصتها لوجود الشخوص والمكان والعلاقات التي تتنامى في حياة الراوي، وهي أيضا لغة نصية مكثفة، ويبدو أن كاتب العجاج لا يتخلى عن اشتغاله الجريء على اللغة وفضاءاتها، متخذا من ذلك مقترحا يعطيه على الدوام شخصيته وخصوصيته في الكتابة من الشعر إلى السرد إلى النقد.

رواية الكاتب محمد المطرود ليست سيرة ولا رواية خالصة وإنما ثمرة تداخل في الأجناس الأدبية (الجزيرة)

صدر للشاعر والكاتب السوري محمد المطرود رواية "سلالة العجاج.. وسم البدو وأنا/النهايات والساعة الإضافية".

وتعد "سلالة العجاج" عملا أدبيا عن البدو بامتياز يتتبع غبار الأمكنة التي تشغلها جماعات بشرية لها علاقة بماضيها وحاضرها، وكذلك الحضارات المتعاقبة على بلاد توسطت نهرين، باعتبار أن المكان الذي تتصدى له هو "السيرة المقاربة" كما جاء في تجنيس العمل الذي لا يبدو سيرة خالصة ولا رواية خالصة ولا نصا مكثفا، بل حرث في المجموع واستفادة من تداخل الأجناس الأدبية للدخول على ثقافة منطقة ملتبسة وشفوية، لم تأخذ حقها من سردية الكتابة لا تأريخا ولا رواية.

يتتبع الشاعر والناقد السوري المقيم في ألمانيا، والحاصل على منحة هاينريش بول منذ 10 أعوام، استحقاق الخروج من منطقة مضطربة ومخيفة إلى منطقة الطمأنينة، وهو بذلك يطل على دائرته التي خرج منها، بتسميتها منطقة شفوية للحكي أكثر منها كتابية، وهو (المطرود) يتحمل جزءا من الخطأ الذي يود تصحيحه في مقاربة لن تلم بحيوات أناس لهم أساطيرهم وحكاياتهم بين المصدق واللامصدق، ولكنها محاولة ترفد محاولات سبقت كما في كتابه" آلام ذئب الجنوب".

ويبدو أن صاحب الذئب يريد بطريقة أو أخرى تقديم نفسه كناطق واع ومثقف باسم البدو وسيرتهم.

صورة محمد المطرود
الكاتب السوري المطرود صدرت له أعمال شعرية ونقدية وروائية (الجزيرة)

عن سلالة العجاج

تتفرع العتبة الدلالية من الغلاف الأول إلى عنوانين "سلالة العجاج" رئيسي، وفرعي "وسم البدو وأنا/النهايات والساعة الإضافية" وفيها يمكن أن نقول إن سيرتين تتوازيان في حياة السرد، الأولى لشخصية "هدار وسم البدو" والثانية ترف، وبينهما قصة عشق تنتهي بالقتل، وقصة الراوي الذي يختفي اسمه لصالح ضمير المتكلم (أنا).

وفي الخطين المتوازيين تتداخل قصص كثيرة واستحضار لروايات عاشها آخرون، ودخول على حيواتهم وسلوكياتهم في مستويين عام موضوعي وذاتي شخصي.

وكل ذلك يجري في بيئتين متناقضتين جغرافيا ونفسيا، إذ إن الأولى (مكان قصة العشق) تحفل بالغبار والشجيرات القصيرة ونمط المعيشة الخاص به، في المساحات الواقعة بين نهرين احتفيا بحضارات كثيرة ضاربة في عمق التاريخ، وفي نفس الحين تميل أكثر باتجاه الجنوب شمال شرق سوريا، وأقرب إلى ما يشبه الصحراء، ولعلها مكان مثالي لترعرع حكاية بدوية.

بينما يأتي الخط الثاني كسيرة السارد الروائي نفسه، والذي تأتي ولادته في فترة عاصفة بحياة العائلة، فمن الأب الذي تعتقله المخابرات العراقية بالتواطؤ مع المكتب الثاني في سوريا، إلى الأم التي تفقد حياتها قبل أن تتم الثلاثين من عمرها، ليترك هذا اليتيم لبيت الخؤولة الكبير والفقر والمرض النفسي، وتبدأ رحلة المشقة ابتداء من حكاية هدار وسم البدو.

وبذلك يصبح هدار رائيا لسيرتين تتبارزان في لعبة الاختباء والظهور، وإذا كانت الأولى قصة ظاهرة لها شخصياتها وتقترب من الواقع كثيرا فالأخرى هي السارد الواعي لما يحدث، ممسكا بتفاصيل حياته بمقاربات كثيرة غنية بالمجازات، وتشتغل في مناطق عدة من البيئة الأولى التي تجمعه بسيرة العشق والقتل إلى سيرة التنقلات والشتات (الدياسبورا) التي مر بها السوريون وهم يعبرون إلى ثورتهم في تحول تاريخي وصادم، قوبل بأعتى قوة استبدادية.

اللغة النصية المكثفة

في سلالة العجاج نحن مأخوذون بما وراء مظهر السرد إلى استبطان الآمال والآلام الخبيئة تحت كثافة اللغة التي تستبطن أكثر مما تظهر، وترفض الخروج من كيد النص عارية تماما لا تملك سوى قدر المعنى الأحادي المحتوم أمام قارئها، بل تحرض في القارئ فضول البحث عن تلك القصة والغصة تحت الشوك المترامي في برية نصه الماتع.

رغم نمط السيرة فيها إلا أن "سلالة العجاج" تأخذ من الرواية حصتها لوجود الشخوص والمكان والعلاقات التي تتنامى في حياة الراوي، وهي أيضا لغة نصية مكثفة، ويبدو أن كاتب العجاج وسيرة البدو لا يتخلى عن اشتغاله الجريء على اللغة وفضاءاتها، متخذا من ذلك مقترحا يعطيه على الدوام شخصيته وخصوصيته في الكتابة من الشعر إلى السرد إلى النقد.

الكاتب يترك المتلقي لخيارات عديدة في التأويل وملاحقة العلامات، ومع حضور سيرتين بأحداث ولغة عالية، فالباب مفتوح لأكثر من قراءة اختلافا واتفاقا، على ألا يغفل أن هذا المقترح يسعى وبقوة ومشروعية ليكون ديوانا بدويا بأدوات مدنية، ويكون في ذات المنحى صورة مدنية للبدو الذين يعون حالهم، ويخرجون من بيت الشعر بكل ما فيه من أصالة إلى خيمة أوسع سقفها السماء والكفاءة.

قصتان تتفرع منهما قصص شتى

الكاتب رائد وحش قال للجزيرة نت "يدخلنا كاتب (سلالة العجاج) منذ صفحاته الأولى إلى عالم بدوي مصنوع من رثاء وثأر، من أمل وانكسار، من شعر وأمثال وملاحم، من شجاعات وخيانات.. ليورطنا في قصتين كبيرتين، تتفرع عنهما قصص شتى" معتبرا الأولى قصة حب أسطورية، والثانية قصة حياة حالمة لشخص يبحث عن معناه في هذا العالم.

صورة رائد وحش
الكاتب رائد وحش اعتبر "سيرة العجاج" دخولا إلى عالم بدوي مصنوع من رثاء وثأر (الجزيرة)

وأضاف وحش "لم يكن ذلك عبثا، فالمطرود أراد أن يقول لنا إن الحياة الصغيرة التي يرويها ليست سوى عشبة نمت على ضفة نهر هادر بالذاكرة الملحمية. ولأنها كذلك سيغدو العادي سحريا فيها، لأن الزمن مرايا للبدايات، وللمصائر أيضا".

سيرة الكاتب والمكان

الشاعر والناقد خضر الأغا قال للجزيرة نت "المطرود في كتابه هذا بدا وكأنه ينفذ مهمة جليلة، بالغة الصعوبة من جانب، وبالغة الضرورة من جانب آخر، وهي تدوين الشفوي".

وأضاف أن الجزيرة السورية منطقة فريدة في سوريا، وربما في العالم، إذ تعيش فيها إثنيات متعددة وعريقة: عرب، آشوريون، كلدان، وأكراد… وغيرهم، وأديان ومذاهب وعقائد، وهذا ما منح لشفويتها بعدا خياليا، أسطوريا.

ويقصد في الجزيرة السورية هنا مناطق شمال شرق سوريا.

صورة خضر الآغا
الناقد خضر الآغا اعتبر مهمة "سيرة العجاج" تدوينا للثقافة الشفهية للجزيرة السورية (الجزيرة)

ويتابع الأغا "بحث المطرود أدبيا في هذا المكان الحذر، فظهر وكأن ثمة تواطؤا بين المجازي والشعري، الواقعي والخيالي في خلطة خاصة بدت أنها نوع من السيرة: سيرة الكاتب، وسيرة المكان وسيرة ناسه، وكذلك سيرة الخرافة وسيرة الخيال الشعبي وسيرة التاريخ، مضافا إلى ذلك كله: خيال الكاتب".

وأردف "المطرود جعل من قصص موغلة في التاريخ تبدو وكأنها لم تزل تعيش هناك كجار تاريخي للحاضر، ساعده على ذلك شكل الكتابة الذي اختاره، وهو ما يمكن تسميته: الشكل الكثيف، السيرة وأشياء أخرى".

الحقيقة عارية وغير مجزأة

الناقد أديب حسن محمد قال للجزيرة نت "المطرود في سلالة العجاج يستعير نفسه كدأبه في كتاباته السالفة، يريد الحقيقة عارية كاملة وغير مجزأة أو مختفية وراء أكمة يكرهها، والمفارقة الغريبة هنا أن لغة المطرود في نثره وشعره غير عارية وليست كتلة واضحة واحدة وتأخذ قارئها وراء العديد من الأكمات، ليكتشف لذة ومشقة التنقيب في جماليات السرد وما ورائيات المعاني".

وكما قالت العجوز البدوية في الرواية عندما سئلت عن حكاية "تحت كل شوكة في البرية قصة وغصة لو أردت أن تقول شيئا احفر وانظر" وأضاف محمد "وكأن الراوي هنا يفعل بنصيحة العجوز يذهب إلى الحفر في تلك الأماكن التي بقيت مغلقة على نفسها وعلى المنقبين، إما لحذر شديد من أهله، أو لتوجس من هؤلاء الذين يخشون الاقتراب، وكأن المطرود كابن ذي حصة من تراب المكان وحكايته، يخول لنفسه الحديث عنه".

"سلالة العجاج" بعنوانها الرئيسي، وعنوانها الفرعي "وسم البدو وأنا/النهايات والساعة الإضافية" هي مقترح سردي، جريء في حقل الكتابة وفي حقل المجتمع البدوي الذي لمحافظته على ذاته يبقى مغلقا على قصصه، ولعل هذه الكتابة محاولة لفتح الباب على عالم واسع ولو بشكل موارب ومخاتل.

المطرود شاعر وناقد سوري، مقيم في ألمانيا، ولد بالقامشلي عام 1970 ونال إجازة في التربية، وكتب في الصحافة الثقافية العربية، ولديه 5 أعمال شعرية: ثمار العاصفة، سيرة بئر، ما يقوله الولد الهاذي، اسمه أحمد وظله النار، أسفل ومنتصف الحياة، وذلك بالشراكة مع أديب حسن محمد.

وله كتابات نقدية وروايات منها "الحساسية الجديدة في الشعر السوري، آلام ذئب الجنوب".

المصدر : الجزيرة