ديناميكية الانبهار والكراهية.. صورة الغجر في الثقافة الأوروبية

ypsies on the road with horses and trailers, near Curtea de Arges in Romania, Europe - stock photo Photograph of three gipsy (Romani) horsedriven carts (with roof) on a countryside road near Curtea de Arges in Central Romania, Eastern Europe. This image was taken in Romania in autumn 2011 during a journey by bicycle across Europe, Middle-East and Asia.
غجر متجولون على الطريق بالخيول والمقطورات في منطقة ريفية بوسط رومانيا (غيتي)

مع اشتداد وطأة الحرب الروسية على أوكرانيا واضطرار مئات آلاف الأوكرانيين للهرب من بلادهم وجد كثير منهم الترحيب الحار في البلدان الأوروبية التي استضافتهم، لكن بين هؤلاء كان نساء وأطفال الغجر الأوكرانيين يعانون التمييز ويكافحون للعثور على من يقبل إيواءهم، حسبما رصدت منظمات حقوقية وتقارير إعلامية تناولت التمييز ضد المجموعة السكانية التي كان يبلغ عدد سكانها في أوكرانيا 400 ألف، حسب تقديرات أوكرانية رسمية (وقد يكون الرقم الفعلي أكبر من ذلك).

وأعاد ذلك التمييز قضية الغجر لواجهة الأحداث، ولفهم حالات الكراهية العنصرية ضد الغجر، يجب دراسة التاريخ الأطول لشعب "الروما" المتجول في الثقافة الأوروبية، الذين انتشروا في العصر الحديث في جميع أنحاء العالم، وبشكل أساسي في أوروبا.

يتحدث الغجر اللغة الرومنية التي تحولت لما يشبه اللغات أو أشكال متباعدة من الألسنة تسمى "المتنوعات"، ويخطئ كثير من الأوروبيين بالاعتقاد أن أصولهم تعود لشعب مصري قديم، ولطالما دحض البحث التاريخي هذا الاعتقاد؛ إذ يمكن إرجاع أصول شعب الروما والسنتي (الغجر) إلى شمال الهند وبالتحديد إلى منطقة البنجاب، ولا تزال لغة ذلك الشعب ترتبط باللغات "الهندية الأوروبية" الحديثة في شمال الهند.

هجرات قديمة متكررة

من المتفق عليه عموما أن مجموعات الغجر غادرت الهند في هجرات متكررة وأنهم كانوا في بلاد فارس بحلول القرن الحادي عشر، وفي جنوب شرقي أوروبا في بداية القرن الرابع عشر، وفي أوروبا الغربية بحلول القرن الخامس عشر. بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، انتشروا في كل القارات المأهولة بالسكان، حسب جيسون داوسي الباحث والمؤرخ في معهد دراسة الحرب والديمقراطية.

زعم العالم السياسي (الألماني الأميركي) غونتر ليوي أن الأدلة على وجود الغجر في اليونان تعود إلى القرن الرابع عشر، خلال الفترة البيزنطية المتأخرة؛ إذ توجد سجلات تظهر وصولهم إلى أوروبا الوسطى آنذاك، واستخدمت لتصنيفهم كلمات في اللغات اليونانية والألمانية والإيطالية والفرنسية توحي بوضعهم المنبوذ ضمن التسلسل الهرمي الاجتماعي القاسي في المجتمعات التي عاشوا فيها.

ولتحديد السبب وراء ذلك التمييز بحقهم، يرى داوسي في مقاله بموقع المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية الأميركي، أن العامل الرئيسي في تشكيل مواقف الأوروبيين تجاههم هو أسلوب الحياة المتجول الذي تمارسه العديد من عائلات الروما/الغجر خلال تلك الأوقات؛ إذ انتقلوا من مكان إلى آخر، مما ولد هالة من الغموض والشك بشأنهم. تشكلت الصور النمطية السلبية بالفعل في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، وعدّ "الغجر" قذرين ومخادعين وكسولين عن العمل وميالين للسرقة، وكان أبشع اتهام لهم هو أنهم يخطفون الشبان.

من الواضح أن العديد من هذه الصور النمطية مستمدة من صورة بدو الغجر، الذين يفضلون البقاء معا في قوافلهم الشهيرة، ومال الأوروبيون لربطهم بالمتشردين، علاوة على ذلك، بملابسهم ولغتهم المميزة فإن ثقافتهم -حتى لو اعتنقوا المسيحية- غالبا ما يتم التحقير منها على أنها شيء غريب وغير مرغوب فيه.

ولعبت العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورا رئيسيا أيضا، واشتهر الغجر لقرون بمهارتهم كعمال معادن وصنع السلال، وغالبا ما استاءت النقابات المحلية من هذا النوع من المنافسة من خارج رتبها وتشكيلاتها المهنية. ربما تكون الإجراءات الاقتصادية من قبل هذه النقابات قد دفعت رجال ونساء الروما للانخراط في ممارسة جرائم صغيرة، مثل السرقة، للتمكن من كسب العيش، كما أن استعداد الغجر للانخراط في ممارسات الكهانة لكسب المال أدى إلى المزيد من العداء بحقهم.

وأدى الصراع الديني داخل أوروبا (الإصلاح البروتستانتي) والحروب العثمانية الأوروبية إلى تفاقم العداء؛ ففي عام 1498، أمر الإمبراطور الروماني المقدس ماكسيميليان الأول بطرد الغجر، متهما إياهم بدعم الأتراك (تحول بعض الغجر إلى الإسلام في المناطق الخاضعة للسيطرة العثمانية). ومع ذلك، لم يتم تنفيذ الأمر بصرامة، وبين عامي 1551 و1774، أصدر حكام الأراضي الألمانية أكثر من 130 قانونا ضد الغجر.

عمل انتشار أفكار التنوير المتعلقة بـ"حقوق الإنسان" وتأثير الثورة الفرنسية الكبرى على تقليل العداء القديم ضد الغجر، ومع ذلك لم يكن الأسوأ قد أتى بعد، وعانى الغجر كثيرا -لا سيما شرقي أوروبا- وفي القرن التاسع عشر تم استعبادهم في أجزاء من إمبراطورية هابسبورغ النمساوية (ألغيت العبودية هناك خلال ثورات ربيع الشعوب الأوروبية عام 1848) وتم استعبادهم كذلك في والاشيا ومولدافيا (رومانيا الحالية).

الفن الأوروبي المتأثر بالغجر

ومع ذلك، يمكن للمتابع لسيرة الغجر أن يميز في تلك الحقبة انبهارا جديدا بثقافة الروما في الوقت نفسه، نتيجة لتألق موسيقى الروما والرقص المميز لهم، ونشر الملحن المجري فرانز ليزت كتابا شديد التأثير عن موسيقاهم عام 1859. في النمسا، استخدم الموسيقي الألماني الكبير يوهانس برامز ألحان الروما في أعماله "الرقصات المجرية" (1869-1880)، ولكن ثمة أسباب أعمق من مجرد تقدير الفن العظيم وراء هذا الانبهار بالثقافة الغجرية.

مع انتشار الرأسمالية الصناعية من المملكة المتحدة إلى أماكن أخرى في أوروبا، ظهرت المصانع والعمل الآلي والانضباط الزمني وأيام العمل الطويلة للغاية في جميع أنحاء العالم، وسرعان ما جذبت حياة الروما -التي اتسمت بالحركة العشوائية والمضطربة- كثيرين من الذين شعروا بالاغتراب بسبب صرامة وقسوة هذا النظام الرأسمالي الجديد.

رأى العديد من الفنانين والمفكرين الأوروبيين -ولاحقا في أميركا الشمالية- ثقافة الروما على أنها ذات روح حرة وأقرب إلى الطبيعة ومثالية لوجودها المتجول والمتحرك بشكل مستمر، كان هذا بمنزلة إسقاط لسخطهم أكثر من كونه جهدا جادا لفهم ثقافة على هوامش النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد.

اختلط الانجذاب للروما بالشكوك القديمة والعداء بطرق مثيرة، ويمكن ملاحظة ذلك في مثال شهير هو أوبرا جورج بيزيه المسرحية الشهيرة، كارمن، التي عرضت لأول مرة في باريس عام 1875، وتحكي قصة الجندي الإسباني دون خوسيه، الذي يقع في حب راقصة الروما المبهرة كارمن.

في النهاية، تخلى خوسيه عن حبيبته منذ الطفولة، ومع ذلك، تمنح كارمن حبها لشخص آخر، وهو إسكاميلو، وفي حالة من الغضب، قتلها دون خوسيه، ويعبّر هذا المزج بين الجاذبية والخداع المتجسد في كارمن -الذي ملأ الحفلات الموسيقية ودور السينما- عن الموقف المتناقض من الغجر.

يقول المفكر الاجتماعي الماركسي ثيودور أدورنو، إن أجزاء من الأوبرا تعبّر عن "حسد للحياة الملونة وغير المقيدة لأولئك الذين تم طردهم من عالم العمل البرجوازي، والمحكوم عليهم بالجوع ولبس الخرق، بينما يتشبه بأنهم يمتلكون كل السعادة التي يتمتع بها العالم البرجوازي الذي ينكر نفسه بعقلانيته غير العقلانية ". ومع ذلك، فإن الاستياء القديم تجاه الغجر وانعدام الثقة بهم يوجد في كارمن بلا شك.

في الفترة التي أعقبت ولادة الدول القومية الحديثة، لم تكن لدى أفراد ومجموعات الغجر الخصائص التي أرادت معظم الدول الغربية الحديثة الولادة تصويرها كعناصر أساسية لهويتهم الوطنية. نتيجة لذلك، أصبح الغجر يعدون في أحسن الأحوال ضمن منكري الحضارة الحديثة وفي أسوأ الأحوال طفيليات اجتماعية كسولة وقذرة، حسب الكاتب.

ودخلت ديناميكية الانبهار والكراهية، التي لا تزال جديدة نسبيا في التاريخ الأوروبي، مرحلة جديدة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر مع ظهور نظرية العرق. وكانت محاولة المفكرين العرقيين -مثل آرثر دي جوبينو وهيوستن ستيوارت تشامبرلين- لتقسيم البشر إلى أعراق مميزة ضمن أطر التفوق والدونية، والجهود المبذولة لشرح الثقافة والسلوك من خلال اللجوء إلى علم الأحياء، والخوف من "الاختلاط العرقي" أمرا رهيبا من حيث عواقبه على مجتمعات الروما.

اضطهاد القرن العشرين

وشكل ظهور نظرية العرق تحديا أساسيا للغجر الأوروبيين، بالإضافة إلى العديد من المجموعات الأخرى. حاولت الحكومات في وسط أوروبا تعريف "الغجر" على أنهم "عرق"، مجموعة محددة بخصائص بيولوجية مشتركة.

فيما يبدو وكأنه قصة مألوفة لدى المؤرخين، كانت الهجرة هي التي ولدت رد الفعل ضدهم، لا سيما في مملكة بافاريا، وعندما تولى هتلر والنازيون السلطة في ألمانيا عام 1933، لم يكن عليهم صياغة سياسة جديدة تجاه الغجر.

بدلا من ذلك، استفادوا من مجموعة واسعة من الخبرة والوثائق والتشريعات؛ إذ احتل الغجر مكانة متدنية في الترتيب العرقي للنازية التي نظرت إليهم كشعب غير آري واتهموا بجريمة الانغلاق على أنفسهم في قانون 1937 وأنشأت السلطات النازية مكتبا لمكافحة خطر الغجر الذي حبس الكثير منهم في معسكرات اعتقال وسخرة وقتل عشرات أو مئات الآلاف منهم، فيما يشبه الإبادة الجماعية الممنهجة في زمن الحرب العالمية الثانية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية