فيلم "مدينة الرب".. كاميرا برازيلية لإنقاذ الإنسانية

بين الصراعات الدموية لعصابات المراهقين و الأطفال وفساد الشرطة، تشاء الصدفة أن تكون كاميرا في يد صحفي هي مفتاح الحقيقة، ووسيلة الخلاص الفردي لشخص رفض الإنخراط في دائرة الجهل والانحراف الجهنمية

صور من فيلم " مدينة الرب" انتاج برازيلي 2002،
لقطة من فيلم "مدينة الرب" (مواقع التواصل)

حين يقترب الخيال الإبداعي من الصدق التام مع الواقع، يصبح الفيلم مجازا يتجاوز واقعه المحدود إلى معنى أكثر عمومية، وهو ما حدث مع فيلم "مدينة الرب"، إذ تحول إلى صورة لكوكب الأرض نفسه.

وتدور أحداث الفيلم في حي عشوائي يعد بؤرة للإجرام وموطنا لتجارة المخدرات ومدرسة لتعليم وتخريج أجيال من المجرمين. كانت اللغة الوحيدة المعتمدة في مدينة الرب هي الرصاص، أما الموت فهو إجراء يومي والفقر سمة أصيلة، ورغم كل ذلك فالدين جزء أصيل من حياة الجميع حتى أن بعضهم يصلي قبل أن يقتل.

يصور الفيلم هؤلاء الذين تم عزلهم وإبعادهم مكانا ومكانة عن العاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو، بسبب فقرهم ودون نوايا حقيقية لرعايتهم من قبل الحكومة، فبقي الحي كله في رعاية الرب، لهذا جاء الاسم الذي أطلق على الحي.

عبر أحداث دموية، رسمت بدقة وحرفية عالية، جاءت الصورة الكلية لتعبر عن عالم كامل دستوره الوحيد الافتتان بلغة القوة والرفض لقبول الحقيقة والتواطؤ المتفق عليه لدحر الإنسانية.

كانت الطبقة السياسية والعسكرية في البرازيل مشغولة بصراعها على الحكم بدءا من استقالة الرئيس جانيو كوارديوس عام 1961، ثم اضطرابات حتى عام 1963، وتولي الرئيس جواو جاغولار السلطة بشكل ديمقراطي، وأخيرا الانقلاب العسكري الذي قضى على الديمقراطية الوليدة عام 1964.

رواية الناجي الوحيد

الفيلم مأخوذ عن رواية كتبها الناجي الوحيد من حرب طاحنة بين عصابات السرقة والمخدرات في "مدينة الرب"، وهو الكاتب البرازيلي باولو لينز وصدرت عام 1997 وهي سيرة ذاتية لحياة عاشها في ستينيات القرن الماضي بالحي المعروف بـ"مدينة الرب"، ليقرر المخرج فرناندو ميريلوس تحويلها إلى فيلم اعتبر مفاجأة للسينما العالمية، وإحدى الهدايا القليلة التي أهداها الفن البرازيلي للعالم، وحصل الفيلم على 56 جائزة في مهرجانات العالم المختلفة كما رشح لـ4 جوائز أوسكار.

بين الصراعات الدموية لعصابات المراهقين والأطفال وفساد الشرطة، تشاء الصدفة أن تكون كاميرا في يد صحفي هي مفتاح الحقيقة، ووسيلة الخلاص الفردي لشخص رفض الانخراط في دائرة الجهل والانحراف الجهنمية، تلك الكاميرا التي يتسع مدلولها من التقاط الصور إلى التقاط أطراف الحقيقة وجمع تفاصيل الصورة الكبرى للوصول إلى الحقائق على الأرض.

كانت الاختيارات المتاحة أمام الصبي "روكيت" والذي قام بدوره -ألكسندر رودريغيز- تتلخص في الانضمام لإحدى العصابات أو التحول إلى دجاجة تنتظر الذبح، ليتناولها أفراد العصابة، لكنه -رغم المعوقات الهائلة- اختار مصيره، بينما تحول آخر كان قد خرج من دائرة الشر إليها، ليضعنا العمل أمام تنوع في المصائر نتج عن واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي لا يعنيه من البشر إلا ما يمكن أن يتحول إلى أموال.

السرقة الأولى

جاءت السرقة الأولى في الفيلم من مراهقين يطمعون في المال، ويوزعون الغاز المنزلي على سكان المدينة بعد سرقته، وجاءت السرقة الثانية لتقدم نبوءة عن صعود مجرم سادي متعطش للدماء، ليسيطر بعدها على تجارة المخدرات، بينما يرسم سيناريو الأحداث، الذي اتسم بدقة هندسية وبساطة، خطة أخرى لولد يحب التصوير، وهو نفسه الراوي الذي يحكي قصة نجاته.

ما لم يقله السارد قاله المخرج، إذا قدمت الصورة بيوتا تشبه الزنازين في ضيقها بينما تحيطها مساحات هائلة من الأرض الفارغة، كما قدم بؤسا لا حدود له في الملبس، وهي إشارة واضحة إلى انحسار الاختيارات لدى أبناء "مدينة الرب" بين الانضمام للعصابات أو الموت.

استطاع المخرج ضبط إيقاع المونتاج الذي تطلب سرعة شديدة للقطات في المعارك والمطاردات، ولكنه جاء أكثر هدوءا في المشاهد الحوارية القليلة.

لم يكن الصبي الراوي "روكيت" مثاليا تماما، إذ دفعه الفقر للتفكير في سرقة ثمن الكاميرا التي يحلم بها لكن من أراد أن يسرقهم كانوا "أناسا لطفاء" إلى الدرجة التي جعلته لا يقوى على سرقتهم. لم يكن الدافع هنا أخلاقيا عقليا بقدر ما كان عاطفيا وطفوليا إلى حد كبير.

النجاة

قدم الفيلم نماذج اختار كل منها مصيره، لكن النجاة من "مدينة الرب" لم تكتب إلا لواحد فقط، فها هو "ناد القوي" -الممثل سو جورجي- الذي اختار أن يعمل "كُمساري" يضطر إلى الانضمام للعصابات نظرا للمهانة التي تعرض لها وأيضا بعد مقتل شقيقه وخاله من قبل "ليل زي" المجرم السادي وزعيم العصابة الأخطر في المدينة.

أما "بيني" صديق "ليل زي" الوحيد وزميله في العصابة فيقرر أن يهجر حياة الإجرام، لكنه يُقتل خطأ في صياغة قاسية لفكرة "العدالة الشاعرية"، فقد تورط في الدم وعليه أن يدفع الثمن، ولعل مقتل "بيني" كان من أكثر المواقف الدرامية صعوبة، خاصة أن المخرج قدمه كنموذج عكسي لصديقة العنيف، وبالتالي وصلت علاقة المشاهد به حد التورط العاطفي.

بدأ المخرج فيلمه بمشهد اقتطع من الثلث الأخير للفيلم، حيث تتم مطاردة دجاجة من قبل عصابة "ليل زي" إلى أن يستقر بها المقام قرب أقدام "روكيت" الذي يحمل الكاميرا استعدادا للتصوير، لكن الكادر يتسع ونرى "روكيت" و"الدجاجة" يقفان بين عصابتين على وشك البدء في معركة دموية لحسم السيطرة، وهو ما يعني أن إطلاق الرصاص من أي طرف سوف يضمن القضاء على "روكيت" أو الدجاجة، كأنها إشارة إلى كون روكيت دجاجة تنتظر الذبح ولا منقذ لها سوى يد "الرب" وهو ما حدث.

يستعرض المخرج بعد ذلك بتتابع زمني مجتمع مدينة الرب بشرطتها الفاسدة القاتلة والمرتشية، والآباء الذين يحاول بعضهم البعد عن العنف والتمرد لحماية أبنائهم، والنساء اللاتي يشاء قدرهن في مدينة الرب أن يصبحن يتيمات أو قتيلات أو ثكالى أو باكيات على حبيب امتصت رمال الشوارع دمه، وبين أطفال يتعلمون مقررات الإجرام في مدرسة الشوارع ويتنافسون في تشكيل عصابات جديدة.

رغم الدماء وبؤس الواقع في العمل فإن كوميديا خفيفة خففت من وطأة البؤس الذي طبع العمل، خاصة حين يبدأ "بيني" -قام بدوره فيليب هاجينسون- المتطلع طبقيا في التعرف على ملابس الطبقة الأرقى من صديقه البرجوازي المدمن.

كان "ليل زي" -الذي قام بدوره الممثل ليناردو فيرمينجو- يحاول في طفولته التعامل بندية مع زملائه المراهقين بينما يمارسون التنمر عليه، وأخيرا في المشاهد القليلة للشرطة والتي أظهر السيناريو بساطة قدرات أفرادها وفسادهم وإيقاع حركتهم داخل الكادر والذي يشبه حركة الضباع حين تسعى لسرقة فريسة اصطادها حيوان آخر ويستعد لافتراسها.

ممثلون فقراء

قدم صناع العمل نموذجا شديد التطابق مع معظم عواصم العالم التي جاورتها أحياء تركت بلا رعاية ولا رقابة حقيقية، لتصبح صورة مثالية للعشوائية والفساد ومصدرا رئيسيا للمخدرات لاستهلاك سكان العاصمة.

واستعان المخرج بسكان الحي للتمثيل في العمل، ورغم النجاح غير المتوقع، لم ينجح سوى اثنين من الممثلين فقط في استكمال الطريق في عالم السينما، بينما بقي الآخرون يصارعون الفقر والجهل والإجرام في مدينة "الرب" حتى أن أحدهم قبض عليه وسجن بتهمة سرقة حقيبة امرأة.

إنها المفارقة نفسها تعود إلى واقع الحياة بعد أن خلفت على الشاشة صورة بائسة مصحوبة بمتعة الفن وبهجة السينما، لقد حصل الأبطال على أقل من 4 آلاف دولار، أما باقي الممثلين فقد حصل أعلاهم أجرا على أقل من ألف دولار، لتستمر مدينة الرب في البرازيل وفي الأرض كما لو كانت مرآة لواقع عصي على التغيير.

المصدر : الجزيرة