هل يحمل مهرجان كان السينمائي هذا العام مزايدة سياسية؟

الأغلبية الساحقة تؤيد مقاطعة روسيا التي ارتكبت مجازر مجحفة أثناء الشهور الماضية بينما عدد قليل يحاول إعادة عرض الفرضية بتساؤل استنكاري عن الاهتمام الشديد الذي ظهر في مقابل تجاهل سابق لأوضاع أخرى ربما تكون مشابهة سواء في الداخل الأوربي أو خارجه، ويراها ربما مزايدة سياسية.

مؤتمر صحفي لأحد الأفلام المشاركة في الدورة الحالية (الفرنسية)

ثمة تصور يمكن استشفافه من مجرد النظر إلى الملصق الدعائي الرسمي المصاحب للدورة الـ75 لمهرجان كان السينمائي، التي تنطلق فاعلياته هذا الأسبوع لرجل ينظر إلى الأمام، وهو يصعد بعض درجات السلم مع خلفية لألوان زاهية تُشعر الناظر إليها بحياة أكثر رحابة بعد 10 أشهر فقط كانت تفصل بداية هذا الموسم عن دورته السابقة التي لم يكن يعوّل عليها كثيرا، ومخاوف انتهت تقريبا من صعود اليمين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي انتهت قبل قليل.

التصور ذاته أكّده المؤتمر الصحفي العام للمهرجان عندما قال المندوب العام تييري فريمو إن دورة هذا العام "لن تكون مجرد شاشة كبيرة لعرض الأفلام فقط، بل محاولة دؤوبة للحفاظ على ذاكرة السينما والعالم، ستهتم بحاضر المهرجان ومستقبله ليس ماضيه"؛ في إشارة واضحة للنظرة التي يريد المهرجان إيصالها بتخليصه من النوستالجيا الخاصة والعامة، وربما نسيان عامي كورونا ثقيلي الأثر مقابل تذكر فداحة الحرب الروسية على أوكرانيا.

وبالأساس كانت الدورة الأولى للمهرجان -الأكثر عالمية بين مختلف المهرجانات- تحمل في قلبها طابعا سياسيا يبدو أنه مستمر إلى الآن بالرغم من ادعاءات البعض أنه انتهى، حينما تم تأجيل دورته الأولى بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، بل إن المهرجان وُلد أساسا بعدِّه ردّة فعل من قِبل الفرنسيين لمواجهة مخاطر ما كان يجري داخل مدينة برلين وروما آنذاك.

ولا ينسى الجميع تعمّد ألمانيا أدولف هتلر وإيطاليا بينيتو موسوليني إعطاء اهتمام شديد للسينما، والاعتماد عليها كأداة للدعاية السياسية وعرض الأفكار المراد تمريرها، وإعطائها شرعية جماهيرية مهما كانت راديكاليتها، فقدما إليها كل ما يريد صناعها من إمكانيات، وخرج المهرجان الفرنسي كنموذج للغيرة من ذلك الواقع السياسي المسيطر.

وتوقّف المهرجان عن الانعقاد 3 مرّات، إحداها بين عامي 1948 و1950 بسبب مشاكل في الميزانية ثم في عام 1968 بسبب اندلاع ثورة الطلبة والشباب في ما عُرف بربيع باريس.

واستقالت حينها النجمة الإيطالية مونيكا فيتي من لجنة التحكيم، وتبعها في ذلك محكّمون آخرون، واقتحم عدد من السينمائيين قاعة قصر المهرجان، ومن بينهم، لوي مال، وفرانسوا تروفو، وكلود بيري، وجان غابرييل ألبيكوكو، وكلود ليلوش، ورومان بولانسكي، وجان لوك غودار، وطالبوا بوقف العروض تضامنا مع العمال والطلبة المضربين، فتوقف المهرجان ولم تُمنح فيه أي جوائز.

وأخيرا، عندما أُلغيت الدورة الـ73 المقررة في مايو/أيار 2020، بسبب جائحة كورونا، فيما عقدت دورة العام الماضي بشكل استثنائي من السادس من يوليو/تموز إلى 17 من الشهر نفسه 2021، على ما يبدو كانت أسباب سياسية سواء مباشرة أو غير مباشرة.

والآن، بعد حرب لا تزال مستمرة؛ أعلن المهرجان مقاطعة كاملة للدولة الروسية وما في قلبها من فنانين وصنّاع، كما رفض إعطاء أي طلبات اعتماد صحفي إلى أي صحفي روسي داخل الصحف القومية، وهي مقاطعات زادت حدتها حينما منع صحفي روسي يعمل بمكان عالمي من الحصول على تصريح أنه على ذمة صحيفة روسية إلى جانب وكالته كردّة فعل "للهمجية الروسية التي حدثت في أوكرانيا".

مواجهات سينمائية

ولدينا ما يقرب من 22 فيلما في البرنامج الرسمي للمهرجان تتنافس على السعفة الذهبية وجوائز المهرجان الأخرى، وعدد كبير من المخرجين المخضرمين الذين نالوا سعفة ذهبية أو أكثر، سيتواجهون مع مخرجين شباب حققوا إنجازات كبيرة في السنوات الأخيرة، ونالوا خلالها جوائز عديدة وأفلام ينتظرها أغلب عشاق السينما، كما نشاهد في عدد كبير من تلك الأفلام حضور سياسي لافت.

وينتظر عدد كبير من الجمهور أعمالا مثل فيلم "وسط" الياباني للمخرج هيروكازو كوري إيدا الذي فاز من قبل عن "سارقو المتاجر"، كما ينتظر الجميع فيلم "مثلث الحزن" للمخرج روبن أوستولوند، صانع فيلم "المربع" الذي حصد جوائز عديدة وقت عرضه، إلى جانب فيلم المخرج العالمي جيمس جراي "زمن القيامة" الذي رغب أكبر عدد من المتابعين في مشاهدته.

حضور عربي

أيضا لدينا حضور عربي لافت برصيد 6 أفلام من بينهم فيلم المخرج علي عباسي الذي يشارك البلجيكي لوكاس دونت في المسابقة الرسمية بفيلمهما "عنكبوت مقدس" حول قصة متطرف ديني يسعى إلى تطهير مكانه من المومسات، إلى جانب فيلم "صبي من الجنة" للمصري السويدي طارق صالح الذي يرجح أن يثير جدلا دينيا وسياسيا، والذي تناول قبل ذلك "حادث النيل هيلتون"، ومنع عرضه في مصر، كما مُنع "صبي من الجنة" إلى جانب الفيلم الإيراني "أشقاء ليلى" للمخرج علي روستائي، وثمة رسائل سياسية في أغلب هذه الأفلام.

استثناء روسي

وإن النقطة الأكثر لفتا للأنظار كانت في منافسة المخرج الروسي كيريل سيريبرينكوف بفيلمه "زوجة تشايكوفيسكي" الذي يروي سيرة الموسيقار الشهير، إذ تصدّر هذا الفيلم ومخرجه القصة فقط لأنه مُنع من السفر في الأعوام الثلاثة الماضية؛ حتى إنه عرض له فيلمان "صيف" و"حمى بيتروف" من دون حضوره، وذلك في أثناء وضعه تحت الإقامة الجبرية لمعارضته النظام الروسي.

وكما يقدم المخرج السياسي سيرجي لوزنيستا المعروف بأفلامه المناهضة للتدخل الروسي فيلم "التاريخ الطبيعي للدمار" إلى جانب فيلم "ماريبوليس 2" الذي قتلت القوات الروسية قبل شهور مخرجه مانتاس كفيدارافيسيوس بعد أن هربت حبيبته بمادة الفيلم التي وافق المهرجان على عرضها في المهرجان قبل بداية المهرجان بأقل من أسبوع.

أيضا تقدم المخرجة هنا بيلو فيلمها الذي يحكي بروفة سابقة وإرهاصات داخلية عن الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، وثمة خطاب سياسي فج يحمله الفيلم الذي يقدم روسيا مجرمة حرب ينبغي أن تتحمل آلام شعوب عديدة إلى جانب الشعب الأوكراني الذي دمرته.

وعلى ما يبدو أصبح التأثير السياسي فيما يخص قضية الحرب حاضرا بشكل لافت للأنظار أو مسيطر على الاختيارات والتوجهات، كان أقصاها تحرك الصناع لتغيير اسم فيلم "زد" إلى فيلم "نسخة أخيرة" الذي تسبب في إرباك الموزعين الذين برروا ذلك أن اسم "زد" استخدمته القوات الروسية في أثناء حراكها، بالرغم من أنه عمل كوميدي ليس له علاقة بالحرب تماما.

والأغلبية الساحقة تؤيد مقاطعة المهرجان الأشهر لروسيا التي ارتكبت مجازر مجحفة في أثناء الشهور الماضية، بينما عدد قليل يحاول إعادة عرض الفرضية بتساؤل استنكاري عن الاهتمام الشديد الذي ظهر في مقابل تجاهل سابق لأوضاع أخرى ربما تكون مشابهة، سواء في الداخل الأوروبي أو خارجه، ويراها ربما مزايدة سياسية أكبر مما تستحق، لكن تظل المظاهرة السينمائية الأكبر تحمل إلى جانب بعدها السياسي الأكبر بعضَ الأفلام التي ينتظرها الكثيرون بين العام والآخر.

المصدر : الجزيرة