شعار قسم ميدان

التعديلات القضائية الإسرائيلية.. ماذا يريد نتنياهو حقا؟ وكيف ستؤثر على الفلسطينيين؟

JERUSALEM, ISRAEL - MARCH 27: Protesters hold up a sign as thousands of Israelis attend a rally against Israeli Government's judicial overhaul plan on March 27, 2023 in Jerusalem, Israel. Yesterday's dismissal of Defense Minister Yoav Gallant intensified the political crisis sparked by the Netanyahu government's planned judicial overhaul, designed to limit the court's authority over Parliament. (Photo by Amir Levy/Getty Images)
(غيتي)

تعيش دولة الاحتلال الإسرائيلي على وقع خلاف سياسي مشتعل منذ أعلن ياريف ليفين، وزير العدل في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 4 يناير/كانون الثاني 2023، عن "إصلاحات قضائية"، أو بالأحرى عن تعديلات واسعة تشمل تقليص صلاحيات المحكمة العليا وإعادة هيكلة الجهاز القضائي. أشعلت خطة ليفين، المدعومة من الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، احتجاجات واسعة ومظاهرات مستمرة منذ أسابيع، وأظهرت انقسامات حادة شملت قوات الاحتياط في الجيش، والنخبة الاقتصادية، ورجال السياسة والثقافة والأكاديمية، ومؤسسات المجتمع المدني.

 

ورغم المعارضة الواسعة للخطة، مرَّر الائتلاف الحاكم بالقراءة الأولى مشروع "الإصلاح القضائي" المزعوم، وكان يهدف إلى اكتمال العملية التشريعية بشأن عمل لجنة الاختيار القضائية للمحكمة العليا قبل عطلة الكنيست للاحتفال بعيد الفصح في بداية شهر أبريل/نيسان 2023، ومن ثم استئناف التقدم في بقية الحزمة التشريعية التي تهدف إلى "الإصلاح القضائي" جذريّا بعد عطلة الأعياد. لكن الأمور تصاعدت بشدة بعد إقدام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على إقالة وزير دفاعه يوآف غالانت على خلفية معارضته للتعديلات القضائية، وهو ما أشعل الغضب في الشارع الإسرائيلي ودفع نتنياهو إلى تعليق خطته مؤقتا إلى الشهر المقبل، من أجل تجنب "الحرب الأهلية"، حسب قوله.

 

نرصد في هذا المقال جذور النزاع المرتبطة بخطة التعديلات القضائية الإسرائيلية والمعارضة التي تتشكل ضدها، ونجادل بأن نتنياهو وحلفاءه من اليمين والأحزاب الدينية المتطرفة يسعون إلى شل نظام القضاء في إسرائيل من أجل إعادة ترتيب شاملة لأوضاع الحكم الداخلية والعلاقات مع الفلسطينيين، بما يمهد لضم فعلي للأراضي الفلسطينية. نستعرض في البداية طبيعة التعديلات القضائية والتغيرات الجذرية التي يسعى الائتلاف الحاكم لإحداثها بوصفها "إصلاحات"، ومن ثم نشرح أطراف النزاع ومكوناته وانعكاساته، وفي الجزء الأخير نحلل التأثيرات المحتملة على الفلسطينيين ونرصد السيناريوهات المتوقعة.

 

التعديلات القضائية.. تغييرات جذرية مرتقبة

Israeli protestors attend a right-wing demonstration in support of Israel's nationalist coalition government and its judicial overhaul, in Tel Aviv, Israel March 30, 2023. REUTERS/Nir Elias TPX IMAGES OF THE DAY
(رويترز)

تشمل التعديلات القضائية التي يرغب ائتلاف نتنياهو بتمريرها 4 مجالات أساسية، أولها سلطة المحكمة العليا التي تشكل جوهر الخلاف في التعديلات المقترحة، حيث تعتبر المحكمة أحد الفاعلين الأساسيين في النظام السياسي الإسرائيلي، وذلك من خلال دورها في العمل على حفظ التوازن السياسي بين مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية.

 

منذ نشأتها عام 1948، لم تتفق الأحزاب الإسرائيلية على دستور للدولة، واستعاضت عن ذلك بقوانين الأساس التي تشكِّل أساس الحكم وتنظم العلاقة ما بين السلطات الحاكمة والمجتمع. يتمثل دور المحكمة العليا في حفظ التوازنات السياسية و"حماية الحقوق الأساسية" وهي تنظر في كافة الاستئنافات والقضايا ضد سلطات الدولة أو الهيئات العامة، والأهم من ذلك أنها تبتّ في دستورية القوانين التي تصدرها الحكومة ولديها الصلاحيات لإلغائها. لذلك، فإن أحد الأهداف الأساسية للتعديل القضائي هو تمكين الحكومة من تمرير التشريعات، سواء التي أبطلتها المحكمة في السابق أو التي سوف تُمرَّر مستقبلا، وذلك بموافقة أغلبية بسيطة من أعضاء الكنيست، أي 61 عضوا من أصل 120 عضوا. وهذا يعني من الناحية العملية أن ميزان القوى سيميل لصالح السلطات التشريعية التي ستتمكن من سن القوانين، بما في ذلك قوانين الأساس، مع تقييد دور المحكمة أو أي رقابة قضائية.

 

المجال الثاني للتعديلات يتعلق بتركيبة المحكمة العليا. تشمل خطة "إصلاح القضاء" منح أعضاء الكنيست نفوذا أوسع في لجنة تعيين قضاة المحكمة العليا، وذلك بهدف منح السلطات السياسية دورا محوريّا في اختيار أعضاء اللجنة، وهو ما سيسمح للحكومة الحالية، في حال استمرت لأربع سنوات، حق تعيين أربعة قضاة جدد مكان الأربعة الذين سيتقاعدون خلال السنوات الثلاث القادمة، ثلاثة منهم من الليبراليين، والسيطرة من ثَمّ على المحكمة العليا. وقد أقر الكنيست، في 21 مارس/آذار 2023، أول قراءة، من ثلاث قراءات، لمشروع قانون يهدف إلى توزيع السلطة في لجنة اختيار القضاة، وهو ما سينهي التوازن الحالي الذي يتطلب اتفاقا بين الممثلين السياسيين والمهنيين، ويمكِّن السياسيين في الائتلاف من السيطرة على التعيينات.

 

أما المجال الثالث للتعديلات فيتعلق بحماية نتنياهو وحلفائه، حيث يعمل الائتلاف الحاكم على مساعدة نتنياهو وزعيم حزب "شاس"، المتحالف معه، آرييه درعي، في مشكلاتهم القانونية وقضايا الفساد والاحتيال التي تلاحقهم، وذلك بسن قوانين تمنع تنحية رئيس الوزراء من منصبه، وتضع طريقتين فقط لفعل ذلك: إما أن يقوم رئيس الوزراء بإبلاغ الكنيست بأنه سيتنحى من منصبه، وإما أن الحكومة تنحي رئيس الوزراء بأغلبية ثلاثة أرباع وزراء الحكومة، ثم يتم تأييد هذا القرار بأغلبية 90 عضوا في الكنيست. وبالصورة نفسها، يسعى الائتلاف إلى إعادة درعي الذي أبطلت المحكمة العليا تعيينه، في 18 يناير/كانون الثاني 2023، وزيرا للداخلية والصحة، مشيرة إلى أنه أُدين بتهرب ضريبي، وهو ما دفع نتنياهو لإقالته من منصبه، منتقدا قرار المحكمة التي اتهمها بتجاهل "إرادة الشعب". هذا ويعمل الائتلاف الحاكم، الذي يدعم أعضاؤه بشدة درعي وتعهدوا بمعارضة الحكم، على إعادته للحكومة، وذلك عن طريق سن تشريع جديد لهذا الغرض أُقِرّ بالقراءة الأولى.

 

وأخيرا، هناك المستشارون القانونيون، الذين يسعى الائتلاف الحاكم إلى الحد من صلاحياتهم وتأثيرهم داخل الوزارات. في العادة، يستشهد قضاة المحكمة العليا بتوصيات هؤلاء المستشارين عندما ينظرون في حسن سير الحكومة. وستمكِّن التعديلات التشريعية المرتقبة توصياتهم باعتبارها نصائح غير ملزمة، وذلك بهدف إضعاف سلطة كبار موظفي الدولة.

 

جذور النزاع.. الدولة العميقة

Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu and his wife Sara Netanyahu attend a toast for the new speaker of the knesset Amir Ohana at the Knesset, Israel's parliament in Jerusalem December 29, 2022. REUTERS/Amir Cohen/Pool
شكَّلت التعديلات القضائية محورا أساسيّا للحملة الانتخابية الأخيرة لحزب الليكود اليميني الذي يتزعمه نتنياهو وآلية أساسية لاستقطاب وحشد أصوات الإسرائيليين. (رويترز)

تضاعفت خلال العقدين الماضيين قوة الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة في إسرائيل، حتى استطاعت تشكيل حكومة جديدة بزعامة بنيامين نتنياهو، في ديسمبر/كانون الأول 2022، تعتبر الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل. تتشكل القاعدة الاجتماعية لهذا الخليط المتنوع في الأساس من الحركات الدينية والقوميين المتطرفين وحركات المستوطنين، ويتمتعون مجتمعين بما مجموعه 64 مقعدا في الكنيست من أصل 120 مقعدا تُمكّنهم من تمرير التشريعات والقوانين التي تعكس أيديولوجيتهم المتطرفة وأجندتهم، بما في ذلك السياسات التي تزيد من تهميش الفلسطينيين، وتمييز الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك التأثير على الصراع على السلطة في إسرائيل.

 

يمثِّل حزب الليكود اليميني، الذي يتزعمه نتنياهو، عنصرا أساسيّا في الائتلاف الحاكم، وشكَّلت التعديلات القضائية محورا أساسيّا لحملته الانتخابية الأخيرة وآلية أساسية لاستقطاب أصوات الإسرائيليين وحشدها. يضم الائتلاف كذلك حزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش، إلى جانب حزب القوة اليهودية بقيادة إيتمار بن غفير، وحزب نوعم بقيادة آفي ماعوز؛ وتشكِّل هذه المجموعات التيار الديني الصهيوني المتطرف الذي يعمل على تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد مدينة القدس ومحو الوجود الفلسطيني فيها.

 

بالنسبة إلى هؤلاء، فإن التعديلات القضائية ستساعد على المحافظة على هوية الدولة اليهودية من جهة، ومن جهة أخرى تفتح خيارات أوسع للعمل على ضم الضفة الغربية أو على الأقل أجزاء واسعة منها دون معارضة تُذكر من المحاكم الإسرائيلية. ويضم الائتلاف الحاكم أيضا حزبين متدينين متشددين، وهما: يهودت هتوراه، وشاس. وبينما يُعَد يهودت هتوراه تحالفا لمجموعة من الأحزاب الدينية من الأصول الأوروبية، يمثل حزب شاس اليهود الشرقيين من المجتمع اليهودي المتدين. ما يجمع هذين الحزبين هو توجهاتهما المتشددة والمتزمتة في ممارساتهما الدينية اليومية، وسعيهما إلى تعزيز القيم الدينية اليهودية في المجتمع والسياسة الإسرائيلية، مع زيادة تركيزهما على قضايا التعليم الديني، والتجنيد العسكري، وقوانين الزواج والطلاق، والفصل بين الجنسين، والخدمة الدينية، والنقل العام في يوم السبت.

 

يسود الاعتقاد داخل أحزاب الائتلاف بأن اليساريين والليبراليين قد خسروا الانتخابات، ولكنهم استمروا في السيطرة على المحاكم والبيروقراطية الإسرائيلية. يرجع السبب في ذلك إلى الاعتقاد السائد بوجود "دولة عميقة"، أي شبكات سرية من الأفراد أو الجماعات غير المنتخبين الذين يعملون خارج القنوات التقليدية للحكومة المنتخبة ولديهم القدرة على تقويض المسؤولين المنتخبين، ويتحكمون في المشرعين والسياسيين. ربط نتنياهو، عام 2021، ما بين محاكمته في قضايا فساد ورشوة، ومؤامرات "الدولة العميقة" ضده.

 

يشرح الإعلامي إيريز تدمور، الذي يُعَد من المقرّبين من نتنياهو، في كتابه "لماذا تصوِّت لليمين وتحصل على اليسار؟" المنشور عام 2017، خطة اليمين الإسرائيلي للسيطرة على الدولة ومؤسساتها، وهي الأيديولوجية التي باتت سائدة بين السياسيين اليمينيين المعادين لليسار. يجادل تدمور بأنه بالرغم من تقدم اليمين خلال العقود الماضية وتشكيله الحكومة بشكل متكرر، فإنه لم يستطع السيطرة على "الحكم"، وذلك لأن القوة والنفوذ يقبعان خارج أروقة الكنيست، أي في المؤسسات الثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني، والبيروقراطية، والإعلام، والقضاء.

 

ومع تراجع اليسار ونخبه، يتوقع تدمور أن تتغير قواعد اللعبة، وذلك بسبب زيادة التأييد الشعبي لأحزاب اليمين. لذا، يكمن الحل في إنهاء هيمنة المحكمة العليا والنخب اليسارية، وذلك بزيادة نفوذ اليمين في الفضاءات الإعلامية والثقافية والمجتمع المدني والقضاء. يضع تدمور خطة لتقويض المحكمة العليا، وذلك بالسيطرة على لجنة اختيار القضاة، والحد من صلاحيات المحكمة، وخاصة فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين، وهو ما يعمل الائتلاف الحاكم فعليّا على ترجمته حاليّا ضمن التعديلات القضائية.

 

معارضة غير متجانسة

JERUSALEM, ISRAEL - MARCH 27: Protestors wave flags as thousands of Israelis attend a rally against Israeli Government's judicial overhaul plan on March 27, 2023 in Jerusalem, Israel. Yesterday's dismissal of Defense Minister Yoav Gallant intensified the political crisis sparked by the Netanyahu government's planned judicial overhaul, designed to limit the court's authority over Parliament. (Photo by Amir Levy/Getty Images)
تُعارض التعديلات القضائية قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، تشمل الجيش، والمجتمع المدني، والاقتصاد، ورأس المال. (غيتي)

على الجانب الآخر، يتشكل التيار المعارض للتعديلات القضائية من تيارات سياسية واجتماعية وثقافية وأكاديمية عريضة من المجتمع الإسرائيلي، والتي تختلف أيديولوجيّا، ولكنها تتوحد خلف راية رفض تعديلات جذرية للقضاء. بالنسبة إليهم، فإن إضعاف المحكمة العليا من شأنه أن يُقوّض أسس الديمقراطية ويُفسح المجال لهيمنة الحركات الدينية على الدولة والحياة الاجتماعية والثقافية، ومع الوقت إعادة تشكيل هوية الدولة. وترى المعارضة أن خطة "الإصلاح" تهدف إلى التأثير على سير محاكمة نتنياهو وتجنب الملاحقة القضائية للفساد داخل الحكومة، وهو ما يعمل الائتلاف الحاكم على تمريره من خلال عدد من مشاريع القوانين الهادفة إلى حماية نتنياهو وإعادة درعي وزيرا إلى الائتلاف الحاكم.

 

يتشكل التكتل المعارض للتعديلات القضائية من أحزاب يش عتيد "هناك مستقبل" برئاسة يائير لبيد، والمعسكر الوطني برئاسة بيني غانتس وجدعون ساعر، وإسرائيل بيتنا برئاسة ليبرمان، وحزب العمل بزعامة ميراف ميخائيلي. ترفض هذه الأحزاب حتى الآن أي تسوية أو مفاوضات تتضمن تغييرات جوهرية في القضاء ودوره. فبعدما أعلن الائتلاف الحاكم عن بعض الليونة في مواقفه، في 20 مارس/آذار 2023، فيما يخص لجنة تعيين القضاة ودعا المعارضة لإجراء مفاوضات، ردت المعارضة بالرفض القاطع لذلك. يائير لبيد، زعيم المعارضة، وصف من جانبه أي خطوات لتغيير لجنة اختيار القضاة بأنها اعتداء على الجهاز القضائي من شأنه أن يسمح للحكومة بتعيين مقربين سياسيين في هيئة المحكمة. الموقف نفسه عبَّرت عنه رئيسة حزب العمل التي اعتبرت التغييرات المقترحة "دمارا للديمقراطية"، وأن أي مرونة في موقف الائتلاف هو عبارة عن حِيَل من حزب الليكود، ودعت إلى استمرار الاحتجاجات.

 

علاوة على ذلك، تُعارض التعديلات القضائية قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، تشمل الجيش، والمجتمع المدني، والاقتصاد، ورأس المال. على سبيل المثال، عبَّر المئات من قوات الاحتياط، وخاصة من وحدات النخبة والعمليات الخاصة، والمخابرات العسكرية، ووحدات الحرب الإلكترونية، والطيران العسكري؛ عن موقفهم الرافض للخدمة في حال أُقِرّت التعديلات، وهو ما دفع وزير الدفاع إلى البوح بأنه قد يتنحى في حال أُقِرّت التعديلات القضائية دون موافقة شعبية عريضة، قبل أن يقرر نتنياهو استباق الأمور بإقالته ليزيد الأزمة اشتعالا. كما أشعلت التعديلات القضائية معارضة من الطبقة الرأسمالية التي تطالب بفصل السلطات بوصفه أساسا للديمقراطية الرأسمالية، بحيث لا يمكن لفرد واحد أو مجموعة من الأفراد الاستحواذ على الحكم لصالحهم، حيث يتخوف هذا القطاع من سيطرة نتنياهو وحلفائه على الدولة ومؤسساتها، وهو ما يعدونه إضرارا بمركز إسرائيل في جلب الاستثمارات، ويسهم في هروب رؤوس الأموال والأدمغة المحلية، ويلحق ضررا طويل الأمد بالنمو الاقتصادي.

 

الاستيطان أولا

A view shows the Jewish settlement of Dolev as the Palestinian city of Ramallah is seen in the background, in the Israeli-occupied West Bank January 26, 2020. Picture taken January 26, 2020. REUTERS/Mohamad Torokman
يتمثل أحد الأهداف الرئيسية للتعديلات القضائية في خلق آليات جديدة للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وبالتحديد في الأراضي الخاصة. (رويترز)

توقفت المفاوضات الفلسطينية منذ عام 2014، وتشهد الأوضاع الميدانية حاليّا توترات متزايدة مع زيادة عنف المستوطنين وارتفاع وتيرة العمليات الإسرائيلية العسكرية، وخاصة في مدينتَي جنين ونابلس، حيث استُشهِد أكثر من 88 فلسطينيّا منذ بداية عام 2023. على وقع التصعيد الميداني، استأنفت السلطة الفلسطينية المباحثات مع الجانب الإسرائيلي تحت رعاية أميركية-مصرية-أردنية. أبدت السلطة ارتياحها لاجتماع شرم الشيخ، 19 مارس/آذار 2023، الذي انتقدته الفصائل الفلسطينية وذلك لطبيعته الأمنية. أكد البيان الختامي للاجتماع على إجراءات لبناء الثقة واستمرار المباحثات بين الطرفين، والالتزام بالاتفاقات السابقة، ووقف العنف والتحريض، ووقف مؤقت للاستيطان.

 

ومع ذلك، من المستبعد أن توقف إسرائيل الاستيطان في الأراضي الفلسطينية أو تبطئه، وذلك لأنه يشكل أولوية لدى الائتلاف الحاكم الذي يتكون بالأساس من أحزاب المستوطنين المتطرفين. بالإضافة إلى ذلك، يتمثل أحد الأهداف الرئيسية للتعديلات القضائية في خلق آليات جديدة للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وبالتحديد في الأراضي الخاصة. فعلى مدار تاريخها، عملت المحاكم الإسرائيلية أداةً لترسيخ الاحتلال في الضفة الغربية، وجزءا من نظام قانوني مزدوج يخضع فيه الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة للقانون العسكري الذي تطبقه المحاكم العسكرية الإسرائيلية، بينما يخضع المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية للقانون المدني الإسرائيلي ويحاكَمون في محاكم مدنية إسرائيلية. أنشأ هذا نظاما غير متكافئ للعدالة، حيث يتمتع المستوطنون بالحماية القانونية الكاملة، بينما يُحرم الفلسطينيون من أدنى إجراءات الحماية القانونية أو العدالة.

 

رغم ذلك، حافظت المحاكم الإسرائيلية على سياسة تجميلية للاحتلال وأبطأت في بعض الحالات المحدودة أو أوقفت مخططات استيطانية في أراضٍ فلسطينية خاصة. يصطدم هذا مع مخططات حركات المستوطنين واليمين المتطرف الذين يسعون إلى تسريع وتيرة الاستيطان ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن المحاكم الإسرائيلية يمكن أن تشكِّل عقبة أمام مشاريعهم الاستيطانية، وبالتحديد في الأراضي الفلسطينية الخاصة. ومن ثَمّ، يخطط الائتلاف الحاكم إلى منع المحاكم من التدخل في شرعنة البناء الاستيطاني على أراضٍ خاصة. فبعدما مررت حكومة نتنياهو السابقة، في 7 فبراير/شباط 2017، مشروع قانون في الكنيست يسمح بالبناء الاستيطاني على أراض فلسطينية خاصة، وذلك بهدف تشريع جميع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وفتح المجال أمام الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية الخاصة والبناء عليها، ألغت محكمة العدل العليا هذا القانون في يونيو/حزيران 2020، وهو ما اعتبرته وزيرة الاستيطان حينها، تسيبي حوتوفلي، إعلان حرب من المحكمة العليا "على حق اليهود بالإقامة في أراضي إسرائيل".

 

ومن ثم، فإن التعديلات القضائية ستسهِّل مخططات الائتلاف الحاكم التي تضع الاستيطان أولوية لها، حيث وافقت الحكومة على إضفاء الشرعية على 9 بؤر استيطانية غير قانونية، وبناء أكثر من 7 آلاف منزل استيطاني جديد، في فبراير/شباط 2023. كما صادق الكنيست بالقراءة النهائية، في 21 مارس/آذار 2023، على إلغاء بنود في قانون الانفصال أحادي الجانب عن قطاع غزة، الذي كان قد أُقِر عام 2005 وتضمَّن الانسحاب من قطاع غزة و4 مستوطنات في شمال الضفة الغربية. ويهدف التعديل، الذي يُعد من أحد بنود الاتفاق الحكومي وشرطا لانضمام أحزاب المستوطنين لحكومة نتنياهو، إلى إلغاء بنود في القانون كانت تحظر على المستوطنين دخول نطاق 4 مستوطنات أُخليت في الضفة الغربية المحتلة عام 2005، وهي: جانيم وكاديم وحومش وسانور، على نحو يفتح المجال أمام إعادة الاستيطان فيها من جديد وتهويد المزيد من الأراضي، وهو ما سيعني من الناحية العملية ضمّا فعليّا لأجزاء كبيرة من الضفة الغربية. دفعت هذه الخطوة الإدارة الأميركية إلى استدعاء السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، مايك هرتسوغ، إلى وزارة الخارجية للاجتماع مع نائبة وزيرة الخارجية، ويندي شيرمان، وذلك للاحتجاج على الخطوة الإسرائيلية التي اعتُبرت انتهاكا للالتزامات التي تم التعهد بها قبل يومين فقط في قمة شرم الشيخ، حيث اتفق القادة الإسرائيليون والفلسطينيون على الامتناع عن الإجراءات التي تصعد التوترات.

 

سيناريوهات وفضاءات الصراع

 

Israeli Arabs hold Palestinian flags as they take part in a "Land Day" rally, an annual commemoration of the killing of six Arab citizens by Israeli security forces in 1976 during protests against land confiscations, in Sakhnin in northern Israel March 30, 2023. REUTERS/Ammar Awad
ستمهد التعديلات القضائية -على الأرجح- سَنّ المزيد من التشريعات التمييزية والعنصرية ضد فلسطينيي عام 1948 الذين يشكِّلون ما نسبته 20% من مجموع سكان إسرائيل. (رويترز)

لا تزال نتيجة الصراع الإسرائيلي الداخلي حول التعديلات القضائية في طور التشكل، ويمكن أن تتطور بعدد من الطرق المختلفة. ومع ذلك، هناك العديد من السيناريوهات المحتملة التي قد توجه مسار الأزمة.

 

السيناريو الأول هو نجاح الائتلاف الحاكم في تمرير التعديلات المقترحة رغم المعارضة الشعبية، ويبدو هذا السيناريو هو الأرجح في نهاية المطاف. يرجع ذلك إلى 3 أسباب أساسية: أولا، تمتع الائتلاف الحاكم بالأغلبية في البرلمان، والتي ستمكِّنه من تمرير التعديلات. ثانيا، استغلال الفرصة التاريخية في اجتماع اليمين الإسرائيلي والحركات الدينية في حكومة واحدة تحت قيادة نتنياهو، وهي الفرصة التي قد لا تتكرر مجددا خلال السنوات القادمة. ثالثا، رغبة نتنياهو في الإفلات من المحاكمات في قضايا الفساد والرشوة، حيث يصف المتظاهرين بالفوضويين (الأناركية)، ويطالب بالتعامل معهم بشدة.

 

وفي حال نجح الائتلاف في تمرير التعديلات القضائية سيكون لذلك تبعات سياسية واسعة، أهمها: إحداث تغيير جذري في نظام الحكم مع سيطرة كاملة للمشرِّعين ووزراء الحكومة الذين سيكون نطاق عملهم خارج تأثير المحكمة العليا، وفي هذه الحالة ستتمكن الأغلبية في الكنيست من تشريع قوانين الأساس أو تعديلها أو إلغائها من خلال الإجراءات التشريعية البسيطة. كما سيكون لذلك انعكاسات مباشرة على الفلسطينيين، حيث ستمهد التعديلات القضائية -على الأرجح- سَنّ المزيد من التشريعات التمييزية والعنصرية ضد فلسطينيي عام 1948 الذين يشكِّلون ما نسبته 20% من مجموع سكان إسرائيل، وتسهِّل ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية بهدف التوسع في الاستيطان.

 

السيناريو الثاني هو فشل الائتلاف الحاكم في تمرير الإصلاحات المقترحة، وفي هذه الحالة سوف يُنظر إلى الأمر باعتباره انتصارا للمعارضة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تفكك الائتلاف الحاكم، الذي سينظر العديد من أطرافه إلى الأمر بأنه استسلام للمعارضة وخيانة "للناخبين". فعلى سبيل المثال، رفضت الوزيرة من الليكود، ماي غولان، الحديث عن إدخال تعديل وتغيير على المقترح الأصلي، وكتبت في تغريدة: "لن أدعم أي خيار باستثناء الإصلاح الذي وعدنا الجمهور به. لكل من يساوره القلق: لن نوقف أي شيء". يعني سيناريو فشل التعديلات إذن أن إسرائيل يمكن أن تدخل مجددا في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات، حيث تم إجراء 5 جولات من الانتخابات العامة منذ العام 2019.

 

ويبقى السيناريو الأخير هو التوصل إلى حل وسط يتضمن ضمانات لاستقلال القضاء رغم أن الحكومة أو المعارضة لم تُظهِرَا حتى الآن استعدادا للتفاوض. وفي حال نجحت الحكومة والمعارضة في التوصل إلى حل وسط يمكن أن يخفف ذلك من التوترات الحالية ولكنه سيُبقي، وربما يزيد، من حدة التوترات السياسية والمجتمعية، فطموح اليمين الإسرائيلي والحركات الدينية لا يقتصر على السيطرة على القضاء، بل يتعدى ذلك إلى الهيمنة على الفضاء العام وزيادة النفوذ على وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية، فالحكومة الحالية بدأت بالفعل التضييق على المؤسسات الإعلامية التي تُعَد هدفا أساسيّا لها، ومن المتوقع أن تستمر في هذه السياسة خلال السنوات القادمة. كما أن هناك انقساما في المؤسسات الأكاديمية التي ينشط فيها بشكل كبير اليسار والليبراليون المعادون للأحزاب الدينية واليمين، حيث أعربت مجموعة من 120 أكاديميّا مرتبطين بالأساتذة اليمينيين عن دعمهم لبرنامج "الإصلاح القضائي" للحكومة، وذلك في مسعى لتشكيل جسم موازٍ لنفوذ اليسار والليبراليين في الجامعات.

في النهاية، سواء نجحت الإصلاحات القضائية أو تم التوصل إلى حلول وسط، سيعمل الائتلاف الحاكم على التوسع في سياسات الاستيطان وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، فهناك مخططات متفق عليها بين أعضاء الائتلاف للتوسع في سرقة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها، ومزيد من القمع للشعب الفلسطيني. ويرجح هذا السيناريوهات تمتع وزراء المستوطنين، وخاصة سموتريتش، بصلاحيات واسعة في الضفة الغربية، وهو ما سيسهِّل من الناحية العملية التقدم بالتخطيط في البناء الاستيطاني من جهة، وهدم منازل الفلسطينيين من جهة أخرى. وعلى المدى القريب، من المتوقع أن تزيد الحكومة من الإعانات الحكومية والحوافز للبناء الاستيطاني وتوفير الأراضي الرخيصة التي تُصادَر ويُستولَى عليها، وذلك بالرغم من التفاهمات الأخيرة مع السلطة الفلسطينية. سيعمل ذلك على زيادة أعداد المستوطنين الأيديولوجيين الذين ينظرون إلى الضفة الغربية على أنها جزء لا يتجزأ من الوطن اليهودي التوراتي، ولا يعترفون بالشعب الفلسطيني. وهو ما سيزيد على الأرجح من احتمالية انفجار الأوضاع الأمنية التي تشهد منذ أكثر من عامين تصعيدا أمنيّا.

 

حتى الآن، يظل تأثير الموقف الدولي في هذه الأزمة غير واضح. لم تتدخل الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل حتى الآن في تفاصيل التعديلات القضائية، واقتصرت على حث الأطراف على تأمين توافق واسع لأي تعديلات قضائية مع حفظ استقلالية القضاء. ومع ذلك، ربما يدفع الاستقطاب الإسرائيلي الداخلي المتزايد وتصعيد العنف ضد الفلسطينيين الولايات المتحدة إلى زيادة نشاطها السياسي الهادف لحل الأزمة والضغط على الائتلاف الحاكم، وذلك من أجل تجنب صدام مباشر مع حكومة نتنياهو، ومن ثم تهديد العلاقات الإستراتيجية ما بين الطرفين. وربما تؤدي التصريحات وأفعال وزراء الائتلاف المتطرفين إلى نفاد صبر إدارة بايدن التي ترغب في التركيز على أولويات أكثر إلحاحا، وخاصة الحرب الروسية-الأوكرانية ومشروع إيران النووي.

 

المؤكد رغم كل شيء هو أن الاستقطاب المجتمعي بين الإسرائيليين سوف يستمر في المرحلة المقبلة، سواء تم تمرير التعديلات أو إلغاؤها. سيؤدي تمرير التعديلات القضائية على الأرجح إلى زيادة الشرخ في جسم القضاء والجيش والمجتمع، ويُبقي الصراع مفتوحا بين الحكومة والمعارضة، ويزيد من تآكل ثقة الإسرائيليين بمؤسسات الدولة.

 

ومن المرجح كذلك أن ينتقل الاستقطاب إلى يهود العالم ويزيد من الانقسامات بينهم. ومع تلويح معارضي التعديلات بشكل متزايد باستخدام العنف، قد تؤدي الاحتجاجات العامة إلى اضطرابات أوسع، وربما تطلق شرارة العنف الداخلي، خاصة أن جزءا كبيرا من المعارضين يشعرون بأن مطالبهم لا تُسمع. قد يكون لهذا تداعيات كبيرة على استقرار إسرائيل وأمنها، ويمكن أن يزيد من تفكك التماسك المجتمعي، ويؤدي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية، وهو السيناريو الذي تحذر منه المعارضة والرئيس الإسرائيلي والمتظاهرون، وهو الذي دفع نتنياهو لتعليق الخطة مؤقتا في انتظار اشتعال جولة جديدة من الصراع.

————————————————————————————————–

هذا المقال مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات، للاطلاع على المقال الأصلي اضغط هنا.

المصدر : مركز الجزيرة للدراسات