شعار قسم ميدان

تحليل بالأرقام.. ماذا يريد اللبنانيون؟

بعد سلسلة من الأزمات التي هزَّت لبنان على مدار العامين الماضيين، لم يكن وباء "كوفيد-19" خلالها إلا عرضا عابرا وسط احتجاجات شعبية وانهيار اقتصادي مستمر إلى جانب انفجار مرفأ بيروت المُدمِّر، عُقدت الانتخابات البرلمانية اللبنانية، وجاءت النتائج بحصول حزب الله وحركة أمل على 31 مقعدا، بيد أن المفاجأة أفصحت عن نفسها بتقدُّم "حزب القوات اللبنانية" على حساب غريمه داخل المجتمع المسيحي الماروني، إذ حصل على 20 مقعدا مقابل 18 "للتيار الوطني الحر" المُتحالِف مع حزب الله. وكذلك حصلت "لوائح المجتمع المدني" على 13 مقعدا، وهم من المستقلين الذين لم يسبق لهم أن تولوا أي مناصب سياسية في بلد تأسس نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية، وهو أمر قد يُغيِّر كثيرا من قواعد اللعبة السياسية في لبنان مُستقبلا، حيث يُمكِن للمستقلين التحالف مع أي كتلة برلمانية من أجل برنامج سياسي مُوَحَّد. (1)

على الجانب الآخر، يُشير صعود المستقلين ولوائح التغيير والمجتمع المدني إلى وصول أصوات الشارع واحتجاجات 2019 إلى البرلمان، ومحاولة حرمان حزب الله وحلفائه من تشكيل الأغلبية البرلمانية التي حازوها عام 2018. ورغم ذلك لم يفقد حزب الله وحلفاؤه شعبيتهم بالكامل، فمازالوا يمتلكون كتلة برلمانية معتبرة. وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات اجتماعية لمحاولة تفسير هذا المشهد السياسي: ماذا يريد اللبنانيون؟ وما الأولويات التي سيُطالبون بها الحكومة الجديدة؟ وهل عدم حصول حزب الله وحلفائه على الأغلبية سيسمح بعودة احتجاجات 2019 مرة أخرى دون خوف من القمع؟ والأهم، ما موقف اللبنانيين من الأطراف الخارجية المتداخلة في المشهد السياسي اللبناني؟

المشهد السياسي.. محاولات للإصلاح واتهامات متبادلة

في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، ورغم أهوال الانفجار وما شعر به اللبنانيون من أسى، فإن استطلاع رأي أجراه "الباروميتر العربي" كشف عن أن نحو 16% فقط من اللبنانيين المشاركين في الاستطلاع قالوا إن أهم أولويات الحكومة هي إعادة إعمار بيروت، فقد رأت الأغلبية أن أهم أولويات الحكومة اليوم توفير شبكة أمان اجتماعي لتقليل معدلات الفقر والعَوَز، وتنفيذ إصلاحات مصرفية ومالية فورا. (2)

توضِّح توجُّهات اللبنانيين في الاستطلاع أن أغلبهم لا يرون انفجار مرفأ بيروت حدثا منفصلا عن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، فعند سؤالهم عن سبب انفجار مرفأ بيروت، أجاب ثُلثا المشاركين بالاستطلاع قائلين إن السبب هو الإهمال والفساد في المنظومة الحاكمة، وهي الاتهامات التي وجَّهها مناهضو حزب الله إلى الحزب وحلفائه، وعلى أساسها استطاعوا اختراق القاعدة الانتخابية لذلك التحالف، موجِّهين الضربة الأكبر له منذ حرب يوليو/تموز 2006.

كما ادَّعى مناهضو حزب الله أن الحزب مسؤول عن الانهيار الاقتصادي للبلاد، في حين تملَّص الحزب وحلفاؤه مرارا مُدَّعين أن الفساد المتفشي بين خصومه السياسيين هو سبب الانهيار. وبدورها، تنعكس هذه الاتهامات المُتبادَلة على إجابات اللبنانيين عن سؤال: مَن الجهة المنوط بها التحقيق في الانفجار؟ فقد أجاب نحو 40% من المشاركين بالاستطلاع قائلين إن خبراء دوليين مستقلين هم مَن يجب أن يتولوا التحقيق في الانفجار، في حين أجابت نسبة مُشابهة بأن الأجهزة اللبنانية وخاصة الجيش اللبناني هم مَن عليهم تولي أمر التحقيق، وأخيرا قال ما يقارب 11% إنه لا جدوى من التحقيق أساسا، وهي للمفارقة نسبة المستقلين نفسها الذين فازوا بمقاعد في البرلمان لأول مرة، رغم أنه ليس بوسعنا التيقُّن من أن الشريحة نفسها شكَّلت النسبتين في الانتخابات والاستطلاع.

هذه الحالة من فقدان الثقة في النظام الحاكم، مع الأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة، ما انفكت تُعيد طرح السؤال الأكبر المُتعلِّق بدور الطوائف في النظام السياسي الحاكم، فمنذ انتهاء الحرب الأهلية بلبنان نشأ نظام المحاصصة الطائفية الذي استند إلى تخصيص عدد من المقاعد البرلمانية والمناصب السياسية لكل طائفة حسب وزنها العددي والسياسي، ولربما مَثَّل هذا النظام نوعا من الحلول السياسية للم شمل جميع الطوائف المتحاربة على طاولة واحدة، ولكن هل ما زال اللبنانيون يُفضِّلون هذا النظام في الوقت الحالي؟

جاءت إجابات اللبنانيين المشاركين في الاستطلاع الذي أجراه الباروميتر العربي بنتائج لا تبدو مفاجئة، فقد كان الشعار الذي رفعه اللبنانيون المشاركون في احتجاجات 2019 هو تجاوز كل المحاصصات الطائفية السياسية السابقة وإعادة رسم علاقة جديدة بين "الدولة" والشعب كمواطنين لهم حقوق متساوية، مع المطالبة بدولة القانون والحريات، وهي الدولة ذاتها التي ما فتئت الشعوب العربية تطالب بها منذ انتفاضات الربيع العربي قبل أكثر من عشر سنوات. وقد انحاز ما يزيد على نصف المشاركين إلى النظام المدني العلماني، ورجَّح رُبعُهم تقريبا النظام الفيدرالي، وفي حين اختار 10% فقط أن يبقى النظام الطائفي كما هو، مما يعني بوضوح إتاحة المقاعد والمناصب السياسية لجميع أبناء الطوائف بالتساوي. (2)

بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة، فعند سؤال المشاركين أنفسهم عن إمكانية إتاحة مواقع السلطة المشغولة تاريخيا بأبناء طائفتهم لأبناء جميع الطوائف الأخرى، جاءت الإجابات مفاجئة، فقد قال 47% من المشاركين إنهم يرفضون التخلي عن تلك المحاصصة، فيما عبَّر 17% عن أنهم غير متأكدين من موافقتهم على خطوة كهذه، أما مَن وافق دون تردُّد فكانوا الثلث فقط، أي إن ثلثي المشاركين لا يريدون أن تتخلى طائفتهم عن مكتسباتها السياسية، مما يجعل المشهد السياسي اللبناني مُعقَّدا، فهم يريدون نظاما مدنيا علمانيا، ولكن معظمهم يرفض في الوقت نفسه أن تتخلَّى طائفته عن حصتها.

أوضاع داخلية مضطربة.. قلق وانهيار وهجرة

رغم ما مرَّ على لبنان في السنوات القليلة الماضية من أزمات مُتعدِّدة منها الوباء وانفجار مرفأ بيروت، فإن الوضع الاقتصادي والفساد والانهيار المالي يظل أهم التحديات التي تواجه اللبنانيين، وفي هذا السياق السياسي المُضطرِب، تبدو التحديات مضاعفة، ومن ثمَّ تنعكس على مطالب الناس من الحكومة الجديدة. فمنذ أن انهارت الليرة اللبنانية عام 2019 جراء الأزمة المالية، بات الوضع الاقتصادي أهم ما يشغل اللبنانيين، الذين يعانون يوميا من انقطاع الكهرباء وعدم توفُّر البنزين وقلة فرص العمل مع ارتفاع تكلفة المعيشة وغلاء الأسعار بشكل لا يتناسب مع الأجور. وأمام عدم فاعلية الحكومة وفساد النظام السياسي وفشل الدولة في تقديم الخدمات وتوفير المتطلبات الأساسية للحياة، لجأ اللبنانيون إلى حلول تبدو مؤقتة، لكنها تزيد من حالة الغضب والاحتقان، وتشي لنا إلى أي درجة وصلت معاناة الشعب اللبناني، فقد قال ثُلث المشاركين بالاستطلاع تقريبا إنهم يحتاجون إلى الدعم المادي للحصول على الطعام الضروري، وأعرب أكثر من نصفهم عن أن مطلبه الأهم من الحكومة القادمة خفض تكلفة المعيشة دونا عن أي مطلب آخر.

إزاء هذا الوضع الاقتصادي والانهيار المالي وحالة الفقر التي يتوافد على عتباتها عشرات اللبنانيين يوميا، يزداد تشاؤم اللبنانيين حول تغيير الوضع القائم، حيث يرى ما يقارب 85% من المشاركين بالاستطلاع أن توقعاتهم بشأن السنوات الثلاثة القادمة هي اتجاه الأوضاع إلى الأسوأ. هذا وعبَّر نحو 95% من المشاركين بالاستطلاع عن قلقهم إزاء الأوضاع الاقتصادية وفقدان مدخراتهم وعملهم خلال السنوات القادمة. وقد انعكست حالة القلق الشديد هذه على نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي وصلت إلى نحو 41% فقط، فما موقف بقية اللبنانيين العازفين عن المشاركة إذن؟ تبدو الإجابة واضحة في آراء اللبنانيين المشاركين في استطلاع الرأي، حيث أجاب 48% منهم بأنهم يوَدُّون الهجرة من البلاد، أما أسباب الهجرة فتراوحت بين الفساد بنسبة 44%، والأسباب الأمنية بنسبة 29%، والسياسة بنسبة 22%، والبحث عن فرص التعليم بنسبة 19%.

فهل يمكن أن يُحدِث البرلمان الجديد والحكومة التي ستنبثق عنه تغييرا حقيقيا في المشهد السياسي اللبناني وحياة اللبنانيين؟ للإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن نكتفي بفهم المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي بلبنان، فهناك لاعبون آخرون لهم دور سياسي بارز هُم الأطراف الخارجية المتداخلة بالمشهد السياسي اللبناني منذ الحرب الأهلية.

الرياض وطهران.. الشعب اللبناني بين فكَّيْ الصراع الإقليمي

بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري" عام 2005، نشأ في لبنان ما يُعرف بتحالف الرابع عشر من آذار، وهو تحالف ضمَّ عدة شخصيات وأحزابا لبنانية أبرزها "سعد الحريري" نجل رفيق الحريري، وحزب القوات اللبنانية بقيادة "سمير جعجع"، وقد حظي هذا التحالف بدعم سعودي، قبل أن تسوء العلاقة بين السعودية وسعد الحريري، وقبل أن يقبض حزب الله المدعوم إيرانيا على الحياة السياسية والدولة في لبنان.

لكن بعد انفجار مرفأ بيروت عادت السعودية للانخراط مُجدَّدا في الشؤون اللبنانية، فقد وقَّعت السعودية البروتوكول الفرنسيالسعودي الرامي إلى تقديم مساعدات إنسانية إلى لبنان تتراوح قيمتها بين 30-70 مليون دولار، فقد رأت الأطراف الخارجية أن تخلِّيها عن لبنان في ظل تلك الأزمة الاقتصادية وبدوافع سياسية قد ألقى بها في أحضان النفوذ الإيراني ولم يُحقِّق لها أهدافها في الأخير. وهذا ما انعكس في نتائج الانتخابات الأخيرة، حيث تقدَّم حزب القوات على التيار الوطني الحر، وصعدت كتلة جديدة خارج المُعسكرَين التقليديَّين، مما سمح بدخول لاعبين جدد إلى الساحة السياسية. (3)

رغم أن الكتلة الجديدة من السياسيين المستقلين لا تمتلك برنامجا مُوَحَّدا، بل تتوَحَّد فقط حول خطوط عريضة، ورغم زعمهم بأنهم يُمثِّلون المجتمع المدني ومطالب الشارع، فإن وجودهم قد يُصعِّب عملية انتخاب رئيس المجلس وتكوين الحكومة وانتخاب رئيس جمهورية جديد بعد أن تنتهي مدة الرئيس الحالي "ميشيل عون" بنهاية هذا العام، هذا إلى جانب المُصادقة على الموازنة، وكل ما يتبع ذلك من ملفات مالية واقتصادية، وضمنها النقاش الحالي مع صندوق النقد الدولي. ويُرجَّح في وضع كهذا أن تزيد احتمالات الشلل السياسي والتوتُّر الذي قد يؤخِّر الإصلاحات الضرورية لإخراج البلاد من نفق الانهيار الاقتصادي. وفي ظل السياق العالمي والإقليمي الحالي، وتصاعد التوتُّر بين الغرب والصين، ربما تصبح الساحة السياسية اللبنانية بؤرة جديدة للتنافس والصراع.

في المسرحية الشهيرة التي كتبها "صَمويل بيكيت" بعنوان "في انتظار غودو"، ينتظر رجلان شخصا لا يصل أبدا يُدعَى "غودو"، لكنهما لا يتفقان أبدا على المكان والزمان المتوقَّع أن يلتقيا فيهما بغودو. وعندما يوقنان أن غودو لن يصل أبدا، يُقرِّران شنق نفسيهما، لكنهما يفشلان في كل مرة. يبدو أن الشعب اللبناني يعيش هذه المسرحية يوميا، فينتظرون وصول النخبة السياسية التي ستحلُّ جميع مشكلاتهم، غير أن هذه النخبة لا تصل أبدا، ويبقى اللبنانيون عالقين يوميا بين ضجر الانتظار وعبث الموت.

________________________________________________

المصادر

  1. Elections in Lebanon, does political change stand a chance?
  2. الدورة السادسة من الباروميتر العربي. هذه الاستطلاعات هي جزء من الدورة السادسة للباروميتر العربي، التي نُفِّذت في سبع دول بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي استطلاع الرأي الوحيد المُتوَفِّر علنا لفهم تغيُّر الآراء والمشاعر لدى المواطنين عبر المنطقة أثناء جائحة "كوفيد-19".
  3. لماذا أتت المملكة؟
المصدر : الجزيرة