شعار قسم ميدان

حرب المياه.. مئة عام من الصراع بين إيران وأفغانستان

يبدو أن النزاع الخفي بين أفغانستان ودول الجوار حول المياه بدأ يطفو على سطح العلاقات بصورة أكثر وضوحا من قبل، إذ تُعَد قضية توزيع واستخدام الموارد واحدة من أكثر المشكلات المستعصية على الحل مع الجيران وخاصة مع إيران، وتعود بعض هذه الخلافات إلى قرن كامل، وظهرت مجددا منذ إعلان الحكومة الأفغانية بناء السدود وإدارة المياه التي تصب في الأراضي الإيرانية.

خلفية النزاع على المياه بين أفغانستان وإيران

تُعَد قضية تقاسم المياه بين أفغانستان وإيران واحدة من أهم القضايا السياسية والاجتماعية والبيئية بين البلدين منذ سنوات طويلة، والتي كانت مصدر نزاع وصراع منذ قرن ونصف، والنزاع حول مياه نهر هلمند جنوب أفغانستان له تاريخ طويل من المناقشات والمفاوضات حول تقسيم المياه بين البلدين، وقد حاولت إيران وبشتى الطرق أن تثبت حقها في المياه، ولم تدخر جهدا في الوصول إلى هدفها، وهو ما قوبل بمعارضة من الحكومات التي تعاقبت على أفغانستان.

 

  • مشكلة نهر هلمند وتحكيم جولد سميث

برز الخلاف المائي بين أفغانستان وإيران حول نهر هلمند في عام 1882، وعندما فشل الطرفان في حل المشكلة اتفقا على اللجوء إلى لجنة تحكيم "جولد سميث" المكلفة بترسيم الحدود بين البلدين.

بدأت اللجنة عملها في 19 أغسطس/آب 1882 بترسيم الحدود، وتقاسُم مياه نهر هلمند بين البلدين، وبعد فشل اللجنة في المهمة أوصت بأنه "ينبغي على الطرفين عدم بناء منشآت أو سدود على طول نهر هلمند، حتى لا تتسبب في تقليل المياه في المصب"، ولكن الحكم لم يحقق نتائج إيجابية.

 

  •  لجنة تحكيم مكماهون ومسألة تقسيم مياه هلمند
هنري مكماهون

بعد ذلك عُيِّن العقيد هنري مكماهون عام 1903، لرسم حدود جديدة بين أفغانستان وإيران، وذلك للتغيير الذي حصل في مسار نهر هلمند عام 1896، والذي كان سببا لظهور العديد من الخلافات الجديدة بين الطرفين.

وقد قسَّم مكماهون المياه في 1905، ما أضاف مشكلات أخرى بسبب قراره بتقسيم المياه بين الطرفين بالتساوي ومطالبته الجانب الأفغاني بعدم بناء سدود من شأنها إلحاق الضرر بإمدادات المياه لإيران، وحكم مكماهون بأن من حق طهران الاستفادة من ثلث مياه نهر هلمند في منطقة "كوهك" قرب الحدود الإيرانية-الأفغانية، ولكن الجانب الأفغاني لم يقبل بهذا الحكم، ورأى أنه "يفتقر إلى الحياد" فيما يتعلق بحل المشكلة بين البلدين، لذا كلف مكماهون ضابطا بريطانيّا للإشراف على تطبيق الحكم حول نهر هلمند، وقوبل هذا الحكم بالرفض من الأفغان أيام حكم الأمير حبيب الله خان.

 

  • لجنة تحكيم فخر الدين آلتاي
الجنرال "فخر الدين آلتاي"

تفاقم النزاع بين أفغانستان وإيران مجددا في 8 مارس/آذار 1934، بسبب رفض المادة 10 من معاهدة 1921 المبرمة بين الطرفين (والتي تنص على تحكيم بريطانيا في الخلافات الحدودية)، فقررت كابل وطهران اللجوء إلى تركيا للتحكيم بينهما، وقد وافقت الأخيرة على ذلك، وأرسلت الجنرال فخر الدين آلتاي على رأس لجنة تحكيم، وكان من المقرر أن تقدم الدولتان شكوييهما قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1934، وعينت إيران مهدي فرُخ رئيسا للهيئة الإيرانية المؤلَّفة من 20 خبيرا، أما الحكومة الأفغانية فقد عينت حاكم هرات عبد الرحيم خان على رأس الهيئة الأفغانية.

زار أعضاء اللجنة المنطقة المتنازع عليها، وانخرط الطرفان في جولات تفاوض مكوكية بإشراف الجنرال آلتاي، لكنها لم تسفر عن تقدم يُذكَر، وبعدها ترك آلتاي اللجنة وعاد إلى بلاده تركيا دون أن تحقق وساطته تقدما ملموسا في ملف المياه بين أفغانستان وإيران.

جلس الأفغان والإيرانيون للمرة الرابعة بين عامَي 1936-1939، وطالبت إيران بنصف المياه التي تصب في "سد كمال خان" في ولاية نيمروز، واشترطت على أفغانستان عدم بناء أي منشآت تؤدي إلى نقص المياه، ولكن الجانب الأفغاني لم يقبل عرض الإيرانيين، لأنه يحتاج إلى مصادقة البرلمان عليه.

بعد ذلك اتفق الأفغان والإيرانيون في 28 فبراير/شباط 1951 على تشكيل لجنة للنظر في القضايا العالقة بين الطرفين، وزار أعضاء اللجنة نهر هلمند جنوبي أفغانستان، وبعد الدراسة سلَّم الجانب الإيراني تقريره للحكومة الأفغانية، وبيَّن فيه ما تحتاج إليه طهران من المياه، وبعد سنتين وافقت الحكومة الأفغانية على مطالب إيران التي عادت وتراجعت عنها بعد عامين بحجة أن الدراسة تحرمها حقها في مياه نهر هلمند، ومرة أخرى فشلت المفاوضات حول تقاسُم مياه نهر هلمند بين البلدين عام 1956.

سد كجكي في ولاية هلمند الأفغانية (المصدر: وكالة الأنباء الأفغانية آوا)

الاتفاقية التي وُلدت ميتة!

بعد أكثر من قرن من النزاع حول مياه نهر هلمند أطول نهر في أفغانستان جاءت مبادرة رئيس الوزراء الأفغاني محمد موسى شفيق لتُلقِي حجرا في المياه الراكدة، تولى موسى شفيق في 24 ديسمبر/كانون الأول 1972 رئاسة الوزراء في أفغانستان، وهو سياسي جمع بين العمل الأكاديمي الجامعي والممارسة السياسية، وكلفه الملك الراحل محمد ظاهر شاه بتشكيل الحكومة.

أقلقت مبادرة محمد موسى شفيق بشأن حل المشاكل المائية مع إيران وفق نظريته المعروفة "تصفير مشاكل مع الجيران"الاتحاد السوفيتي والمحسوبين على التيار الشيوعي في أفغانستان، لذا أسرعوا بالتخلص منه.

وجاءت مبادرته بشأن حل المشكلات المائية مع إيران وفق نظريته المعروفة "تصفير مشكلات مع الجيران"، يكتب النائب البرلماني السابق عبد الغفار فراهي في كتابه "أفغانستان في عهد الجمهورية والديمقراطية": "طلب مني رئيس الوزراء موسى شفيق أن أزوره في مكتبه، عندما وصلت سألني عن رأيي حول اتفاقية تقاسم المياه مع إيران، فقلت له: هذا نهر داخلي، وليس للإيرانيين أي حق فيه، ويجب عدم منح إيران في كل ثانية ستة وعشرين مترا مكعبا من المياه، وقلت له: لم يتجرأ رؤساء وزراء سابقون على النظر في هذه القضايا الحساسة، لماذا أنت مُصِر على حل هذه المشكلة؟ نزل الدمع من عينه، وأضاف: هذا دليل تخلف أفغانستان، الآن قررت حل مشكلات أفغانستان مع الجيران، وليحكم التاريخ كما يشاء".

وقَّع رئيس الوزراء الأفغاني الأسبق، موسى شفيق، ونظيره الإيراني، أمير عباس هويدا، اتفاقية تقسيم مياه نهر هلمند، والتي اشتهرت لاحقًا باتفاقية شفيق-هويدا، في 12 مارس/آذار 1973.

وفعلا وقَّع رئيس الوزراء الأفغاني الأسبق موسى شفيق ونظيره الإيراني أمير عباس هويدا اتفاقية تقسيم مياه نهر هلمند، والتي اشتُهِرت لاحقا باتفاقية شفيق-هويدا في 12 مارس/آذار 1973، وفقا للاتفاقية تستطيع إيران الاستفادة من 22 مترا مكعبا من المياه في الثانية، قبل أن تُمنَح 4 أمتار مكعبة أخرى لحسن النية، هذه الكمية كانت أقل من 10% من إجمالي المياه التي كانت إيران تحصل عليها سابقا من أفغانستان.

بعد توقيع الاتفاقية بين الجانبين في كابل كان الجميع يعتقد أن البرلمان الأفغاني لن يصادق عليها، لكنه وافق على الاتفاقية لسببين رئيسين، الأول: هو أن رئيس الوزراء موسى شفيق بذل جهدا كبيرا لإقناع النواب بها، أما السبب الثاني: فهو أن مدة البرلمان على وشك الانتهاء، ولم يعترض النواب على قرار الحكومة، حتى يتسنى لعدد منهم الترشح للمرة الثانية والفوز بمقاعدهم في البرلمان.

مع أن الاتفاقية لم تر النور بسبب الإطاحة بحكومة موسى شفيق والاجتياح السوفيتي لأفغانستان، العام 1979، وانعدام الأمن في كافة أرجاء أفغانستان، إلا أنها شكَّلت خطوة مهمة في حل النزاع بين البلدين.

غير أنه لم يحدث تبادل للوثائق الخاصة بالاتفاقية بين الطرفين، بسبب الانقلاب الذي أطاح بالنظام وحكومة موسى شفيق والذي أُعدِم على إثره لاحقا، ثم الاجتياح السوفيتي لأفغانستان عام 1979، والإطاحة بنظام الشاه في إيران في العام نفسه، جدير بالذكر أن التيار الشيوعي في أفغانستان رفض الاتفاقية وندد بها، بل اعتبرها خيانة، ولقَّب رئيس الوزراء موسى شفيق بـ"بائع المياه"، ولم يقتصر التنديد على المعارضة فقط، بل اعترض أيضا رئيس الوزراء السابق هاشم ميوندوال على الاتفاقية بين أفغانستان وإيران.

وعلي الجانب الإيراني نرى أن عددا كبيرا من الإيرانيين لم يكونوا راضين عن أداء حكومة أمير عباس هويدا في ملف تقسيم المياه، وفي هذا الصدد يعتقد الكاتب الإيراني بابيلي يزدي "أن رئيس الوزراء موسى شفيق الذي وقَّع اتفاقية تقسيم المياه مع إيران قد حدد بحنكته السياسية حق إيران في مياه نهر هلمند، حيث كانت إيران تستفيد من 70% من المياه الأفغانية، وعندما جاء الإنجليز منحوا الإيرانيين 50%، فيما أعطت حكومة موسى شفيق إيران 26% فقط، واعتبر هذا [مكسبا عظيما للدبلوماسية الأفغانية وهزيمة للإيرانيين]، حسب تعبيره".

وُلِدت اتفاقية تقسيم المياه بين أفغانستان وإيران ميتة إذن، لأن الوثائق لم تُتبادل بين الطرفين، بسبب انقلاب داود خان على ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه، وبوصول الشيوعيين إلى السلطة في أفغانستان في 27 أبريل/نيسان 1978 تعقَّد الوضع أكثر بين أفغانستان وإيران، وأدى التوتر الأمني والاجتياح السوفيتي السابق إلى توقف مشروعات بناء السدود غرب وجنوب البلاد.

 

حرب السدود

لطالما ألقت العلاقة المائية بين أفغانستان وجيرانها بظلالها على العلاقات الدبلوماسية والإستراتيجية، وكان ملف المياه بين أفغانستان وإيران حاضرا في كل اللقاءات والزيارات، وحسب مصدر في مجلس الأمن القومي الأفغاني: "لا أتذكر أن وفدا إيرانيّا جاء إلى كابل ولم يتطرق إلى ملف المياه".

من أطول أنهار أفغانستان نهر "آمو داريا" المشترك مع طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان

توجد في أفغانستان عشرة أنهار مختلفة، بعضها مشترك مع دول الجوار (مثل نهر هلمند الطويل الذي يصب في شرق إيران)، وبعضها الآخر يتدفق حصريّا داخل حدودها، من أطول هذه الأنهار نهر "آمو داريا" المشترك مع طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، ومن أقصرها نهر "كونر" المشترك مع باكستان، علما بأن هناك نهرا آخر مشتركا بينهما هو نهر كابل.

على مدار قرون وبسبب موقعها الجغرافي، تدفقت معظم المياه من أنهار أفغانستان الرئيسة شمالا صوب آسيا الوسطى، وشرقا صوب باكستان، وغربا صوب إيران دون أن يستفيد منها الأفغان. وفي حين تحوز أفغانستان 57 مليار متر مكعب من متوسط مياه الأنهار السنوي، فإنها لا تستهلك إلا أقل من 30% من هذه الكمية، ويذهب المتبقي من المياه إلى دول الجوار.

من هنا كانت قضية المياه دوما أحد المحددات الرئيسة للسياسة الأفغانية، وعندما وصل الرئيس الأفغاني السابق محمد أشرف غني إلى سدة الحكم عام 2014 تصاعدت حدة الاحتقان بين إيران وأفغانستان حول مشروعات بناء السدود التي تعتزم الأخيرة بناءها غرب البلاد وجنوبها، وخاصة في ثلاث ولايات، وهي: هرات وفراه ونيمروز التي تقع على الشريط الحدودي مع إيران.

أطلق الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني سياسة "المياه مقابل اللجوء"، موضحا في تصريح له أن أفغانستان لن تطلب من أحد مساعدة اللاجئين، فدول الجوار أيضا بحاجة إلى تعاون أفغانستان في ملف المياه، بعبارة أوضح اعتقدت أفغانستان أن بإمكانها التحكم بسياسات إيران وقرارتها بشأن أفغانستان عن طريق ملف المياه، وذلك عن طريق إقامة السدود على مجاري الأنهار التي تنبع من أراضيها، ولكنها وحسب الدراسات التي أجرتها وزارة المياه والري تحتاج أفغانستان إلى نحو 11 مليار دولار لتنفيذ مشروعات المياه التي تتطلع إليها لبناء السدود.

 

خطَّط الرئيس الأفغاني السابق لإنشاء 49 سدّا في عموم أفغانستان، لتنظيم الأنهار وإدارة المياه ورسم الإستراتيجية المائية لبلاده، وأمر بتعديل قانون المياه على أمل استخدامه ورقة ضغط على دول الجوار، وعلى الجانب الآخر استغلت إيران حالة أفغانستان غير المستقرة، وبنت أكثر من ثلاثين سدّا داخل أراضيها على أنهار تتدفق إلى إيران، وحفرت بمساعدة خبراء يابانيين الآبار في ولاية سيستان وبلوشستان، والتي تحافظ على مليار متر مكعب من المياه الأفغانية دون المشورة مع الجانب الأفغاني، ومدت أنابيب بطول 192 كيلومترا إلى مدينة زاهدان، وهي سياسات تقول الحكومة الأفغانية إنها تعارض كل الاتفاقيات بين البلدين.

 

ومع وصول حركة طالبان إلى السلطة في 15 أغسطس/آب الماضي طلبت إيران كعادتها من الحكومة الجديدة بدء المفاوضات بشأن تقسيم المياه والنظر في اتفاقية موسى شفيق-هويدا، ويعتقد مستشارون وصناع قرار في إيران أن ندرة المياه في المنطقة يمكن أن تُسبِّب توترا بين إيران وجيرانها في المستقبل القريب، وأن طهران تُفضِّل حل الخلافات حول المياه مع جيرانها من خلال الدبلوماسية بدلا من المواجهة العسكرية، وفي مؤتمر وطني حول دبلوماسية المياه في طهران دعا الجنرال رحيم صفوي إلى "محادثات مفتوحة حول إدارة المياه" مع العراق وأفغانستان وتركيا وبلدان أخرى تتقاسم موارد المياه مع إيران، وأشار إلى أن إيران تتشارك موارد المياه مع 12 دولة مجاورة، وأكد أنه مع تفاقم مشكلات المياه في المنطقة سيكون هناك المزيد من التعاون أو المواجهة بين إيران وجيرانها في المستقبل.

أي مستقبل؟

تلعب الأنهار الأفغانية وخاصة نهر هلمند دورا جيوسياسيّا كبيرا في العلاقات بين البلدين، وتستطيع أفغانستان أن تستخدم المياه أداة سياسية واقتصادية في علاقاتها مع إيران وجيرانها، خاصة أن 95% من المياه تتدفق داخل الأراضي الأفغانية.

تتلخص مشکلات إيران مع أفغانستان في إدارة مواردهما المائية المشتركة في السدود الأفغانية التي تدشنها كابل على أنهار عدة تصل روافدها إلى إيران، ومن أهم هذه الأنهار نهر هلمند الذي ينبع من جبال أفغانستان، ويصب في بحيرة هامون المشتركة مع إيران.

ويثير إصرار أفغانستان على بناء عدة سدود على أنهارها المشتركة مع إيران استياء الأخيرة، وقد لجأت أفغانستان مؤخرا إلى الاستعانة بخبرات تركية على هذا الصعيد، وتعتبر إيران أن هذه السدود تحول دون الاستفادة من مياه الأنهار القادمة إليها من الداخل الأفغاني، وحاولت طهران من خلال أوراق ضغط في الداخل الأفغاني الضغط على كابل للعدول عن قرار إنشاء مثل هذه السدود، وكان آخرها سد "كمال خان" بولاية نيمروز بالقرب من الحدود الإيرانية الذي جرى افتتاحه في مارس/آذار 2021، حيث بلغت تكلفة تشييده 78 مليون دولار، واستغرق بناؤه 4 أعوام كانت مليئة بالشد والجذب بين الدولتين بشأن تأثيره على حصة إيران من المياه.

_______________________________

هذا التقرير مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات.

المصدر : الجزيرة