شعار قسم ميدان

صراع الدبيبة وباشاغا.. هل عادت الحرب الأهلية إلى ليبيا مجددا؟

فتحي باشاغا و عبد الحميد الدبيبة

مقدمة التقرير:

خلال الساعات الماضية، شهدت العاصمة الليبية طرابلس اشتباكات بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة في مناطق بوسط العاصمة وضواحيها، أدت إلى مقتل 23 شخصا بينهم 18 مدنيا، وإصابة 140 شخصا على الأقل، إثر اندلاع المواجهات بين قوات حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وقوات تابعة لرئيس الحكومة المكلف من مجلس النواب فتحي باشاغا، وسط اتهامات متبادلة من الحكومتين بمحاربة الشرعية وتقويض استقرار البلاد وبسط السيطرة بالقوة. وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن ليبيا تنجرف مجددا إلى الحرب الأهلية حيث تتنافس حكومتان على بسط سيطرتهما بالوسائل العسكرية، لكن الجديد هذه المرة أن مركز ثقل كلتا الحكومتين بات يقع في العاصمة طرابلس وما حولها، التي يبدو أنها ستكون المسرح الرئيسي للصراع خلال الأسابيع القادمة.

نص التقرير:

مرة أخرى، يعود الزمان قسرا إلى الوراء، وتشهد ليبيا من جديد انقساما سياسيا بعد نحو عقد من التناحر، وتمضي البلاد وأهلها إلى مفترق طرق قد يُعيدهم إلى "المربع صفر" الذي لم يبرحوه إلا قليلا. ففي الماضي القريب، احتدمت المنافسة بين برلمانَين متنافسَين، وثلاث حكومات، وبنكَين مركزيَّين، وشركتَين نفطيتَين وطنيّتَين، وعشرات الجماعات المسلحة؛ والآن تعاود الأحداث أدراجها إلى انقسام سياسي واقتصادي وجغرافي مُتجدِّد، إذ توجد حاليا حكومتان متنافستان، واحدة عيَّنها البرلمان، والأخرى تحظى باعتراف الأمم المتحدة، وتضغط كلتاهما لتكون صاحبة السلطة الشرعية، وتمتلك كلٌّ منهما الموالين لها من المُسلَّحين، وكذلك الحلفاء الدوليين المؤثرين.

 

بدأ الاستعداد للصدام الأهلي الوشيك مبكرا بتأكيد رئيس حكومة الوحدة الوطنية "عبد الحميد الدبيبة" بأنه لن يسمح بمرحلة انتقالية جديدة، ولا بسلطة موازية في ليبيا، وأن تعيين البرلمان حكومة جديدة يعني الحرب والفوضى في البلاد، لا سيما أن الطريق ليست مُمَهدة لإجراء الانتخابات الرئاسية التي فات موعدها. ومع إعلان رئيس الحكومة المُكلَّف من البرلمان "فتحي باشاغا" على لسان وزير داخليته بدء الترتيبات الأمنية لدخول العاصمة ومباشرة أعمالها من هناك، شهدت طرابلس مواجهات عسكرية دامية بين الفريقين. كيف عادت الأمور إذن إلى المربع صفر؟ وما المؤشرات على عودة الاقتتال في ليبيا؟

فتحي باشاغا (رويترز)
فتحي باشاغا (رويترز)

تعطيل وقف إطلاق النار

مع تنصيب مجلس النواب في طبرق حكومة باشاغا، ورفض الدبيبة التنحي عن السلطة، باتت ليبيا كلها في حالة الترقب، بما في ذلك المجلس الرئاسي نفسه الذي سعى لالتزام الحياد بين الطرفين المتنازعين، مركِّزا على جهوده لتوحيد المؤسسة العسكرية. وبينما تلوح في الأفق بوادر الانقسام السياسي والجغرافي من جديد، يبدو السيناريو الأقرب على الأرض هو تجدُّد الحرب الأهلية لعلها تحسم هذه المرة بالقوة ما عجزت السياسة عن حسمه بالوفاق.

 

على وجه الخصوص، تنطوي تحرُّكات الجنرال الليبي "خليفة حفتر" -كما كانت دوما- على الاستعداد العلني للحرب، لا سيما أنه رأس الحربة في تأجيج الاضطرابات، وقد ارتسمت معالم خطته بانسحاب أعضائه من اللجنة العسكرية الليبية المعروفة بلجنة "5+5″، وتضم خمسة من الموالين له وخمسة من الموالين لحكومة الوفاق. وقد علَّق الأعضاء المنسحبون أيضا اتفاق وقف إطلاق النار المُبرَم بين الطرفين في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وتتوافق المواقف الجديدة مع رغبة الشرق الليبي بتغيير موازين القوى في البلاد عبر السيطرة على موانئ النفط ومنع تصديره، وإغلاق الطريق الساحلي وتعطيل الرحلات الجوية بين الشرق والغرب، وإيقاف جميع أوجه التعاون مع حكومة الدبيبة، ومن ثم استعادة حالة الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي الكامل داخل ليبيا.

 

تُمهِّد التطورات الحالية للدعوة الصريحة لانقسام المؤسسات الليبية السيادية التي ما زالت تلتزم الصمت حتى اللحظة، مثل البنك المركزي، ومؤسسة النفط. ويُخبرنا الماضي القريب أن الجنرال الليبي حفتر استفاد من حالة الانقسام تلك والفوضى المصاحبة لها عام 2014، وقاد عملية عسكرية حاول خلالها إسقاط العاصمة طرابلس، وهو طموح تصدَّى له بقوة حليفه الحالي، وعدوّه بالأمس، "فتحي باشاغا"، أحد صُنَّاع انتصارات الوفاق في معارك الغرب الليبي.

 

 شقُّ كتائب مصراتة

كتائب مصراتة

حين أراد حفتر خوض معركة دخول طرابلس في مارس/آذار 2019، اعتمد خطة الهجوم من الجنوب، ومنه التف إلى الغرب متجاهلا أقرب نقطة من الشرق، وهي مدينة "مصراتة" التي تقع في الشمال الغربي، وتبعد عن طرابلس نحو 187 كيلومترا. كان من المنطقي بالنسبة إلى حفتر أن يسلك الطريق الأقصر، غير أن ذلك كان سيورِّطه في معركتين يستحيل عليه نظريا أن يحسم أيًّا منهما. ولطالما نُظر إلى المدينة على أنها حائط الصد أمام حفتر، فبخلاف كونها معقلا للمال ورجال الأعمال، فهي أيضا موطن أبرز الجماعات المسلحة في ليبيا، إذ تحوز المدينة الهادئة قوةً عسكرية هائلة جعلت الجميع ينظر إليها بأنها الورقة الرابحة في أي صراع للسيطرة على العاصمة.

 

اكتسبت المدينة هيبتها نظرا للسجل الحافل لكتائبها، وخاصة انتزاعها طرابلس في أيام معدودات من كتائب القذافي، بخلاف إلحاقها هزيمة موجعة بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش". وحين انقسمت ليبيا إلى ما يشبه الدولتين عام 2014، انحازت المدينة التي تحمل وحدها نصف العتاد العسكري الذي خلَّفه القذافي إلى حُكَّام طرابلس، وأكَّدت سُلطتهم في البقاء، رغم أن غريمها في الشرق حاز في يده فعليا أغلب التراب الليبي. وقد وقف باشاغا في قلب تلك الأحداث آنذاك بوصفه ضابطا اكتسب نفوذه من انضمامه إلى المجلس العسكري لمصراتة، وأحد المؤسسين لكتائب "فجر ليبيا" ذائعة الصيت، حتى انتقل بعدئذ إلى العمل السياسي وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق فائز السراج. ومن ثمَّ ترسم هذه التحوُّلات الجديدة الآن المشهد الليبي، إذ تنحصر المعركة بين اثنين من أبناء مدينة مصراتة هُما "الدبيبة" و"باشاغا".

 

من المنتظر أن تحسم كتائب مصراتة سيناريو الصراع الحالي، فرغم أن رئيس الحكومة ما زال يمتلك دعما من قبائل وأعيان المدينة، الذين اعتبروا في بيان لهم قبل أشهر أن تشكيل حكومة موازية تمكينٌ للانقلابيين، فإن مصراتة الآن ليست على قلب رجل واحد، إذ يمتلك باشاغا نفوذا سياسيا وعسكريا فيها قد يضاهي نفوذ القوى الموالية للدبيبة. وقد تعمَّد باشاغا الإعلان عن مقابلة مع عدد من أبرز قادة كتائب مصراتة في تونس، من بينهم آمر "شعبة الاحتياط" بقوة مكافحة الإرهاب، وآمر "كتيبة 166 للحماية"، في إشارة صريحة إلى أن المعادلة العسكرية متكافئة بين داعمي الدبيبة الذين يطالبون بطرح مشروع الدستور للاستفتاء، مع إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، وداعمي باشاغا ممن يدعمون قرار البرلمان بحل حكومة طرابلس.

عبد الحميد الدبيبة (رويترز)
عبد الحميد الدبيبة (رويترز)

سياسة بلا أفق

بينما يرفض الدبيبة الاستقالة والتنحي عن السلطة، مستندا في بقاء حكومته إلى مُخرَجات ملتقى الحوار الليبي الذي رعته الأمم المتحدة وحدَّدت فيه مدة عمل السلطة التنفيذية الانتقالية بـ18 شهرا تمتد حتى يونيو/حزيران القادم؛ يرفض البرلمان تلك الرؤية، ويُصِرُّ على سحب الثقة منه بدعوى فشل حكومته في المهام الموكلة إليها بمحاربة الفساد وتوحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، والأهم عجزه عن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.

 

في ظل حالة الاستقطاب بين الحكومة والبرلمان، يتبقى في المشهد مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وهما جهتان سياسيَّتان محوريتان من الممكن أن ترسم أيٌّ منهما معالم الانقسام. بالنسبة إلى المجلس الرئاسي، فإن رئيسه "محمد المنفي" يتمسك بلعب دور الوسيط لتجنيب ليبيا مصير الانقسام النهائي إلى حكومتين، مع أمل الوصول إلى مخرج للمأزق السياسي والدستوري، رغم أنه جاء إلى منصبه بالصفة الشرعية ذاتها التي أوصلت الدبيبة إلى الحكم (مباحثات جنيف). من جهته، يتخذ مجلس الدولة برئاسة "خالد المشري" -صديق باشاغا- موقفا ضبابيا غير واضح المعالم، ويركِّز جهوده على التوافق على قاعدة دستورية مع البرلمان لإجراء الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة.

 

يزيد الأمور تعقيدا أن الانتخابات تأجَّلت إلى أجل غير مُسمّى، مع تأكيد الدبيبة أنه لن يُسلِّم السلطة إلا عبر انتخابات، إذ أكَّد الرجل مرارا أنه لن يقبل بأي صيغة أخرى للخروج من منصبه؛ ما يجعل الحل العسكري خيارا وحيدا لحسم الصراع بين الطرفين، وفرض واقع سياسي جديد بواسطة السلاح بعد فشل إجراء الانتخابات.

البرلمان يمتلك شرعية الحرب

بخلاف ذلك، يمتلك البرلمان الليبي، صاحب السلطة التشريعية المعترف به دوليا، أحقية قانونية لشرعنة أي صراع مرتقب، وتلك هي واحدة من أكبر أزمات ليبيا خلال عقدها المنصرم، فمن بوابة البرلمان انقسمت ليبيا عام 2014 إلى حكومتين متنازعتين عقب رفض البرلمان قرار المحكمة العليا، أعلى سُلطة دستورية، ببطلان الانتخابات. وعبر بوابة البرلمان عاد حفتر إلى بذلته العسكرية رسميا، وأدَّى القسم القانوني إلى تولي منصب القائد العام للجيش الليبي.

 

في ظل وجود حكومتين في البلاد، الأولى أدَّت اليمين أمام مجلس النواب، والثانية ترفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، مع غياب تفعيل المحكمة الدستورية للفصل في ذلك الخلاف؛ لا يمتلك الدبيبة أي أوراق سياسية فعلية سوى الاعتراض قائلا إن خطوة البرلمان غير دستورية، لا سيما أن البرلمان لا يواجه تحرُّكا فعليا ضده من مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وهو ما يعني أن الكفة تميل سياسيا بالفعل لصالح باشاغا.

 

وقد فرض البرلمان رأيه سابقا وتجاوز الجميع فيما يخص ترتيبات إنهاء المرحلة الانتقالية من خلال خطوات تعديل الحكومة، ثم بدأ مشاورات خاصة لاعتماد القاعدة الدستورية، تليها القوانين الانتخابية، وهي خطوات يعارضها مجلس الدولة، لكنه فشل سابقا في عرقلتها فعليا، وحتى المجتمع الدولي نفسه فشل سابقا في الضغط على البرلمان لتثبيت حكومة الدبيبة، ويخشى الدبيبة فعليا من سطوة البرلمان لكونه يمتلك شرعية شن الحرب، وهي حرب قد لا تخرج نتائجها في صالح طرابلس بالنظر إلى ما يُشكِّله انضمام باشاغا إلى الشرق من إضعاف جبهة الغرب، في حين تظل قوات حفتر على حالها دون انقسامات.

 

الأمم المتحدة تمنح الضوء الأخضر ضمنيا للانقسام

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (رويترز)
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (رويترز)

يبدو عجز الأمم المتحدة في الوصول إلى حل سياسي يُنهي حالة الصراع في الداخل الليبي جليا للجميع، فتأكيدها الاعتراف بشرعية الدبيبة دون سواه لم يحل المشكلة، كما فشلت حتى الآن الوساطات الدولية والمحلية لمنع العودة إلى النزاع المسلح. وبدلا من ذلك، تجاهلت المستشارة الأممية بشأن ليبيا "ستيفاني وليامز" المُعضلات الأساسية، وطرحت مبادرة نصت على البدء الفوري بإجراء مشاورات بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة لوضع أساس دستوري ينقل البلاد إلى الانتخابات في أقرب وقت، دون أن تتناول الحشد العسكري من الطرفين في الفترة الأخيرة.

 

بينما تشهد ليبيا تنازعا بين شرعيتين، لم تتدخل الأمم المتحدة كعادتها للحيلولة دون تجدُّد الصراع العسكري، وهو ما حدث سابقا حين شن حفتر حربه على حكومة الوفاق السابقة المعترف بها دوليا، التي طالبت بفرض عقوبات على حفتر أو الدول الداعمة له دون استجابة آنذاك. وفي ظل وصول الأزمة إلى طريق مسدود دون مبادرة سياسية حقيقية تجلب الفرقاء إلى طاولة المفاوضات والتنازلات، لا يبدو أن المجتمع الدولي في خضم انشغاله بصراعات أشد احتداما -مثل أوكرانيا- مُهتما بما يدور، وعلى الأرجح أنه سيتجاهل الصراع العسكري مرة أخرى على أمل أن يفرض المنتصر شرعيته السياسية في النهاية.

 

لا تكمن مشكلات ليبيا في النفط فحسب، ولا في تداعيات الثورة كذلك، بقدر ما تكمن في أن البلاد لم تبذل جهدا حقيقيا في بناء الدولة والمؤسسات؛ ما سيترك الخارطة الاجتماعية والسياسية والجغرافية مُجهَّزة للصراع الأهلي. قبل عام، فشل رهان السياسة في ليبيا، وانتصر الانقسام القبلي والعسكري، وحينما قرر الفرقاء اختيار حكومة مؤقتة ليست من بينها تلك الوجوه القديمة التي تحظى بالقوة السياسية والعسكرية النافذة، لم ينتهِ الانقسام، وظهرت مطامع جديدة لفرقاء جدد من ثنايا منظومة سياسية واجتماعية منحازة بطبعها إلى المساومات المحلية والقبلية، لا إلى الحلول الوطنية الجامعة. على ما يبدو إذن أن الحل الوحيد الذي يرتضيه الجميع حاليا هو "الحرب الأهلية"، أملا في أن يظهر منتصر بشرعية جديدة في النهاية، تُنهي عجز السياسة عن صناعة الدولة في ليبيا.

المصدر : الجزيرة