شعار قسم ميدان

عقيدة أمنية جديدة.. لماذا تعيد اليابان بناء جيشها؟

YOKOSUKA, JAPAN - NOVEMBER 06: The Japan Maritime Self-Defence Force Uzushio-class submarine participates in an International Fleet Review commemorating the 70th anniversary of the founding of the Japan Maritime Self-Defence Force at Sagami Bay on November 6, 2022 off Yokosuka, Japan. The Japan Maritime Self-Defence Force (JMSDF) is commemorating the 70th anniversary of their founding today. (Photo by Issei Kato - Pool/Getty Images)
غواصة يابانية في خليج ساجامي، جنوب طوكيو، اليابان، نوفمبر 2022. (رويترز)

مقدمة الترجمة:

في 16 ديسمبر/كانون الأول أدخلت اليابان تغييرات جذرية غير مسبوقة على عقيدة الأمن القومي الراسخة في البلدان منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قررت طوكيو زيادة إنفاقها العسكري والتخلي نسبيا عن سياسات التقيُّد العسكري المتبعة منذ عقود، سعيا لامتلاك القدرة على تنفيذ "هجوم مضاد" ضد أي خصم يستهدف أراضيها. يأتي هذا التحول مدفوعا بزيادة التهديدات في منطقة شرق آسيا، والتي دفعت القادة اليابانيين لمراجعة سياساتهم الراسخة. فما هي التهديدات التي تخشاها طوكيو؟ وما الذي تعنيه سياستها الدفاعية الجديدة؟ هذا ما تسعى جينفر ليند، الأستاذ المشارك للسياسات الحكومية في كلية دارتموث، للإجابة عنه في مقالها المنشور بمجلة فورين أفيرز.

 

نص الترجمة:

خَطَت اليابان في 16 ديسمبر/كانون الأول خطوة هامة لتصبح قوة عالمية "طبيعية"، وذلك بعد المصادقة على تغييرات جذرية في سياسات التقيُّد العسكري المُتبَعة منذ عقود. ففي إطار إستراتيجياتها الجديدة للأمن القومي، ستضاعف اليابان إنفاقها العسكري، بل وستطوِّر كذلك القدرة على تنفيذ "هجوم مضاد" بما يُمكِّنها من شن هجمات على أراضي العدو الذي استهدفها. إن هذه التحركات مؤشر على تحول عميق، لطالما لاحظ مراقبو العلاقات الدولية أن اليابان تمتلك إمكانيات ديمغرافية واقتصادية وتقنية تؤهلها لتكون دولة عظمى، فهي تضطلع بدور بارز في مؤسسات النظام العالمي ومسارات التنمية فيه، وكذلك العديد من حيثيات السياسة الدولية الأخرى، ولكن عسكريا، عادة ما قصرت طوكيو أنشطتها على عمليات حفظ السلام متعددة الأطراف والتحالف الأميركي-الياباني.

تُعد سياسة التقيُّد العسكري من صميم سياسة الأمن القومي الياباني منذ الحرب العالمية الثانية. فقد قمعت الحكومات اليابانية المتعاقبة أثناء الحرب الباردة نفوذ الجيش في السياسة وابتعدت عن أساليب الحُكم العسكري. ومارست الولايات المتحدة مرارا الضغط على طوكيو للإنفاق وفعل المزيد في المجال العسكري كي تتحمل جزءا من أعباء الدفاع عن نفسها، كما فضَّل بعض المحافظين في الحزب الديمقراطي الليبرالي المهيمن في اليابان تعزيز القدرات الدفاعية للبلاد. غير أن دعوات من هذا القبيل اصطدمت عادة بمفهوم اليابان عن "الدفاع الدفاعي" في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي استوجب تكوين جيش للدفاع عن النفس وحسب، وتجنُّب القدرات والمهام الهجومية. وترتكز هذه العقيدة على الدستور والتشريعات الأخرى التي صدرت في البلاد بعد عام 1945، كما دافعت عنها أحزاب المعارضة الحذرة وعامة الشعب الياباني نفسه. وقد خلقت السياسة الأمنية اليابانية المقيدة تلك العديد من المحظورات والخطوط الحمراء فيما يتعلق بقدرة اليابان على التأثير والنفوذ والقوة، على سبيل المثال، حظرت اليابان على نفسها حيازة الصواريخ بعيدة المدى، وكذلك امتلاك القدرات البرمائية وحاملات الطائرات.

 

على مر السنين، وفي أوقات تصاعد التهديد، راجعت طوكيو من حين لآخر أفكارها المتعلقة بالأدوار والقدرات الدفاعية مقارنة بالهجومية. فمثلا، بعد أن اختبرت كوريا الشمالية صاروخا حلَّق فوق اليابان عام 1998، قررت طوكيو حينها امتلاك أقمار صناعية عسكرية كانت تعتبرها سابقا عسكرة غير قانونية للفضاء. ولدى اليابان الآن حاملات طائرات صغيرة وسلاح لمشاة البحرية، لكن سياسة الدفاع القومية ظلت ثابتة بوجه عام. ومع ذلك، فإن إستراتيجية الأمن القومي الجديدة تمثل تغييرا مذهلا، فمن خلال مضاعفة الإنفاق الدفاعي وإلزام نفسها بالحصول على قدرة "الهجوم المضاد"، أخذت الحكومة تسن سياسات بقيت قيد الجدل على مدى عقود دون أن تخرج إلى النور، بيد أن ذلك تغيَّر للتو.

 

ردا على هذا الإعلان، اتهم المنتقدون في بكين وغيرها من بلدان اليابان بالعودة إلى العسكرة التي هيمنت على الحُكم فيها حتى عام 1945، وهو ما يعتبرونه "ماضي اليابان المظلم". لكن ذلك الاتهام غير صحيح، فاليابان اليوم عضو موثوق به في النظام الدولي، وهي دولة رائدة عالميا في مجال الحوكمة والتنمية والتقنية والفنون والثقافة، وحتى مع التغييرات المعلنة في عقيدة الأمن القومي خاصتها، فإن سياستها الأمنية ستستمر في ترسيخ التحالف الأميركي -الياباني. ولذا، فإن اليابان اليوم بعيدة كل البعد عن شبح العسكرة، بل إنها تتفاعل فحسب، بعد تردد طويل، مع التهديدات الإقليمية المتزايدة من حولها.

 

اليابان والمخاطر الجديدة في آسيا

إن التحديات الكبيرة الجديدة في آسيا هي المسؤولة عن التحول التاريخي الجاري في اليابان، فالصين منخرطة في تكديس أسلحة تقليدية ونووية، كما تقوم الطائرات والسفن العسكرية الصينية بشن غارات عسكرية متكررة في المياه اليابانية وحول الجزر المتنازع عليها مع اليابان. وتزداد وتيرة التهديدات التي توجهها بكين نحو تايوان، التي تعتز اليابان بديمقراطيتها، كما تعتبر مسألة استقلالها أمرا حاسما لأمنها.

 

علاوة على ذلك، أصبحت كوريا الشمالية أكثر تهديدا مما سبق، حيث زادت من وتيرة اختبار الصواريخ، فقد أجرت 86 اختبارا هذا العام (2022)، بالمقارنة مع معدلها السابق الذي بلغ أعلى مستوى له بـ26 اختبارا فقط عام 2019. واعتاد المواطنون اليابانيون على سماع صافرات الإنذار والنداءات المطالبة بالاحتماء، جراء تجوال صواريخ كوريا الشمالية عبر أجوائهم. وقد أجرت بيونغ يانغ منذ عام 2006 ست تجارب نووية، بينما يحذر الخبراء من احتمالية حدوث التجربة السابعة قريبا. فمن ترسانة كانت تحتوي على عدد ضئيل من القنابل الانشطارية، أحرزت كوريا الشمالية تقدما حقيقيا في تطوير أسلحة نووية حرارية أشد قوة، كما غيرت مؤخرا عقيدتها النووية لتسمح لها بتوجيه ضربات استباقية، وباستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في ساحة المعركة.

 

لقد غيرت الحرب الأوكرانية كذلك تصورات اليابانيين. فقد أيَّد الرأي العام بقوة الجهود الساعية لفرض عقوبات على روسيا، كما حمل دفاع أوكرانيا الناجح في مواجهة الغزو الروسي رسالة ذات مغزى إلى اليابانيين مفادها حاجتهم الماسة إلى جيش حقيقي. ولذا، دفعت هذه التهديدات المتزايدة الحكومة اليابانية إلى إجراء تغييرات تاريخية في سياستها الأمنية.

Japanese Prime Minister Kishida’s press conference- - TOKYO, JAPAN - DECEMBER 16: Japan’s Prime Minister Fumio Kishida gives a press conference in Tokyo, Japan, on December 16, 2022, addressing some topics such as National Security Strategy, political and social issues facing Japan in today’s World crisis.
طلب رئيس الوزراء الياباني "كيشيدا" من الولايات المتحدة 500 صاروخ توماهوك، مما سيتيح لليابان أن تبلغ أهدافا في كوريا الشمالية وفي الأجزاء القريبة في الصين. (الأناضول)

أولا، من شأن إستراتيجية الأمن القومي الجديدة أن تضاعف ميزانية الدفاع تقريبا في غضون السنوات الخمس القادمة، حيث تنفق اليابان حاليا 54 مليار دولار على الدفاع، في حين سيزيد التغيير الجاري من الإنفاق ليصل إلى ما يقارب 80 مليار دولار بحلول عام 2027. لقد قصرت طوكيو ميزانيتها العسكرية منذ عام 1958 على حوالي 1% من إجمالي الناتج المحلي، وهو سقف تحول إلى رمز لسياسة الأمن القومي اليابانية داخل وخارج البلاد على حد سواء. ورغم اختبارها على مدى سنوات من قِبل العديد من القادة المحافظين، فإن الرأي العام وجهود المعارضة أبقت سقف الواحد بالمئة في مكانه. بيد أن البيئة المحيطة باليابان اليوم، الأشد تهديدا، حفزت دعم الشعب الياباني لزيادة الإنفاق الدفاعي، ومن شأن هذا التغيير أن يجعل اليابان (التي تحتل المرتبة التاسعة في الإنفاق العسكري عالميا الآن) ثالث أكبر دولة تنفق على الدفاع عالميا، بعد الولايات المتحدة والصين فقط، متجاوزة بذلك الهند والمملكة العربية السعودية والقوى الأوروبية الكبرى.

 

ثانيا، فإن القدرات الصاروخية المتنامية للصين وكوريا الشمالية تدفع طوكيو للتحول من الاعتماد على الدفاع الصاروخي فقط إلى تبني قدرات "الهجوم المضاد". وفي حال نشبت حرب في كوريا أو تايوان، من المحتمل أن يستهدف الخصم القواعد اليابانية بهدف تدمير المطارات الرئيسية المستخدمة بواسطة القوات الأميركية. وبالنظر إلى تنامي القدرات الصاروخية لكل من الصين وكوريا الشمالية، يخشى رئيس الوزراء الياباني "فوميو كيشيدا" وغيره من القادة اليابانيين أن الدفاعات الصاروخية اليابانية الحالية لم تعد كافية. ولذا، فإن الحكومة تتجه نحو مفهوم الهجوم المضاد.

 

قدرات الردع والرد

ستُمكِّن القدرة على شن الهجوم المضاد اليابان من الرد على قاذفات صواريخ العدو ومواقع القيادة والسيطرة لإحباط المزيد من الهجمات، في حال أصيبت بالفعل بضربة من أحد أعدائها. وقد طلب "كيشيدا" من الولايات المتحدة 500 صاروخ توماهوك، مما سيتيح لليابان أن تبلغ أهدافا في كوريا الشمالية وفي الأجزاء القريبة في الصين. وقبلت واشنطن الصفقة، ووصف الرئيس الأميركي "جو بايدن" طوكيو بأنها "مُشترٍ ذو أولوية عالية". وكذلك تعمل قوات الدفاع البرية اليابانية على توسيع مدى صاروخ "النوع 12" المضاد للسفن، حيث من المتوقع نشر النسخ المُحدَّثة منه عام 2026.

Japan leaders' military visit in Chiba- - KISARAZU, JAPAN - JUNE 16 : Senior leaders from 18 militaries, representatives of nations from North America, Asia, South America, Australia, and Europe, allied and partner marine forces, naval infantries and littoral militaries, attend a presentation of the Ground Self-Defense Force Type 12 Surface-to-Ship Missile vehicle (12SSM) as they visit a Japan Self Defense Force Eastern Army garrison of 1st Helicopter Corps and 4th Anti-Tank Helicopter Corps of Kisarazu Air Field on June 16, 2022, at Azuma, Kisarazu City located in the midwestern part of Chiba prefecture, Japan, on the second day of the 2022 Pacific Amphibious Leaders Symposium (PALS22).
تعمل قوات الدفاع البرية اليابانية على توسيع مدى صاروخ "النوع 12" المضاد للسفن. (الأناضول)

استمرت مناقشة القادة اليابانيين هذه القدرات لعدة عقود. ففي عام 1956، حاجج رئيس الوزراء "هاتوياما إيتشيرو"، المنتمي للحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني، بأن الضربات المضادة دفاعية ومن ثم قانونية وفقا لعقيدة الدفاع الدفاعي. وقد صرح قائلا: "لا أعتقد أن الدستور يقول بأن نجلس وننتظر الموت". غير أن المعارضة المحلية تغلبت على مساعيه للتغيير آنذاك. إلا أن منطقة شرق آسيا جد مختلفة اليوم، وكذلك السياسة اليابانية. وحتى الشريك الائتلافي للحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني، وهو حزب "كوميتو" المعروف بأنه سلمي، فإنه بات يدعم التحرك لاكتساب قدرات الضربات المضادة بسبب التهديدات الإقليمية المتزايدة، رغم أن مُشرِّعيه يدعون إلى فرض مجموعة من القيود المتعلقة بالأهداف والظروف التي يمكن بموجبها شن الضربات.

 

تأتي هذه التحركات التاريخية وسط تعاون ياباني أكبر مع شركاء طوكيو الإقليميين. لقد توترت العلاقات الثنائية مع كوريا الجنوبية منذ فترة طويلة (نتيجة لانتهاكات اليابان حقوق الإنسان في كوريا أثناء الحرب العالمية الثانية). وردا على تسارع وتيرة اختبار الصواريخ الكورية الشمالية، أعرب القادة اليابانيون والكوريون الجنوبيون، بالرغم من ذلك، عن اهتمامهم بمتابعة اتفاقية تبادل المعلومات الاستخباراتية التي ألغوها سابقا، كما عزز البلدان تدريباتهما الثنائية على الدفاع الصاروخي مع الولايات المتحدة. ولا يزال النزاع الإقليمي بين طوكيو وسيول قائما، فرغم أن الدولتين لم تتوصلا إلى اتفاق بخصوص تسمية البحر المشترك بينهما، وما إن كان بحر اليابان أم البحر الشرقي، فإنهما اتفقتا على إرسال قواتهما البحرية هناك في أكتوبر/تشرين الأول الماضي للقيام بمناورات دفاعية صاروخية مع الولايات المتحدة.

 

أخيرا، يُعد تبني طوكيو قدرات الهجوم المضاد ومضاعفة ميزانيتها الدفاعية، في خضم تعاون أمني متجدد مع كوريا الجنوبية، تطورا استثنائيا، وهو تطور مدفوع بهدف الحماية، لا الطموح العسكري، كما يجري التفاوض عليه بين شركاء التحالف، وعلى مرأى ومسمع رأي عام ياباني يَقِظ وحَذِر. إن تحركات اليابان، على الأقل من وجهة نظر الولايات المتحدة وشركائها، أنباء جيدة وتشير إلى إسهام أكبر في أمن آسيا من قِبل دولة تميل إلى السلام. وبطبيعة الحال، فإن الصين وغيرها من نُقَّاد اليابان سيتهمونها حتما بزعزعة استقرار المنطقة.

———————————————————————–

هذ المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: كريم محمد.

المصدر : مواقع إلكترونية