شعار قسم ميدان

مقاومة عابرة للزمن.. لماذا تخاف إسرائيل من عرين الأسود؟

مجموعة "عرين الأسود" الفلسطينية.. ما الذي تعرفه عنها؟

"أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي، فموتي كان للوطن وليس لكم. لا أُريد بوسترات، فلن تكون ذكراي في بوستر معلق على الجدران فقط".

(بهاء عليان)

حين أُعلن استشهاد المقدسي "بهاء عليان" (22 عاما) في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2015، فتَّش النشطاء عن أي أثر يمكن أن يُعرفهم بهذا الفدائي الذي أسفرت العملية التي نفَّذها مع رفيقه "بلال غانم" عن مقتل ثلاثة مستوطنين وإصابة آخرين، ومن بين ثنايا أرشيف الشاب، خرجت تلك الوصية التي كتبها قبل نحو عام من استشهاده، التي حملت عنوان "الوصايا العشر لأي شهيد". ركزت وصية بهاء عليان على أهمية التحرك نحو مقاومة الاحتلال دون انتظار دعم من أحد، وكأنه يعلن عن زمن جديد سِمَته الرئيسية هي عمليات المقاومة الفردية التي رأى أن من المهم ألا يتبنَّاها تنظيم أو جهة ما.

 

كان بهاء واحدا من منفذي العمليات المسلحة الفردية الذين ألهموا جيلا كبيرا من الشباب الفلسطينيين نحو التخطيط والتنفيذ الفردي لعمليات مسلحة ضد أهداف إسرائيلية، وألهموا بعد ذلك الجماعات المحلية نفسها التي تضم فرقا صغيرة جمعها هدف واحد، هو شن هجوم ضد الاحتلال دون أي التزام تنظيمي محدد. انطلقت هذه السلسلة من العمليات لتُصبح خلال فترة وجيزة أحد أكبر التحديات الأمنية التي تواجه دولة الاحتلال، كونها صعبة التنبؤ بزمانها ومكانها وشخوصها وسُبل صدها، وهو ما يمس دون شك منظومة الأمن الإستراتيجي لإسرائيل.

انطلاقة العمليات الفردية

مع تعدُّد جرائم المستوطنين ووحشيتها، كانت جريمة اختطاف وتعذيب الطفل محمد أبو خضير ثم حرقه حيًّا حتى الموت واحدة من أبشع الجرائم التي استفزت مشاعر الفلسطينيين في السنوات الأخيرة. خرج الطفل البالغ من العمر 16 سنة فجر يوم الثاني من يوليو/تموز 2014 من منزله الكائن بمخيم شعفاط في القدس المحتلة، قاصدا المسجد لأداء صلاة الفجر، وبينما هو في الطريق استوقفه ثلاثة مستوطنين وسألوه عن الطريق إلى تل أبيب. وعلى حين غرة، باغت المستوطنون الثلاثة الطفل فاختطفوه، ثم اتجهوا به نحو أحراش دير ياسين (غربي القدس)، حيث عُثر على جثته متفحمة فيما بعد.

 

لم يُصدر القضاء الإسرائيلي أي أحكام ترقى إلى فحش الجريمة، وهو ما شجَّع المستوطنين الإسرائيليين على تكرار الفعل بصور مختلفة، أبشعها ربما كانت جريمة حرق منزلين لعائلة الدوابشة بقرية دوما (نابلس) عن طريق عبوات مولوتوف في 31 يوليو/تموز 2015. أكلت النار جميع أفراد العائلة الذين كانوا نياما، بداية بالأب سعد دوابشة وزوجته ريهام، انتهاء بابنهما الرضيع "علي" الذي كان يبلغ من العمر 18 شهرا فقط، ولم ينجُ من هذه المجزرة البشعة إلا طفل واحد هو أحمد دوابشة الذي كان في الرابعة من عمره حينها وأُصيب هو الآخر بجروح بالغة احتاج إلى سنوات للتعافي من آثارها.

 

عاش المجتمع الفلسطيني هذه الجرائم المروعة وغيرها في وقت كانت فيه فكرة العمل المسلح في الضفة الغربية تكاد تكون مستحيلة نتيجة القبضة الأمنية المُحكمة. تعود جذور هذه القبضة إلى عقدين ماضيين، بالتحديد للعام 2005 الذي عرف توقيع اتفاق التهدئة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في العاصمة المصرية القاهرة. عملت السلطة بموجب هذا الاتفاق على دمج المعارضة الفلسطينية في مؤسساتها، وفيما لم تنصع التنظيمات الفلسطينية في البداية، فإنها بمرور الوقت، ومع ارتفاع الاعتقالات والاغتيالات الإسرائيلية، استسلمت للقبضة القسرية للسلطة في الضفة الغربية.

 

في السنوات اللاحقة، زادت الأمور سوءا مع التطورات التي أفضت إليها خطة "كيث دايتون"، الجنرال الأميركي الذي أشرف على تدريب وتطوير الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وساهم في تعزيز سياسة التنسيق الأمني مع الاحتلال، وهو ما جعل من الملاحقة الأمنية سياسة أمر واقع فُرضت على شباب الضفة المقاوِم. لذلك مع حلول عام 2009، دخل العمل العسكري الفلسطيني بسبب الواقع المذكور إلى مرحلة جديدة، ظهرت فيها مجموعات مقاومة صغيرة تُدير نفسها ذاتيا من خلال الأدوات المتاحة لها، بيد أن هذا النوع من المقاومة لم يلقَ نجاحا كبيرا بسبب العديد من المعوقات اللوجستية والأمنية، ما دشَّن مرحلة العمليات الفردية للفدائيين غير المنضوين تحت راية أي تنظيم.

على مدار السنوات، شهد هذا النوع من العمليات موجات مد وانحسار بفعل التشديد الأمني، لكن جريمة قتل الدوابشة فجَّرت براكين الغضب التي لم تُفلح القبضة القسرية في احتوائها. وعلى إثر الجريمة، بدأت موجة من عمليات الطعن والدهس الفدائية في مدن الضفة الغربية، وانطلقت الشرارة الأولى في الأول من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015 عبر عملية مستوطنة "إيتمار"، التي نفَّذها عناصر في كتائب القسام، الجناح العسكري التابع لحركة (حماس)، وقُتل فيها "إيتام هكنين"، وهو ضابط احتياط بوحدة هيئة الأركان الخاصة وضابط استخبارات وحاخام، رفقة زوجته "نعماه هكنين"، وهي ابنة ضابط كبير بوحدة هيئة الأركان. زادت موجة العمليات الفردية بعد ذلك بعيدا عن تدخُّل التنظيمات الفلسطينية في التخطيط والتنفيذ، فظهر إثر ذلك ما عُرف بـ"انتفاضة السكاكين"، إذ في الفترة ما بين مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015 إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 2017، نفَّذ 700 مهاجم فلسطيني 560 عملية، 61% منها كانت عمليات منفردة، والبقية نُفِّذت من خلال شريكين أو أكثر.

 

وإذا كان عام 2015 قد شكَّل مرحلة مفصلية في ظاهرة التحركات الفردية عبر العمليات التي هدفت إلى الرد على اعتداءات المستوطنين، فإن عام 2021 اعتُبر بدوره نقطة تحوُّل مهمة، بعد أن دفعت اعتداءات وهجمات المستوطنين على المسجد الأقصى وتوالي حملات الاعتقال والتصفية في صفوف الشباب الفلسطيني بالضفة الغربية إلى تعزيز روح المقاومة وانتشارها في أرجاء الضفة الغربية، فظهرت الهجمات المسلحة عن طريق الدهس والطعن وإطلاق النار. وبحسب ما تُشير إليه الإحصاءات، شهدت الضفة الغربية والقدس عام 2021 عشرة آلاف و850 عملا مسلحا، من بينها 441 عملية مؤثرة، وهو أربعة أضعاف عدد العمليات المؤثرة التي شهدها عام 2020.

 

استمر النهج ذاته خلال العام الحالي 2022، الذي شهد سلسلة عمليات فردية اعتمدت على تقنيات الدهس وإطلاق النار نهجا واضحا لها، وكان من أبرز هذه العمليات عملية مدينة "بني براك" التي وقعت قرب تل أبيب مُخلِّفة خمسة قتلى، وكانت الأولى من نوعها منذ الانتفاضة الثانية، حيث أكَّدت هذه العملية التي وقعت في مارس/آذار الماضي على مدى التطور الذي بلغته العمليات الفردية المتصاعدة، لما أبداه منفذ العملية "ضياء حمارشة" من إعداد جيد لها عبر الاختيار الدقيق للمكان والزمان، مع بسالته الكبيرة في طريقة التنفيذ.

عملية مدينة "بني براك" التي وقعت قرب تل أبيب مُخلِّفة 5 قتلى
عملية مدينة "بني براك" التي وقعت قرب تل أبيب مُخلِّفة 5 قتلى (وكالة الأنباء الأوروبية)

ولمواجهة الهجمات الفلسطينية التي انبثق معظمها من منطقة جنين قبل أن تمتد إلى مدينة نابلس، أعلنت "دولة الاحتلال" عن انطلاق عملية "كاسر الأمواج" في شهر مارس/آذار نفسه، وتهدف العملية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا إلى إحباط العمليات الفردية عبر الاعتماد على الاعتقالات الليلية ضد مَن تطولهم دائرة الشبهة، مع تكثيف الإجراءات الأمنية على طول خطوط التماس مع المناطق الفلسطينية، وإغلاق الثغرات في الجدار الفاصل.

 

ورغم نجاح تلك الحملة في تخفيف حِدَّة العمليات التي تستهدف العمق الإسرائيلي، فإن الشباب الفلسطيني قابل ذلك بمزيد من العمليات المسلحة في الضفة الغربية وفي المستوطنات، وقد افتتح الشهيد رعد حازم الذي خرج من مخيم جنين، ولم يكن له "أية سوابق أمنية" ولا ينتمي إلى أي تنظيم مُوجَّه، تلك العمليات في السابع من إبريل/نيسان الماضي، عبر عملية نفَّذها عن طريق سلاح رشاش، استهدف خلالها إسرائيليين مقيمين في تل أبيب، حيث تمكَّن من قتل 3 أشخاص وإصابة أكثر من 10 آخرين.

 

عرين الأسود

في حارة الياسمين الكائنة بالبلدة القديمة بنابلس (شمالي الضفة الغربية)، وفي بعض المناطق الفلسطينية الأخرى أيضا، قد لا يكون من الغريب مشاهدة شاب فلسطيني بوجه مكشوف، يحمل سلاحه ويُصوِّر مقطعا صغيرا على "تيك توك" لتهديد دولة الاحتلال وجنودها، وشحذ همة المقاومين من شعبه. تبدو رسالة مثل هذا الشاب واضحة للجميع، خصوصا للإسرائيليين الذي يريدونه حيًّا أو ميتًا، فهي تقول لهم بوضوح: "نحن لا نخاف".

 

ينتمي هؤلاء الشباب الذين ظهروا في الضفة الغربية إلى مجموعة باتت تُعرف باسم "عرين الأسود"، وهي مجموعة تتكوَّن أساسا من شباب وُلد معظمهم بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، فكانت نشأتهم على عين الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية التي استهدفت عوائلهم ومعارفهم بالقتل والاعتقال. وقد بدأت عمليات المجموعة في فبراير/شباط الماضي عبر كتيبة صغيرة سمَّاها الاحتلال الإسرائيلي "كتيبة نابلس"، لكنها لم تُعلن عن نفسها بشكل رسمي ومنظم إلا في بداية سبتمبر/أيلول خلال تأبين مَن قالت إنه مؤسسها الشهيد "محمد العزيزي" والشهيد "عبد الرحمن صبح". ويُعتقد أن عدد أعضاء المجموعة يتراوح بين 30-50 فردا، وتركِّز أنشطتها على استهداف المصالح الإسرائيلية من مواقع عسكرية ودوريات ومستوطنات.

يعارض شباب "عرين الأسود" الخط السياسي الذي يتبنَّاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وخصوصا جزئية التنسيق الأمني مع الاحتلال، إذ يؤمن هؤلاء الشباب أن المواجهة المسلحة وحدها هي التي سيكون لها تأثير على المعركة بين أصحاب الأرض والمحتل الإسرائيلي، خصوصا أن إسرائيل تستمر في إسالة دم الفلسطينيين بلا رادع، فقد أشار تقرير "حماية المدنيين" الذي نشرته الأمم المتحدة في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن دولة الاحتلال قتلت أكثر من 120 فلسطينيا هذا العام، وهي أثقل حصيلة سُجِّلت في الضفة الغربية المحتلة منذ ما يقرب من سبع سنوات، وهي ثاني أعلى حصيلة منذ نهاية "الانتفاضة الثانية" التي اندلعت عام 2000.

 

شكَّلت كثافة عمليات "عرين الأسود" في الضفة والترابط الذي أوجدته مع القدس خلال وقت وجيز تهديدا أمنيا كبيرا على إسرائيل، التي تتهم حماس والجهاد وأجنحة فتح المعارضة لنظام السلطة الفلسطينية بالوقوف خلف المجموعة الفدائية الشابة. لا يتربط المنفذون بتسلسل قيادي واضح يمكن تتبُّعه استخباريا، وهو ما يزيد من صعوبة المهمة الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال، عرف شهر سبتمبر/أيلول الماضي أكثر من 34 حادثة إطلاق نار في الضفة الغربية، وهو أعلى رقم سُجِّل منذ أكثر من عقد. ومع أن الاحتلال فرض حصارا شديدا على مدينة نابلس التي يقطنها أكثر من 150 ألف نسمة، وتحديدا بعدما تمكَّنت المجموعة من قتل جندي مشاة في وحدة الاستطلاع التابعة للواء جفعاتي يُدعى "إيدو باروخ" في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية تبدو عاجزة عن إيقاف المجموعة، إذ تواصل "عرين الأسود" عملياتها بقوة وسط دعم شعبي كبير لها.

 

خلال فترة وجيزة، أضحت مجموعة "عرين الأسود" أو نظراؤهم المنظمون على نطاق أضيق -مثل "كتيبة جنين" التي تعمل في مخيم جنين للاجئين- نموذجا جديدا بارزا للمقاومين الفرادى الذين يتحركون بحرية دون الانتماء إلى أي كيان رسمي أو مؤسساتي أو تنظيمي. وكما يتمرد أعضاء المجموعة على حكم السلطة الفلسطينية، فهم يرفضون أيضا تلقي الأوامر من الفصائل مثل حركة حماس والجهاد الإسلامي أو غيرهما، ولا يتعارض ذلك مع كونهم يعملون بشكل شبكي، بمعنى أن أحدهم قد ينتمي اسميا إلى حركة فتح، بينما يحصل على سلاحه من حركة الجهاد الإسلامي، ويحصل على الذخيرة من حماس، فضلا عن أن العديد من هؤلاء النشطاء هم أبناء لضباط وعناصر في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.

 

إسرائيل في ورطة كبيرة

في يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان الشاب سفيان الكيلاني (34 عاما) يسير في طرقات حوش العطعوط بالبلدة القديمة (نابلس) التي تتخذ منها مجموعته "عرين الأسود" حصنا لها، وما أن اقترب من دراجة نارية مصطفَّة على الطريق حتى انفجرت به عبوة من مادة (TNT) الناسفة. سقط الكيلاني شهيدا بين أزقة نابلس التي لا ينام مقاوموها منذ حوصرت في بداية ذلك الشهر. ومباشرة بعد هذا الاغتيال، توجهت أصابع الاتهام نحو إسرائيل التي هددت أكثر من مرة المقاومين في الضفة الغربية باستخدام جميع الوسائل المتاحة من أجل وقف العمليات المسلحة ضدها. وكانت السلطات في دولة الاحتلال تتهم الكيلاني بالوقوف خلف عمليات إطلاق نار ضد جيش الاحتلال، ومنها عملية مستوطنة "شافي شمرون" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وعملية أخرى في يافا، وثالثة قُرب مستوطنة "كدوميم" شرق قلقيلية.

الشهيد تامر الكيلاني كان ينتمي لمجموعة مقاومة مسماة بعرين الأسود (الجزيرة)
الشهيد سفيان الكيلاني كان ينتمي لمجموعة مقاومة مسماة بعرين الأسود (الجزيرة)

مَثَّل استشهاد الكيلاني أول عملية اغتيال تتم عن بُعد بالضفة الغربية منذ اغتيال قوات الاحتلال لقائد كتائب شهداء الأقصى رائد الكرمي عام 2002، وقد حمل هذا الاغتيال دلالة قوية على أن إسرائيل استنزفت خلال الشهور الماضية جميع خياراتها لإنهاء ظاهرة "عرين الأسود" والعمليات الفردية. شملت هذه الخيارات شن حملة اعتقالات واقتحامات نالت من مدن جنين ونابلس، كما تضمنت أيضا إلغاء الاحتلال تصاريح الدخول إلى أراضي 48 المحتلة لأقارب المقاومين بُغية الضغط عليهم اجتماعيا، ووصلت إلى فرض حصار كامل على نابلس، وبلغت ذروتها بعد أن قرَّر الاحتلال للمرة الأولى بدء استخدام طائرات مسيرة مُحمَّلة بالصواريخ في الضفة الغربية لاغتيال المطلوبين وتقليل المخاطر التي يتعرَّض لها جنوده خلال عمليات المداهمة. في غضون ذلك، لم يتوانَ الاحتلال عن لعب ورقة الترغيب عبر مقترحات مثل اقتراحه ضم المطلوبين الفلسطينيين إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد تسليم سلاحهم مقابل العفو عنهم.

 

ولكن مع تواصل العمليات، تيقَّنت إسرائيل من فشل هذه الإستراتيجيات جميعا، خصوصا على مستوى الاستخبارات وجمع المعلومات، حيث لا يزال رجال المخابرات الإسرائيليون عاجزين عن معرفة مكان انطلاق العملية، وهدفها النهائي، وتوقيت تنفيذها الدقيق. كما أن العملية برُمَّتها قد تتغير أصلا أثناء التنفيذ، كون الخطة فردية لا يحملها إلا المنفذ في رأسه وقد لا يتشاركها مع شخص آخر، حيث يتحرك وفق ما تفرضه عليه الظروف المحيطة، علما أن غالبية المنفذين يحرصون على عدم إثارة الشبهات لدى جهاز الشاباك الإسرائيلي (جهاز الاستخبارات الداخلية).

 

فشل الاحتلال حتى الآن في تحديد مواصفات الجماعات والأفراد من منفذي العمليات المسلحة بهدف تحديد إستراتيجية مضادة، وذلك لكون المنفذين يعكسون التركيبة الاجتماعية والفكرية المتنوعة للشعب الفلسطيني، فخرج منهم المتدين والعلماني والمتعلم ومحدود التعليم والغني والفقير والأعزب والمتزوج والعشريني والأربعيني وابن المخيم وابن المدينة، دون نسيان التخطيط المحكم للعمليات التي تُنفَّذ من طرف شباب عرين الأسود والمجموعات الأخرى، كما حدث في عملية مستوطنة "أرئيل" التي وقعت في مايو/أيار الماضي، وراقب منفذوها مدخل المستوطنة وعرفوا متى يقل حجم الاستنفار الأمني الإسرائيلي حولها.

التنظيم اتخذ من نابلس مقرا له ولكنه يلتزم السرية التامة (الجزيرة)
اتخذ تنظيم "عرين الأسود" من نابلس مقرا له ولكنه يلتزم السرية التامة (الجزيرة)

على الجانب الآخر، يخلق تفكك السلطة الفلسطينية تهديدا إستراتيجيا لإسرائيل في مناطق شمال الضفة التي تشهد تمركزا للمقاومين، فبينما تواجه السلطة في هذه المناطق حضورا ضعيفا ورفضا شعبيا كبيرا، تنظر إسرائيل بقلق كبير إلى فقدان السلطة السيطرة في تلك المناطق، كما يعتقد المراقبون الإسرائيليون أن التنافس على خلافة الرئيس محمود عباس قد يتحول إلى كابوس لإسرائيل بسبب رغبة الفصائل الفلسطينية المختلفة في تقديم نفسها للرأي العام بقوة، ولن يكون هنالك طريقة أفضل لفعل ذلك من شن الهجمات على دولة الاحتلال.

 

لا تقف المخاطر عند هذا الحد، حيث تتخوَّف دولة الاحتلال من أن تشغلها العمليات الفردية التي تُنفِّذها مجموعة "عرين الأسود" عن أعداء إقليميين لا يقلون خطورة، كإيران وحزب الله اللبناني، وهو ما قد يتسبب في استنزاف القدرات الإسرائيلية، خصوصا أن أعدادا كبيرة من القوات الأمنية والشرطية جنَّدتها دولة الاحتلال من أجل مواجهة العمليات الأخيرة في الداخل الفلسطيني.

 

ختاما، تواجه إسرائيل تحديا جديدا هذه المرة مختلفا عما عهدته سابقا، فلا يتعلق الأمر هنا بمجموعات منظمة وتنظيمات لها حضور عسكري وسياسي، بل بعمليات فردية تستفيد من مزيج من التخطيط المحكم والعشوائية القاتلة، يقوم عليها جيل جديد من الفلسطينيين الذين يؤكدون لإسرائيل وللعالم بأسره أن العداء للمحتل لا يسقط بالتقادم، فبعد موت الكبير، لم ينسَ الصغير، بل حمل السلاح مُواصِلا طريق المقاومة الشاق والطويل.

المصدر : الجزيرة