شعار قسم ميدان

بيير كاستيل.. إمبراطور الخمور الفرنسي الذي يستنزف خيرات أفريقيا ويغذي مليشياتها

بيير كاستيل.. إمبراطور الخمور الفرنسي الذي يستنزف خيرات أفريقيا ويغذي ميليشياتها

نكتب لكم هذا التقرير من مدينة بوردو في الجنوب الفرنسي، تقع المدينة التي تُكنَّى "باريس الصغيرة" لجمالها الأخّاذ بإقليم "لا جيروند" الذي يُعَدُّ من أجمل الأقاليم في البلاد. بمجرد أن تحط رحالك بهذه المنطقة، وتخرج من المدينة نحو البادية المحاذية والمنتشرة في كل مكان، ستتلقَّفك حقول مترامية الأطراف، كأنها الصحراء في اتساعها، خُصِّصت لزراعة العنب الموجَّه لصناعة النبيذ، المنتج الفلاحي الأول بالمنطقة.

 

يحب الفرنسيون النبيذ، وتحمر أنوفهم تفاخرا بتذوق إحدى زجاجاته العتيقة، ويحب بعضهم تناوله مع قطعة من اللحم أو بعض من الخبز والجبن. وتُعَدُّ بوردو عاصمة عالمية للنبيذ، البخس منه والغالي الثمين، وهي تضم رجال أعمال من أثرياء القوم، الذين استثمروا في هذه الفلاحة (والصناعة) وكوَّنوا ثروات ضخمة، ولعل أبرزهم بيير كاستيل، رجل الأعمال الفرنسي التسعيني، الذي بدأ حياته في صنع نبيذ فرنسا، وانتهى إلى تكوين إمبراطورية للكحول في أفريقيا، هناك حيث توجَّه إلى شركته عديدة التهم بالفساد السياسي والاقتصادي والإضرار بالشعوب الأفريقية، بل وتسميمها فضلا عن التورط في جرائم حرب. فمَن يكون بيير كاستيل يا ترى؟ وما الذي تفعله شركته المرموقة في أفريقيا؟

Entrepreneur in the beverage industry and head of Groupe Castel, Pierre Castel, 92, attends the opening day of Vinexpo wine fair in Bordeaux, southwestern France on May 13, 2019. - The 20th edition of the Vinexpo wine fair runs from May 13 to 16, 2019, gathering over 1,600 exhibitors from 29 countries. (Photo by GEORGES GOBET / AFP)
رجل الأعمال الفرنسي "بيير كاستيل" (AFP)

 

النبيذ للفرنسيين

في مثل تلك القصص المثيرة للجدل عادة ما تكون هناك نسختان على الأقل، نسخة رسمية ونسخة أو ربما نسخ غير رسمية. أما النسخة الرسمية فيمكن الحصول عليها بسهولة من موقع مجموعة كاستيل، وهي تقول إننا بصدد الحديث عن رجل عشق أفريقيا وأحبها ورأى فيها المستقبل كله، فاختار الاستثمار فيها ومنح شبابها فرصا للتطور في إطار علاقة من الاحترام والإخلاص المتبادل، وهو ما أثمر في النهاية توسع المجموعة في 21 بلدا أفريقيًّا وتوفير 40 ألف فرصة شغل، مع احتفاظها بقيمها الإنسانية مثل الصرامة والنزاهة، والحفاظ على البيئة، فضلا عن الاستمتاع بكل الشغف الذي تقدمه أراضي القارة السمراء في هذه الرحلة.

 

كانت هذه النسخة الرسمية المنمقة، التي كُتبت بعناية تتلاءم مع كلام بيير كاستيل الرومانسي عن أفريقيا، لكن هذه النسخة ليست هي المهمة، ولعل نسخا أخرى، أكثر أهمية، وتقترب أكثر من الحقيقة هي التي تهم الباحث عن خيوط التحكم والسيطرة التي فرضتها هذه الشركة الفرنسية على القارة الأفريقية، سيطرة بدأت مباشرة بعد مرحلة خروج الجيش الفرنسي من مستعمراته في القارة السمراء، عائدا إلى بلاده بعد سنوات من الاستنزاف والاستعمار.

 

ستكون البداية في سنوات الثلاثينيات، تلك السنوات العجاف التي عرفت الكساد العالمي العظيم الذي ضرب اقتصادات العالم وعلى رأسها بطبيعة الحال الاقتصادات الأوروبية، تضررت إسبانيا كباقي الدول الجارة كثيرا من هذه الأزمة، فلجأ بعض الأسر الإسبانية إلى فرنسا التي كانت أفضل حالا نسبيا بحثا عن لقمة العيش، وساعتها حلَّت أسرة "إيغناسيو كاستيل" بقرية "بيروسون" التي تبعد نحو 50 كلم فقط عن بوردو.

 

عمل رب الأسرة التي كانت تتكوَّن من زوجين و9 أبناء في حقول العنب المنتشرة في المنطقة لكسب قوت اليوم، وساعد الأبناءُ الأبَ في هذا العمل الشاق، فكان آخر الملتحقين الابن الأصغر "بيير" الذي ترك المدرسة في سن 12 عاما في سبيل العمل، لكن هذا الابن الصغير بدأ يدرك أنه لا سبيل لخروج الأسرة من مأزقها المادي سوى اتخاذ طريق مختلف تماما، لذلك في سن 19 عاما، وبينما كانت فرنسا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية، بدأ الشاب ابن المهاجر الإسباني مشروعا بسيطا لبيع النبيذ رفقة إخوته، هذا المشروع سمّاه "الإخوة كاستيل".

 

استغل الإخوة الاستهلاك الكبير لخمر النبيذ المشتهر في فرنسا في تلك الفترة، فقد كان معدل استهلاك الفرد الواحد نحو 5 لترات سنويا، وعندما نتحدث عن الفرد فإننا لا نتحدث عن البالغين فقط، بل كانت مطاعم المدارس في فرنسا تسقي الأطفال الصغار النبيذ في سن مبكرة. ونظرا لهذا الاستهلاك الكبير، رأى بيير كاستيل وإخوانه أن أفضل استثمار سيكون في "نبيذ المائدة" الذي يستهلكه العامة بكثافة خلال وجبات الطعام، ولحُسن حظ الإخوة، تزامن هذا القرار مع بداية ظاهرة الأسواق الممتازة (السوبر ماركت) القائمة أساسا على توفير كميات كبيرة من السلع بأفضل أسعار ممكنة. حينها بدأت إمبراطورية المال والأعمال والخمر المملوكة للإخوة تتضخم لتصبح "مجموعة كاستيل"، التي صارت مع مرور السنوات الشركة رقم 1 في سوق النبيذ في فرنسا والثالثة عالميا في هذا المجال.

 

كان بيير كاستيل محظوظا وموهوبا في الوقت نفسه، فمن فكرة بسيطة لشراكة عائلية نجح الرجل في بناء مؤسسة كبيرة، يتجاوز عدد موظفيها الأربعين ألفا، برقم معاملات بمليارات الدولارات. وُلدت الشركة صغيرة، لكنها تضخمت بسرعة، وفي كثير من الأحيان، حدث ذلك التضخم على حساب صغار المزارعين وأصحاب الأراضي.

 

والبيرة للأفارقة

"موقع مجموعة كاستيل"
المصدر: (موقع مجموعة كاستيل)

رغم هذا النجاح الكبير الذي حققته المؤسسة في مجال النبيذ في فرنسا، فإن الثورة الحقيقية لهذا الملياردير الفرنسي ذي الأصول الإسبانية لم تأتِ من هذه التجارة أصلا، بل من باب مختلف فتحه في قارة مختلفة، باب الجعة أو "البيرة"، أما المكان فكان هو القارة السمراء أفريقيا. وإذا كان الفرنسيون يُفضِّلون النبيذ رفقة الطعام فإن الأفارقة يُحبِّذون التجمع والاحتفال ومحاربة العطش عن طريق "البيرة"، فلكلٍّ ثقافته ولكلٍّ مشروبه، لكن القاسم المشترك أن كل هذه المداخيل تصب في النهاية في جيب رجل واحد هو بيير كاستيل.

 

تستأثر أفريقيا بـ80% من معاملات مجموعة كاستيل، وبفضل المال الذي تجنيه من القارة، تتمكَّن المجموعة من تغطية مصاريف حقول العنب وصناعة النبيذ في فرنسا. بدأت حكاية هذا الاستثمار في سنوات الخمسينيات، حيث استغل "بيير" آخر مراحل الحضور الكولونيالي في أفريقيا من أجل عقد بعض الصفقات الخاصة بصناعة النبيذ، وبسرعة شديدة بدأ في إنشاء مراكز تعبئة زجاج النبيذ. بيد أن الحدث الأهم الذي سيُغيِّر من شكل وجود الشركة في أفريقيا سيحدث عام 1965، حينما سيلتقي بيير كاستيل بالشاب ألبير بيرنارد بانغو (الذي سيصبح بعدها عمر بانغو، الرئيس الغابوني الراحل) حيث سيقترح عليه الأخير ترتيب لقاء مع صديقه ليون إمبا، الرئيس الغابوني حينها، للنقاش حول إطلاق نشاط صناعة "البيرة" في البلاد.

 

ستتم الصفقة التي ستُثمر إنشاء شركة مصانع البيرة بالغابون باسم "SOBRAGA"، بوصفها أول حجر أساس في إمبراطورية كاستيل. وبخلاف تأسيس المصنع، كان من جملة عوائد هذه الخطوة أن المستثمر الفرنسي أقام صداقة مع عمر بانغو، الشخص الذي سيصبح رجل الغابون القوي والرئيس المسيطر على البلاد، وعراب مشروع "فرانس أفريك" الذي هندس للوجود الفرنسي في القارة بعد مرحلة الاستعمار.

شركة مصانع البيرة بالغابون باسم "صوبغاكا" (SOBRAGA)
شركة مصانع البيرة بالغابون "صوبغاكا" (SOBRAGA) (مواقع التواصل)

لن يقف طموح كاستيل عند هذا الحد، بل سينتشر استثماره في أرجاء القارة عبر شراء مصانع وشركات البيرة في البلدان المختلفة، في الكونغو الديمقراطية ومالي وأفريقيا الوسطى، وفي يناير/كانون الثاني عام 1990 سيضع يده على شركة "بي جي آي" (BGI) وهي إحدى أهم الشركات الفرنسية في مجال صناعة الخمور والثلج، وهي شركة كانت حتى الأمس القريب إحدى أهم الركائز الاقتصادية للمشروع الكولونيالي الفرنسي.

 

بعد استحواذه على شركة "بي جي آي" سيزيد توسع بيير كاستيل في الكاميرون والسنغال والكوت ديفوار وبوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا. ومع شراء كل مصنع جديد، تبدأ عمليات تصفيات اليد العاملة، التي تصل في بعض المشروعات إلى ثلث العمالة تقريبا. يد عاملة أقل يعني أرباحا أكثر، وبالتالي توسعا أكبر، بهذه الطريقة كان يفكر المستثمر الفرنسي، ليتمكَّن بعد ذلك من الوصول إلى أسواق جديدة، كبنين والجزائر والمغرب وغينيا ومدغشقر ومالاوي، منتشرا في كل مكان، وحدهما بوروندي ورواندا هما اللتان ظلتا عصيتين عليه بسبب السيطرة عليهما من طرف شركة "هينيكن" الهولندية.

 

لم يكن هذا التوسع ناتجا عن الخطط الاقتصادية لصانع الخمور الفرنسي فقط، فلا يمكن التوسع بهذه الطريقة دون أن تملك علاقات قوية مع الرؤساء المحليين، تماما كما كانت علاقته مع عمر بانغو (توفي عام 2009). ربط كاستيل علاقة قوية أيضا مع "خوسي إدواردو دوس سانتوس"، الرئيس الذي ظل طيلة 38 سنة على رأس أنغولا، ومع الحسن واتارا الرئيس الإيفواري، وحسب مصادر صحفية، لم يكن الدعم المتبادل المعلن هو نوع العلاقة الوحيدة الذي يربط بين بيير كاستيل وبين الرؤساء، ولكنه وصل إلى أبعد من ذلك، فقد أفاد الصحفي الفرنسي أنطوان غلازير، المتخصص في النفوذ الفرنسي بأفريقيا، بأن رجل "البيرة" رقم 1 في أفريقيا لعب دورا مهما في وصول فرانسوا بوزيزي، الرئيس السابق لأفريقيا الوسطى، إلى الحكم عام 2003 عبر انقلاب عسكري.

 

بطبيعة الحال، ربطت علاقات قوية بين رجل أفريقيا القوي والشخصيات النافذة في بلاده، فقد استقطب لمساعدته رجالا نافذين لهم من المعرفة والاطلاع على الشؤون الأفريقية ما يفيده في مشاريعه الاقتصادية، من قبيل "جون بيير كونتارجيت" السيناتور السابق في اليمين الفرنسي الكلاسيكي ورئيس مجموعة الصداقة الفرنسية الأفريقية الوسطى بمجلس الشيوخ الفرنسي، وأيضا "فرانسوا غروسوفر" المستشار السابق للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران.

 

شبهات التورط في جرائم حرب

Bucharest, Romania - January 24, 2022: Details with Romanian soldiers holding AK 47 automatic rifles during a public ceremony.
(شترستوك)

ليس من السهل أبدا الحفاظ على المكاسب الاقتصادية في الأوضاع السياسية والعسكرية المتقلبة، لهذا السبب كانت شركة "لافارج" الفرنسية تدفع أموالا لجنود تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا للحفاظ على مصانعها هناك، في الوقت الذي كانت فرنسا فيه "تُقسِم" أمام العالم أنها لن تدخر جهدا في محاربة الإرهاب في كل مكان، وللسبب نفسه وبالطريقة ذاتها يُشتبه اليوم في تورط شركة بيير كاستيل في الضلوع في جرائم ضد الإنسانية عبر المشاركة في دفع المال لبعض المليشيات المسلحة بأفريقيا الوسطى.

 

تستثمر مجموعة كاستيل في البلدان في حقول السكر الذي تحتاج إليه في صناعة مشروباتها الغازية غير الكحولية، فمنذ نحو 20 عاما، أنشأت المجموعة شركة "سوكاف آر سي إيه" (SUCAF RCA) الناشطة بأفريقيا الوسطى، ذلك البلد الذي دمرته الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي، ويحتل المركز 188 من أصل 189 دولة في مؤشر التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2020.

 

وحسب تحقيق منظمة "ذا سنتري" غير الهادفة للربح، فإن مجموعة بيير كاستيل عبر فرعها "سوكاف" عقدت نهاية 2014 اتفاقا مع "اتحاد السلام في أفريقيا الوسطى"، وهي مجموعة متمردة مسلحة من أجل حماية مصنعها وحقول قصب السكر التابعة لها، مع منح الشركة الحق في التنقل عبر المحاور الكبرى في جميع المناطق الخاضعة لهذه المجموعة المسلحة.

 

يُشير التحقيق إلى أن الشركة الفرنسية أقدمت على دفع ما يشبه الإتاوة نقدا بطرق مباشرة وغير مباشرة للمليشيا المسلحة، وهو ما يعني مشاركة غير مباشرة لشركة "سوكاف" التابعة لمجموعة كاستيل في تمويل المليشيا التي يقودها "علي دراسا"، وتورطت بداية من عام 2014 في مذابح ضد السكان، بالإضافة إلى عمليات اختطاف وتعذيب وتجنيد الأطفال، وهي جرائم صنَّفتها الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

Seleka general Ali Darassa talks to Reuters during an interview at the Seleka headquarters in the town of Bambari April 22, 2014. Picture taken April 22, 2014. REUTERS/Emmanuel Braun (CENTRAL AFRICAN REPUBLIC - Tags: POLITICS MILITARY)
العسكري "علي دراسا" (رويترز)

بدأت قصة هذا التمويل غير المباشر بعد ظهور متمردين ينتمون إلى جماعة "سيليكا" المقاتلة في مشهد الاقتتال الداخلي بأفريقيا الوسطى. بدأت المجموعة في التقدم في البلاد والسيطرة على مناطق شاسعة بها، وكان من بين المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم محافظة "أواكا" وسط البلاد، حيث يوجد مصنع السكر التابع لشركة "سوكاف". تمكَّن المسلحون من وضع أيديهم على تجهيزات تتجاوز قيمتها 400 ألف دولار أميركي، بالإضافة إلى 300 طن من السكر الذي أُنتِج بالفعل، ولم تتم هذه السيطرة بسلاسة، بل دارت معركة تسببت في مقتل عاملين اثنين بالمصنع وإصابة 9 آخرين.

 

في وقت لاحق، توصلت الشركة الفرنسية إلى اتفاق بقيمة مليونَيْ فرانك من العملة المحلية (نحو 4000 دولار) شهريا تُدفع للمتمردين مقابل استعادة المصنع وعدم تعطيل العمل فيه. على الجانب الآخر، ومع حلول نهاية عام 2013، بدأت فرنسا تدخُّلا في البلاد من أجل "إعادة الأمن" بدعم من تشاد، لتدخل أفريقيا الوسطى في مرحلة انتقالية أنهت وجود "سيليكا" بوصفها مجموعة منظمة، ولكن ليس بوصفها أفرادا متمردين.

 

تمكَّن بعض المنتمين سابقا إلى "سيليكا" من إنشاء "اتحاد السلام في أفريقيا الوسطى"، ورغم الشبهات الكثيرة والجرائم الكبيرة التي ارتبطت باسم زعيم التنظيم "علي دراسا"، فإن الشركة الفرنسية كانت ترى فيه الرجل القادر على حماية مصالحها في العديد من المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة.

 

ولم يكن تحرك شركة "سوكاف" منفردا، بل أشار تحقيق "ذا سنتري" إلى أن القوى العسكرية الفرنسية التي كانت حاضرة على الأرض كانت ترى في دراسا رجلا قويا يمكن التحالف معه، لذلك انطلقت المفاوضات بين الطرفين، ومن بين ما تحدث حوله الفرنسيون والمتمردون كان حماية مصنع السكر التابع لمجموعة كاستيل مع منح العاملين فيه حرية التنقل، مقابل حصول دراسا شخصيا على نحو 31 ألف دولار سنويا منذ بداية عام 2014 حتى بداية عام 2021، أي ما يعادل 217 ألف دولار دُفعت لزعيم المليشيا المتمردة وحده، دون نسيان مساعده "حسن بوبا" الذي حصل بدوره على مبلغ 20 ألف دولار سنويا حتى عام 2019، أي نحو 100 ألف دولار خلال هذه المدة كاملة، هذا بجانب آلاف الدولارات التي دُفعت لفاعلين عسكريين آخرين للأسباب نفسها.

 

في النهاية، ونتيجة لتحقيق "ذا سنتري"، أعلنت مصادر فرنسية عن فتح تحقيق في باريس من أجل تتبع تورط الشركة في تمويل جرائم حرب، فيما اعتبر محامو الشركة أن هذه الضوضاء لا تهدف إلى شيء أكثر من تهديد المصالح الاقتصادية الفرنسية في أفريقيا والتشويش على كل ما يحيط بها، فيما لا تزال الشركة تواصل أعمالها دون عائق على الأرض.

 

استنزاف للناس والأرض

لم يُعق التعاون مع المليشيات أيضا مجموعة كاستيل برئاسة قائدها التسعيني عن محاولة إظهار شركته بمظهر الشركة التي تحب أفريقيا وتشاركها نخب السعادة والنجاح والعرفان الاقتصادي، لكن الصورة الحقيقية -التي ذكرنا طرفا منها- بعيدة كثيرا عن كل هذه الدعاية الفجَّة، لكن انتهاكات الشركة ضد الأفارقة لم تقتصر على التعاون مع المليشيات فحسب.

 

ففي ربيع عام 2015، أقدم عمال مصانع البيرة في كلٍّ من "بوبوديولاسو" و"واغادوغو" ببوركينافاسو على إضراب عام للمطالبة بالزيادة في الرواتب وتحسين ظروف العمل. انتقل بيير كاستيل شخصيا إلى البلاد من أجل التوصل إلى اتفاق مع العمال، حيث رفض رفضا قاطعا مطالباتهم بمضاعفة أجورهم، مقترحا زيادة بقيمة 15% وإلا فإنه لن يتردد في طرد الجميع من العمل وإغلاق المصنع.

 

وغير بعيد عن بوركينافاسو، وفي الكاميرون هذه المرة، ستكشف بعض المصادر النقابية عن الظروف الاستغلالية التي يعيشها عدد كبير من العمال، حيث لا توظف شركة "إس إيه بي سي" (SABC) الناشطة في مجال صناعة البيرة والتابعة لمجموعة كاستيل سوى 3000 شخص فقط بعقد رسمي من أصل أكثر من 100 ألف شخص يعملون في جميع مراحل الإنتاج. وتُفضِّل المجموعة العمل بهذه الطريقة عبر الاعتماد على "الشركات الوسيطة" لأسباب عديدة، منها دفع رواتب زهيدة (تتراوح ما بين 80-155 دولارا شهريا)، مع الاستعانة بالعاملين بالأجرة اليومية الذين يعملون في ظروف غير قانونية. كما أن الاعتماد على هذا النوع من اليد العاملة الرخيصة يمنح الشركة حماية من الهيكلة النقابية للعمال والمطالبات برفع سقوف الأجور أو تحسين ظروف العمل كما حدث في بوركينا فاسو مثلا.

 

وبجانب استنزاف الموارد البشرية بواسطة شركة كاستيل وفروعها، يعاني سكان أفريقيا من استنزاف مواردهم الطبيعية، فسيطرة المجموعة الفرنسية على مساحات شاسعة من الأراضي يعني زراعة المنتجات الفلاحية التي تحتاج إليها الشركة فقط كقصب السكر والشعير، وهو ما يضر بالتنوع البيولوجي في هذه المناطق. في الوقت ذاته، لا تتورع الشركة عن استعمال العديد من المبيدات والمواد الكيماوية السامة الممنوعة في الاتحاد الأوروبي لخطورتها الكبيرة في الحقول الممتدة، وتكمن خطورة هذه المواد في إمكانية تسبُّبها في العديد من الأمراض التي ظهرت في القرى غير البعيدة عن الحقول حسب ما يذكر مراقبون.

 

تُعَدُّ مجموعة كاستل وباقي الشركات على شاكلتها يد فرنسا القابضة على شريان أفريقيا الاقتصادي، ونموذجا للطريقة التي تتعامل بها باريس مع مستعمراتها السابقة، فالقارة السمراء بالنسبة للفرنسيين هي منجم من الذهب ينبغي استغلاله حتى آخر قطرة. استفاد بيير كاستيل وأمثاله طويلا من هذه السياسة، وراكموا ثروات طائلة على حساب الأفارقة وثرواتهم وأراضيهم، ويستمرون في مراكمة الثروات وممارسة الانتهاكات يوما بعد يوم، تحت أعين السياسيين في باريس، دون رادع أو رقيب.

المصدر : الجزيرة