شعار قسم ميدان

لماذا تفشل الثورة في السودان؟ خمسة أسباب تشرح لك

في ساعة متأخرة من مساء الأحد 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، دخل رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول "عبد الفتاح البرهان" في اجتماع مغلق مع رئيس الحكومة الانتقالية "عبد الله حمدوك" لمناقشة المقترحات التي قدَّمها "جيفري فِلتمان"، المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، التي استهدفت تأكيد منع أي محاولة انقلابية تؤدي إلى عرقلة التحوُّل المدني نحو الانتخابات الرئاسية، كما جاء على لسان البرهان نفسه. ولكن لم تمضِ ساعات على ذلك اللقاء الأخير حتى شهدت العاصمة الخرطوم "انقلابا" بقيادة الجيش وقوات الدعم السريع، وسرعان ما اعتُقل رئيس الحكومة وعدد من وزرائه ثم اقتيدوا إلى جهة غير معلومة.

كشف مصدر دبلوماسي مصري -اشترط عدم ذكر اسمه- لموقع "ميدان" قبل 72 ساعة على تحرُّكات الجيش أول أمس، تفاصيل صفقة عرضها البرهان على حمدوك تتضمَّن استقالة الأخير طواعية من الحكومة، مع ضمانات بعدم محاكمته، وتشكيل حكومة تشمل مجموعة من الأحزاب والشخصيات من غير الوجوه المحسوبة على قوى الحرية والتغيير، وتكوين حاضنة سياسية جديدة لا تحتكر المشهد السياسي وتُنهي حالة الانقسام بين المُكوِّن المدني والعسكري. بيد أن حمدوك، الذي لم يمتلك فعليا صلاحيات كبيرة رغم منصبه، اعتقد أنه يمتلك شرعية سياسية مدعومة بتظاهرات الشارع لتحصين منصبه، حتى أتى الانقلاب الأخير سريعا ليُثبت خطأ اعتقاده ذاك، ويؤذن بفشل الثورة السودانية، التي لم يبدأ تعثُّرها بقرارات البرهان الأخيرة، لكن فصول هذا التعثُّر كانت تتوالى على مدار ثلاثة أعوام.

وباختصار، ثمة أخطاء خمسة رئيسية ارتكبتها القوى المدنية منذ ثورة ديسمبر/كانون الأول أفضت إلى تعقُّد المسار الانتقالي، وهو ما منح الفرصة للجيش وقوات الدعم السريع لتدبير تحرُّكاتهم فجر 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وإقصاء المدنيين من السلطة تماما، والانفراد بالحكم والسلطة حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وربما أطول من ذلك كما يتوقَّع كثيرون.

 

المجلس التشريعي.. لا تترك أبدا ورقة رابحة

لم تكن الثورة السودانية لتنجح فعليا لولا تدخُّل الجيش وإجباره الرئيس البشير على التنحي ثم الخضوع لاحقا للمحاكمة. غير أن التحرُّك الأخير الذي استهدف الإطاحة بالقادة الحاليين، والصعود بآخرين للحكم بديلا عنهم، لم يكن أيضا ليكتمل لولا تخلي القوى المدنية عن ورقتها الرابحة وخرقها لبنود الوثيقة الدستورية التي حدَّدت أسس الانتقال إلى الحكم المدني وآليات تقاسم السلطة وصولا إلى إجراء انتخابات مطلع عام 2024. ورغم أن المجلس العسكري ظلَّ مُتقدِّما بخطوة داخل الوثيقة على "قوى الحرية والتغيير" بعدما كرَّست بنودها هيمنة أكبر للعسكريين على الفترة الانتقالية، لكنها ظلَّت أكبر ضامن لعدم حدوث انقلاب على السلطة.

وقد نصَّت الوثيقة الدستورية على تشكيل "مجلس تشريعي" مُكوَّن من 300 مقعد تذهب أغلبيتها للقوى المدنية مُمثَّلة في قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة، وبموجب الصلاحيات المُخوَّلة إليه يكون للبرلمان المؤقت سلطة سن التشريعات المتعلقة بمسار الفترة الانتقالية، ومراقبة أداء الحكومة وإقرار الموازنة العامة، وهو ما تحفَّظ عليه المجلس العسكري فأراد قصر دوره على الرقابة فقط. وبينما نصَّت الوثيقة على تشكيل المجلس في غضون 90 يوما من تاريخ توقيع الوثيقة في أغسطس/آب 2019، فإن قوى الحرية والتغيير قرَّرت تأجيل تشكيل المجلس بعد موعده الدستوري لعدم التقيُّد بسلطة أخرى، وهو ما عدَّه قانونيون "خرقا" للوثيقة الدستورية من جانب القوى المدنية نفسها.

ممثلون لقوى التغيير والمجلس العسكري أثناء جلسة مفاوضات بحضور الوساطة الأفريقية والإثيوبية

نتيجة لتخلي القوة المدنية عن أهم مكتسباتها في الوثيقة، صارت إجازة القوانين والتشريعات عملا مشتركا يقوم به مجلسا السيادة والوزراء معا، وسط انتقادات شنَّتها أحزاب وقوى سياسية مختلفة تُحمِّل شركاء المرحلة الانتقالية مسؤولية تأخير تشكيل المجلس المنوط به إنشاء المفوضية العليا للانتخابات، ضمن ترتيب سن قوانين الترشُّح للرئاسة. ولم ينتظر المُكوِّن المدني طويلا حتى بدأ في حصاد أكبر خسائره عقب توصُّل العسكريين إلى اتفاق سلام مع الجماعات المسلحة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، الذي انخفضت على إثره عدد مقاعد البرلمان المخصَّصة لقوى الحرية والتغيير من 67% إلى 55% نتيجة اقتطاع جزء من حصتها لصالح الجبهة الثورية. وبدلا من الشروع في تسريع إنشاء المجلس، أعلن تجمُّع المهنيين (المُكوِّن الرئيس في قوى الحرية والتغيير) رفضه التوزيع الجديد، ومن ثمَّ استفاد المجلس العسكري من تجميد الوضع القائم.

تسبَّب غياب المجلس التشريعي الانتقالي، إحدى أهم أولويات الثورة، في تمديد المرحلة الانتقالية 14 شهرا عقب توقيع اتفاقية السلام مع الحركات المسلحة، وفي تمديد بقاء البرهان رئيسا للمجلس السيادي حتى يوليو/تموز 2022، بعدما كان من المُقرَّر أن يُسلِّم المجلس لشخصية مدنية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. هذا واعتمد البرهان في خطابه الأخير على صلاحيته الدستورية لإعلان حالة الطوارئ وتعطيل عدة بنود من الوثيقة الدستورية، وهو ما لم يكن ليحدث في وجود مجلس تشريعي.

اتحاد الجنرالات وتفرُّق المدنيين

بعدما تغيَّرت تشكيلة المجلس، صار حميدتي الرجل الثاني بعد البرهان الذي تجمعه به صداقة قديمة منذ مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن عام 2015.

بالعودة للتصريحات الرسمية الصادرة عن الجيش السوداني قبل أيام من "الانقلاب"، تبدو بوضوح خطوات التمهيد لحركة اعتقالات الفجر التي انتهت بنجاح حتى الآن. فقد دأبت المؤسسة العسكرية الرسمية منذ أشهر على اعتبار الأزمة السياسية في السودان نتيجة صريحة لصراع "مدني-مدني" على الانفراد بالسلطة في ظل إخفاق المدنيين عموما بإدارة الدولة ورغبتهم بالتسلُّط على القوات المسلحة، وهي نفسها التصريحات التي أدلى بها الفريق البرهان مُحذِّرا من إقصاء الجيش. أما المؤسسات الحاملة للسلاح في السودان، فقد سلكت مسارا مغايرا توحَّدت فيه صفوفها بعد انقسام.

لقد أحدثت الثورة السودانية تحوُّلا إستراتيجيا في العلاقة بين قوات الدعم السريع والجيش بعد أن جمعهما العداء المُطلق في عهد البشير. فقبل 18 عاما، خاضت تلك القوات غير النظامية صراعا مع الجيش السوداني الذي رفض دمجها داخل صفوفه. بيد أن أحداث الثورة غيَّرت مراكز القوى لصالح حميدتي قائد الدعم السريع، فعقب الإطاحة بالبشير رفض حمدوك الانضمام للمجلس العسكري، وتسبَّب في الإطاحة بمثلث الحرس القديم المُتمثِّل في وزير الدفاع ورئيس الأركان ومدير المخابرات، وجميعهم من أشد أعدائه. وبعدما تغيَّرت تشكيلة المجلس، صار حميدتي الرجل الثاني بعد البرهان الذي تجمعه به صداقة قديمة منذ مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن عام 2015.

حاولت القوى المدنية إبعاد الجيش عن السياسة كليا، وهو ما دفع القادة العسكريين للتفكير جديا في مسألة تسليم السلطة وإمكانية القيام بانقلاب عسكري. ولم تتعامل المؤسسة العسكرية بالطريقة نفسها مع حميدتي (عدوها القديم) الذي بات بموجب صلاحياته في الوثيقة الدستورية مُحصَّنا من العزل حتى عام 2024 إلى حين انتخاب رئيس جمهورية جديد، حتى إن البرهان حرص على عدم نشر أي أخبار تُفيد بوجود خلافات بينه وبين حميدتي، وذلك رغم ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية عن لقاءات جرت بين قادة تابعين لحميدتي ومسؤولين بالموساد وصفقات اقتصادية منفصلة بين الطرفين دون علم الحكومة أو المجلس السيادي.

على عكس الجيش الذي سعى لتنظيم صفوفه داخليا، انقسمت قوى الحرية والتغيير التي تصدَّرت المشهد في ظل حرص الجيش على إذكاء الصراع بينها منذ لحظات الثورة الأولى عبر التصريح بأنه تواصل مع قوى مدنية لم يُسمِّها قبل الانقلاب على البشير. في النهاية، أسفر الصراع داخل أجنحة المُكوِّن المدني عن انشقاقات متتالية داخله، بدأت منتصف العام الماضي بانسحاب تجمُّع المهنيين (يضم 17 نقابة سودانية مختلفة) من قوى الحرية والتغيير. ولم يَسلم كلا الفصيلين من الأزمات الداخلية في صفوفهما، فسرعان ما انسحب الحزب الشيوعي من الائتلاف الحاكم، ضمن أكثر من 20 كيانا سياسيا وحزبيا وحركة مسلحة انشقوا وأعلنوا ميثاقا وطنيا جديدا، وذلك بعد اتهامات طالت قوى الحرية والتغيير بالسعي للتفرُّد بمشاركة السلطة مع الجيش وإقصاء باقي التيارات المدنية.

في وقت ازدادت فيه الخلافات اتساعا داخل المُكوِّن المدني، كان الجيش قد انتهى من مهمته بترتيب صفوف قواته عبر حملة إقالات واسعة، وتحصين مكتسباته ومؤسسته المالية، والتوافق مع قوات الدعم السريع، والأهم أنه أحكم قبضته على ملفات الأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية، كما أحكم سيطرته على العاصمة الخرطوم، ما أضعف من احتمالات فشل الانقلاب.

على عكس العسكر.. حمدوك غير مدعوم إقليميا

لم يكن صعود حمدوك في البداية مُرحَّبا به في محيطه العربي وخاصة الخليجي.

في الوقت الذي علَّقت فيه وزارة الخارجية المصرية على أحداث الانقلاب بالقول إنها تُتابع عن كثب التطورات الأخيرة في جمهورية السودان، كانت قناة "إكسترا نيوز" المملوكة لشركة المتحدة التابعة لجهاز المخابرات العامة تستضيف ضيوفا هاجموا حكومة حمدوك والمدنيين في السودان، واعتبروا أن انقلاب البرهان مُبرَّر لإنقاذ الوضع في البلاد. ولم يختلف الموقف المصري عن موقف جامعة الدول العربية، التي دعت أطراف الأزمة للحوار، بينما لم تتخذ الجامعة الموقف ذاته حين أدانت من قبل عملية الانقلاب الفاشلة التي وقعت أواخر الشهر الماضي.

لم يكن صعود حمدوك في البداية مُرحَّبا به في محيطه العربي وخاصة الخليجي، فالرجل الذي روَّج لنفسه بوصفه واجهة الحكم المدني المُقبل للسودان كان معارضا لحرب اليمن منذ اللحظة الأولى، التي شارك فيها البرهان وحميدتي، ومُتحفِّظا على دخول بلاده تحالفات إقليمية لم تستفد منها، كما سعى لوقف إرسال مرتزقة سودانيين للقتال في صفوف الجنرال الليبي خليفة حفتر المدعوم من مصر والسعودية والإمارات. وفي المقابل، لم يكن المحيط الإقليمي مُرحِّبا بالثورة السودانية منذ البداية، حيث واصلت دول الخليج دعم البشير ضمنيا حتى أيقنت أن سقوطه بات حتميا، وراهنت من بعده على الجيش للحفاظ على الاستقرار وحماية مصالحها في السودان.

أمام تلك السطوة الإقليمية، ظنَّ حمدوك أن الولايات المتحدة قادرة على حمايته كونها سبق وهدَّدت شريكه العسكري أن أي محاولة للانقلاب ستؤدي إلى إعادة فرض العقوبات على السودان وتجميد المساعدات الاقتصادية. بيد أن الانقلاب الذي أتى عقب ساعات من لقاء المبعوث الأميركي، تبعه بيان فاتر من الخارجية الأميركية بالإعلان عن القلق من التطورات في السودان، رغم أنها أصدرت قبل ذلك مواقف أكثر حِدَّة، وتعهَّدت على لسان رئيسها جو بايدن بحماية التحوُّل المدني الديمقراطي.

الاقتصاد.. أسوأ من أيام البشير

رغم الاحتفاء الذي قوبل به حمدوك والآمال الكبيرة التي عُلِّقت عليه بوصفه خبيرا اقتصاديا عمل لدى الأمم المتحدة في مجال إصلاح القطاع العام، فإنه واجه مهمة مستحيلة لإيجاد حلول تُنقذ الاقتصاد السوداني، وتُعالج البنية التحتية المتهالكة، وتُرضي جموع السودانيين الغاضبين والرافضين لسياسات التقشف التي طالما حاصرهم بها البشير. فقد استلم حمدوك منصبه في أغسطس/آب 2019 بديون خارجية قاربت 60 مليار دولار، ونسبة تضخُّم تقترب من 70%، وانهيار لسعر العملة وصل معه سعر الدولار إلى 47 جنيها سودانيا، مع عجز في موازنة عام 2019 بلغ 3.7%.

وبينما يقول مؤيدو الحكومة إن حمدوك استلم البلاد في وضع مُزرٍ وظروف اقتصادية فاقمتها الفيضانات وجائحة "كوفيد-19" وعدم الاستقرار السياسي، فإن معارضيه يُعدِّدون ما يرونه أخطاء ارتكبها الرجل في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، أبرزها تعويم الجنيه، ومحفظة السلع الإستراتيجية التي شكَّلتها الحكومة للاستيراد ودفعت رجال الأعمال إلى شراء الدولار بكميات كبيرة من السوق الموازي ما قاد العملة إلى الانهيار، إلى جانب عجزه عن إخضاع شركات الجيش لوزارة المالية، وعجزه كذلك عن فرض سيطرة الدولة على مبيعات الذهب التي يحتكرها حميدتي.

يُشير الأداء الاقتصادي للحكومة بعد عامين من الثورة إلى أزمة تكشفها الأرقام الرسمية. فقد ارتفع التضخُّم من 69% في عهد البشير وصولا إلى أرقام فلكية بلغت 422%، بينما واصلت العملة الانهيار إلى عُشر قيمتها السابقة تقريبا من 47 جنيها مقابل الدولار الواحد قبل الثورة إلى 441 جنيها مقابل الدولار، وهي أوضاع أدَّت إلى خروج تظاهرات ضد حكومة حمدوك في الأشهر الماضية. ورغم أن الجيش شريك في الحكم، فإن البرهان اعتمد في خطاب الانقلاب على الأداء الاقتصادي السيئ لحكومة حمدوك، واتخذه مُبرِّرا رئيسيا لحل المجلس الرئاسي والحكومة وفرض حالة الطوارئ.

أخطاء الماضي تتكرر.. انقلاب عسكري بدعوة "مدنية"

قبل أيام من الانقلاب العسكري، احتشدت مظاهرة أمام القصر الجمهوري داعمة للجيش ومطالبة بإقالة الحكومة والاستيلاء على الحكم، وحين اعتقل البرهان رئيس الحكومة وأعلن حالة الطوارئ وعلَّق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، إضافة إلى حل مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء وإعفاء الولاة، أتت مُبرِّراته للإجراءات بأنها رد فعل للتحرُّكات الشعبية، وأنه استجاب لمطالب الشعب ليس إلا.

في نوفمبر/تشرين الثاني 1958، أعلن وزير الدفاع الفريق "إبراهيم عبود" سحب الثقة من رئيس الحكومة وحل البرلمان.

يشهد التاريخ السوداني دوما فشل التجارب الديمقراطية بسبب قيام فصيل مدني بدعوة الجيش صراحة إلى الانقلاب كي يُزيح فصيلا بعينه مناوئا له. فقد شهدت أول ديمقراطية في السودان عقب الانفصال عن مصر في ديسمبر/كانون الأول 1956 إجهاضها على يد المدنيين أنفسهم، عقب الصراع الذي نشب داخل الحزب الحاكم وانتهى بانشقاق حزب "الشعب الديمقراطي"، علاوة على أن بقية الأحزاب السياسية التي انشغلت بالمناصب حينها فشلت في حسم الملفات المصيرية للبلاد، وهي نفسها الأزمات التي واجهت تجمُّع المهنيين وقوى الحرية والتغيير.

ونتيجة لذلك، لم يصمد الحكم المدني سوى ثلاث سنوات حتى بدأ أول انقلاب عسكري بدعوة صريحة من داخل حزب الأمة المشارك آنذاك في الائتلاف الحاكم، الذي طالب الجيش بالتدخُّل في الحياة السياسية بدعوى فشل القوى المدنية في التوافق على رؤية "دولة ما بعد الاستقلال"، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1958، أعلن وزير الدفاع الفريق "إبراهيم عبود" سحب الثقة من رئيس الحكومة وحل البرلمان. واللافت أن حزب الأمة الذي شارك في إجهاض أول تجربة ديمقراطية تحوَّل لاحقا إلى صفوف المعارضة، وكذلك القوى المدنية التي باركت الانقلاب آنذاك.

جعفر النميري

في عام 1964، أُتيح للسودانيين مجددا استعادة الحكم المدني عقب ثورة شعبية أطاحت بحكم عبود، لكن الأخطاء القديمة لم تبرح مكانها. فلم تصمد الحكومة المدنية بقيادة زعيم حزب الأمة "الصادق المهدي" سوى خمس سنوات، حتى أعلن الجيش انقلابا بقيادة "جعفر النميري"، وكان من أسبابه فشل الفصيل المدني في تجربة الحُكم التي أرجعها العسكريون للصراع السياسي الذي نشب بين الإسلاميين والشيوعيين على هوية الدولة. هذا وحصل الانقلاب على مباركة الحزب الشيوعي آنذاك، الذي أُعدم رئيسه للمفارقة بعد عامين من الحكم العسكري.

الاستثناء الوحيد في تاريخ الجيش السوداني يُمثِّله المشير "سوار الذهب" الذي حكم عاما في الفترة الانتقالية، عقب الإطاحة بحكم النميري في انتفاضة شعبية عام 1985، وفتح الباب من بعده لتولي المدنيين مقاليد السلطة، وهو ما مَثَّل في السردية السودانية ما يُعرَف بـ "العهدة الثانية للديمقراطية". بيد أنها لم تدم لأكثر من أربع سنوات، ثم أعقبها الانقلاب الذي قاده البشير بدعم من الحركة الإسلامية.

في قرن جديد، وبعد ثورة عُدَّت جزءا من موجة الثورات العربية التي سبقتها في العقد نفسه، يأتي "انقلاب البرهان" قبل أن تتم الثورة عامها الثالث على خلفية انقسامات مدنية مشابهة، وكذلك على أرضية ترحيب ضمني من بعض القوى السياسية المناوئة لقوى الحرية والتغيير، التي لم تُعبِّر حتى الآن عن رفضها للانقلاب، في تكرار للسيناريو القديم الذي خدم مرارا الحكم العسكري في السودان. هذا وتعهَّد البرهان بتسليم البلاد لحكومة مدنية مُنتخَبة، لكن تصريحاته القديمة تشي بأنه لن يسير على درب سوار الذهب الاستثنائي، بل سيقتفي آثار أسلافه العسكريين في الاستئثار بالسلطة، وهو نهج لم يكن لينجح كل مرة لولا أخطاء السياسيين المتكررة، التي أودت بثورتين شعبيتين في تاريخ السودان، وهي في طريقها الآن لفعل الشيء نفسه مع ثورة السودان الثالثة.

المصدر : الجزيرة