أميركا والصين.. الصراع البارد الذي يرسم ملامح العالم الجديد

يوجد الآن نظامان قيد التشكل، أحدهما بقيادة صينية والآخر بقيادة أميركية.

أميركا والصين.. الصراع البارد الذي سيرسم ملامح العالم الجديد

يتهاوى النظام العالمي يوما بعد يوم، ويبدو أن الجميع يدَّعي العلم بكيفية إصلاحه، حيث يرى البعض أن الولايات المتحدة عليها أن تعيد تكريس نفسها كي تقود النظام الليبرالي الذي أسهمت في إرساء قواعده منذ 75 عاما، بينما يحاجج آخرون بأنه يجب على القوى العظمى في العالم أن تُشكِّل ائتلافا لنقل المجتمع الدولي إلى عصر جديد من التعاون المتعدد الأقطاب، وأخيرا، يدعو البعض إلى مساومة كبرى تُقسِّم العالم إلى مجالات نفوذ مُستقِرة. والحال أن ما تشترك فيه هذه الرؤى جميعا حيال النظام العالمي هو الافتراض بأن الحوكمة العالمية يمكن تصميمها وفرضها من أعلى إلى أسفل.

بيد أن تاريخ النظام العالمي لا يُرجِّح كفة تلك الرؤى الواثقة في الحلول الرأسية والتعاونية، فلم تكن الأنظمة الدولية الأقوى في التاريخ الحديث -منذ قيام "وِستالفيا" في القرن السابع عشر إلى تشكُّل النظام العالمي الليبرالي في القرن العشرين- مؤسسات شاملة تعمل من أجل صالح البشرية جمعاء، بل كانت هذه الأنظمة تحالفات بنتها القوى العظمى لتسيير دفة منافسة أمنية ضد خصومها الأساسيين. إن الخوف والبغض تجاه عدو مشترك هو ما وطَّد من قواعد تلك الأنظمة الدولية المتعاقبة، وليست الدعوات المستنيرة لجعل العالم مكانا أفضل. فقد حدث التقدم بشأن القضايا العالمية في معظمه كنتيجة جانبية لتعاون أمني عتيد ضد تهديد مشترك، وحينما انقشع هذا التهديد أو تضخَّم للغاية، انهارت تلك الأنظمة الدولية. واليوم، يشهد النظام الليبرالي انهيارا مُماثلا لأسباب عديدة، إلا أن السبب الكامن هو أن التهديد الذي وُضِعَ هذا النظام الليبرالي لهزيمته -أي الشيوعية السوفييتية- قد تلاشى قبل ثلاثة عقود، ولم تدُم أيٌّ من الأهداف الجديدة المُقترَحة لاستمرار النظام الدولي كما نعرفه، لأنه لم يوجد تهديد واضح وقوي بما يكفي ليُجبر اللاعبين الرئيسيين على إقامة تعاون وثيق.

وقد بقي الحال على ما هو عليه حتى الأمس القريب، بيد أن الصين على ما يبدو قد أفزعت الدول المجاورة لها والبعيدة عنها على السواء عن طريق الزيادة المفاجئة في مستويات قمعها واعتداءاتها، فهي تتصرَّف بقوتها الغاشمة في شرق آسيا في محاولة منها لتشكيل مجالات اقتصادية حصرية لها في الاقتصاد العالمي، ثمَّ تُصدِّر في هذه الأثناء أنظمة رقمية تُعزِّز فعالية الأنظمة الاستبدادية. إذن، لأول مرة منذ الحرب العالمية الأولى، تواجه كتلة كبيرة من الدول تهديدات جدية على أمنها ورفاهها وسُبل حياتها، وكلها تهديدات لها منبع واحد.

تسبَّبت تلك اللحظة الكاشفة في طيف واسع من ردود الأفعال، فقد بدأ جيران الصين يسلِّحون أنفسهم ويتحالفون مع القوى الخارجية لتأمين أراضيهم ومعابرهم البحرية. وفي الوقت نفسه، تُطَوِّر الاقتصادات الكبرى في العالم بصورة تعاونية معاييرَ جديدة للتجارة والاستثمار والتكنولوجيا تُميِّز ضمنا ضد الصين، إذ تتآلف الديمقراطيات معا اليوم لتأسيس إستراتيجية مناهضة للسلطوية في الداخل والخارج، كما أُنشئت منظمات دولية جديدة لتنسيق هذه المعركة. وتبدو هذه الجهود المبذولة مبعثرة إذا ما نظرنا إليها في لحظتها الراهنة، لكن إذا أخذنا خطوة إلى الوراء تتَّضِح أمامنا صورة أوسع وأشمل: إن المنافسة مع الصين ترسم ملامح نظام دولي جديد، أيّا كانت الإيجابيات والسلبيات التي سيتمخَّض عنها بالمقارنة مع النظام الدولي الحالي.

المصدر : مواقع إلكترونية