شعار قسم ميدان

الجنيه يصارع الدولار.. جذور الأزمة التاريخية للاقتصاد المصري

An employee counts Egyptian pounds at a foreign exchange office in central Cairo, Egypt, March 20, 2019. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، شهدت مصر تحريرا لسعر صرف العملة المحلية، وفقدَ الجنيه المصري نحو نصف قيمته أمام الدولار، جزءا من برنامج إصلاح اقتصادي بدأته الحكومة وحصلت بموجبه على قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار. ولم تكد تمضي ست سنوات حتى دخلت العملة المصرية مرة أخرى في دوامة هبوط، واستيقظ المصريون في مارس/آذار الماضي على انخفاض جديد في سعر الصرف قالت السلطات المصرية إنه ناجم عن التبعات القاسية للتضخم الذي ما انفك يضرب العالم كله، لا سيما بعد رفع البنك الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى الولايات المتحدة، جنبا إلى جنب مع التداعيات الاقتصادية لحرب أوكرانيا وجائحة كورونا.

 

بحسب توقُّعات مؤسسات دولية، فإن موجة التضخُّم المصاحبة لتراجع سعر الجنيه المصري لن تكون الأخيرة. وبينما تسعى مصر حاليا في طلب دعم صندوق النقد الدولي عبر قرض جديد، وتُبرِّر الأزمة الاقتصادية الحالية بعوامل خارجة عن إرادتها أبرزها حرب روسيا على أوكرانيا، فإن بعض الخبراء يعزون أزمة الاقتصاد المصري إلى عوامل طويلة الأمد الكثير منها ليس وليد الحرب الأوكرانية. فثمَّة أسباب جوهرية لضعف اقتصاد مصر منذ عقود سرعان ما أفصحت عن نفسها في السنوات الأخيرة، أبرزها الاعتماد المُفرِط على الاستيراد مقابل ضعف الإنتاج المحلي، وهي آفة تضرب اقتصاد البلاد منذ الانفتاح في السبعينيات، علاوة على الارتفاع الصاروخي في مُعدَّل الاقتراض الخارجي طيلة السنوات الثمانية الأخيرة. في هذا التقرير نتناول تلك المشكلات ودورها في الأزمة الحالية.

 

الاستيراد.. لعنة الانفتاح

الاستيراد.. لعنة الانفتاح

مثل غيرها من دول عديدة بالعالم الثالث، تُعَدُّ مصر اقتصادا هشا مرتبطا باقتصاد عالمي قوي، فاقتصادها مرتبط بالدولار الأميركي كما هو معمول به منذ 1945، ومن ثمَّ فإن نجاح النظام الحاكم في تسيير دفة الاقتصاد مرهون بقدرته على تدبير مصادر العملة الصعبة، وتوسيع رقعة الفُرص المتاحة لعمل الملايين من القوى العاملة في شتى القطاعات. على مدار الثمانينيات والتسعينيات ومطلع القرن الجديد، لم يزِد التعداد المصري على 80 مليون نسمة، ونتيجة للتعليم الجيد وإجادة العربية، عمل الملايين من المصريين في طفرة الخليج الأولى بعد قفز أسعار النفط إبَّان حرب أكتوبر 1973، وساهم هؤلاء في بناء العديد من دول الخليج الحديثة كما نعرفها اليوم. وقد خفَّف هؤلاء من جهة من عبء التوظيف على الدولة، ودرُّوا عليها العُملة الصعبة بتحويلاتهم السنوية. وقد أُضِيف إلى ذلك المليارات التي جلبتها قناة السويس بعد ارتفاع أسعار النفط وتضاعفها أكثر من مرة إثر إعادة تشغيل القناة في السبعينيات، وكذلك صادرات النفط والغاز من الحقول التي احتلتها إسرائيل في 1967، ودرَّت هي الأخرى دخلا كبيرا، وأخيرا السياحة الأجنبية المتزايدة.

 

مرَّت السنوات إذن ونما الاستيراد سريعا، ونجح الاقتصاد المصري في الخروج من عثرات عدة، باستخدام المناورات السياسية أحيانا كما حدث في حرب الخليج في مطلع التسعينيات، حيث دفعت مشاركة مصر في الحرب الدول الغربية إلى شطب نصف ديون البلاد. بيد أن متغيرات شتى أبرزها تحوُّل النظام السياسي والاجتماع في أعقاب الثورة المصرية عام 2011، وما سبق ذلك من تحوُّلات سُكانية كبرى، مع تضاؤل قدرة إيراد القناة والسياحة والحقول النفطية على تغطية عجز الاقتصاد المصري، وتقلُّص فُرص التوظيف في الخارج وإن استمرت القيمة المُطلقة للحوالات المصرية في تزايد؛ دفعت النظام المصري إلى البحث عن نهج جديد يستوعب هذه الملايين ويُدشِّن اقتصادا صناعيا حقيقيا أكثر اندماجا في سوق العمل الدولي، بحيث تكون مصر أكثر قدرة على التصدير وتحقيق التنمية المستدامة، وفق ما تعهَّدت به الحكومة.

 

لكن السياسات الاقتصادية الجديدة للبلاد سرعان ما كشفت عن أوجه قصورها. أعلنت الحكومة المصرية مؤخرا أنها حققت طفرة وُصفت بالتاريخية، عقب ارتفاع صادرات البلاد لعام 2021 لتبلغ 45.2 مليار دولار، مقابل 32.6 مليار دولار عن عام 2020، لكن المُعضلة تكمُن في أرقام الواردات التي تكشف الجانب الصعب من الأزمة الجارية وضغوطها على الجنيه المصري. وبحسب النشرة الاقتصادية الصادرة عن وزارة التجارة والصناعة، بلغت الواردات المصرية غير البترولية خلال عام 2021 نحو 76.7 مليار دولار، إلى جانب نحو 12 مليار دولار من النفط، ما يعني أن العجز في الميزان التجاري بلغ 50%. وتُصدِّر مصر سلعا إستراتيجية مثل الغاز والبتروكيماويات، إلى جانب السلع الغذائية، لكنها تستورد سلعا إستراتيجية أخرى لا يمكن الاستغناء عنها، وبحسب أحدث نشرات الواردات المصرية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تتمثَّل أهم الواردات المصرية في نحو 60 سلعة أهمها النفط والفحم والقمح، والذرة وفول الصويا، والتبغ، واللحوم، والأسماك، والألبان، وخامات الحديد والألمونيوم، والمحركات الكهربائية، وأجهزة الاتصالات، والأجهزة الكهربائية.

 

ولأن مصر تعاني عجزا في الميزان التجاري منذ عام 2004، وهو ما يجعل نفقاتها بالعملة الأجنبية أكبر من دخلها، كان الحل من وجهة نظر الحكومة المصرية وقف استيراد أكثر من 800 علامة تجارية، في محاولة مؤقتة لوقف استنزاف احتياطاتها من الدولار، خاصة بعد هروب نحو 15 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية خارج البلاد، خلال ثلاثة أسابيع فقط من الهجوم الروسي على أوكرانيا، مع إقبال المستثمرين على الفرار من الأسواق الناشئة إلى استثمارات أكثر أمانا في الولايات المتحدة التي رفعت فائدتها. وما يُزيد من هول الأزمة هو ارتفاع الأسعار العالمية، نتيجة مباشرة للحرب، ما يعني ضرورة قيام الحكومة والبنك المركزي بخطة عاجلة لإنقاذ العملة المحلية وحماية الاقتصاد المحلي من موجة تضخُّم ضارية.

القروض.. دائرة لا تتوقف

مع زيادة الطلب على الدولار الأميركي بسبب الاستيراد، باتت قيمة الجنيه المصري مُهدَّدة باستمرار، وهنا تدخَّل البنك المركزي بعدة قرارات لحماية العملة الوطنية وتثبيتها. وقد شرح الخبير المصرفي "هشام عارف" في حوار مع "ميدان" أن البنك المركزي يعالج تلك المشكلة الآن عبر سيناريو ثابت مُتمثِّل في القروض، سواء كانت من الدول أو المؤسسات الدولية أو حتى عبر السندات، وذلك للحصول على النقد الأجنبي وتدبير حاجة المستثمرين لاستيراد السلع الإستراتيجية. وكلما أصبحت هناك وفرة في الدولار الأميركي، أصبح سعر الجنيه المصري ثابتا، أما إذا اختلت تلك المعادلة فيبدأ من جديد هبوط العملة الوطنية، مما يُجبر الحكومة على تحريك سعر الصرف، وهو ما تحاول الإدارة المصرية أن تتجنَّبه قدر الإمكان بعد أن تجاوز سعر الصرف 18 جنيها للدولار الواحد، وسرت تكهُّنات بأنه قد يكسر عتبة العشرين جنيها.

 

ماذا يحدث إذن إذا توقفت مصر عن الاقتراض؟ سيتسبَّب غياب الدولار والانخفاض الحاد لقيمة العملة الوطنية في رفع تكاليف الاستيراد وزيادة التضخُّم وتقليص القوة الشرائية للمستهلكين، وصولا إلى عجز الحكومة عن سد ديونها بالعملة الصعبة، وهو سيناريو قاد سابقا إلى انهيار الوضع الاقتصادي في كلٍّ من فنزويلا ولبنان والأرجنتين. المشكلة هنا أن القروض التي تحل الأزمة على المدى القصير، تزيد من أعباء الاقتصاد على المدى البعيد. فمنذ منتصف عام 2014، تضاعف الدين الخارجي ثلاث مرات، حتى سجَّل في إبريل/نيسان 2022 نحو 145.5 مليار دولار، وهناك تقديرات لزيادة الديون بنحو 100 مليار دولار خلال خمس سنوات قادمة إذا استمرت الحكومة على نهج اقتراض 15-20 مليار دولار كل سنة.

 

يصفُ علماء الاقتصاد توابع تلك السياسات النقدية التي تستند إلى تثبيت العملة الوطنية بالقروض بالقول إنه عادة ما يحدث تحريك كبير لسعر صرف العملة كُل سبع أو عشر سنوات. وتبدو النتائج متقاربة بإسقاطها على ما حدث في مصر عام 2003 حين قام الرئيس الأسبق مبارك بتحريك سعر الجنيه، وحينما ساءت الأوضاع الاقتصادية بعدها بسبع سنوات اندلعت الثورة المصرية عام 2011، دون أن يتمكَّن المجلس العسكري الانتقالي، وبعده الحكم القصير للرئيس مرسي، من اتخاذ قرار التعويم، ليتخذه السيسي عام 2016، وبعده بأقل من سبع سنوات حدث التحريك الأخير في مارس/آذار عام 2022، نتيجة ارتفاع أسعار السلع العالمية، وهروب الاستثمار الأجنبي، وانخفاض أعداد السياح، واستمرار اعتماد الاقتصاد المصري المُفرِط على تلك الموارد.

 

من المقرَّر أن تحصل مصر، للمرة الرابعة في ست سنوات، على قرض جديد من صندوق النقد الدولي كي توفِّر احتياجاتها من العملات الأجنبية اللازمة لشراء المواد الغذائية وسد ديونها الخارجية، دون أن يكشف الصندوق حجم الدعم المالي الذي طلبته القاهرة. ورغم أن الحكومة المصرية أعلنت سياسة تقشف سبق وأعلنتها عام 2016، فإن بعض الخبراء أشاروا إلى أن صندوق النقد يساعد فقط في مواجهة المصاعب الاقتصادية العاجلة، دون أن يعالج الأسباب الكامنة وراءها.

 

الإنتاج.. الحل الوحيد الصعب

الإنتاج.. الحل الوحيد الصعب

الخلاصة إذن أن مصر تعتمد على الخارج في تلبية 50% من احتياجاتها من مأكل ومشرب، وهو ما جعل كل الإصلاحات الحكومية مرهونة باستقرار الدولار ومعه الاقتصاد العالمي. ورغم أن السيسي اعتمد فعلا سياسة إصلاح اقتصادي عام 2016، تراجع معها معدَّل التضخم إلى 11% بعد أن وصل إلى 30% عام 2017، (ارتفع حاليا إلى 14.9%)، وارتفع احتياطي النقد الأجنبي من أقل من 15 مليار دولار في أواخر عام 2016 إلى نحو 37 مليار دولار حاليا، فإن كل الخطط الحكومية تبدَّدت سريعا إبَّان الأزمة الدولية الراهنة، التي كشفت غياب أي حلول مستدامة بعيدا عن الاقتراض وسياسات التقشف، في حين تبقى مشكلة ضعف الإنتاج المُزمنة دون حل حقيقي.

 

بحسب تصريحات وزير المالية المصري، تُمثِّل الضرائب 70% من إيرادات الدولة، وفيما تعتمد الحكومة على شراء احتياجاتها كافة من الخارج، فإنها أيضا تُحصِّل قرابة ثلاثة أرباع مواردها من فرض الضرائب، وهو ما يعكس حقيقة مسكوتا عنها طيلة سنوات عديدة أن مصر ليست بلدا مُنتجا لاحتياجاته الداخلية. تحتاج الحكومة إذن إلى بناء المصانع وتشجيع الاستثمار الأجنبي في قطاعات التصنيع، ومن ثم يزيد الإنتاج وصولا إلى نقطة التعادل أو الاكتفاء الذاتي التي يتساوى فيها طلب السوق المحلي مع الإنتاج، ومن ثمَّ تبدأ الدولة في تصدير الفائض وعكس الميزان التجاري لصالحها، وهو ما يُقلِّل في النهاية حجم الضغط على الدولار، دون أن تُجبَر الحكومة في كل مرة على الاقتراض لتسديد ديونها وتلبية احتياجاتها.

 

المعضلة هنا هي أن الحكومة منحت أولوية قصوى لمشاريع البنى التحتية واسعة النطاق، دون أن تضخ أموالا مكافئة في تطوير قطاع صناعي ثقيل. وتتوقع مجلة "بلومبيرغ" الأميركية الاقتصادية أن يستغرق تطوير قطاع صناعي في مصر عدة سنوات، وأنها ستحتاج إلى أموال طائلة لتتفادى تكرار السيناريو القديم المتوقَّع. بدون تلك الخطوة سيضطر أي رئيس يرأس البلاد إلى اللجوء مضطرا نحو صندوق النقد مرة أخرى في السنوات القادمة في ظل عجز الإنتاج في الداخل والزيادة السكانية الضاغطة، وهو ما سيعقبه تعويم آخر للجنيه المصري كما تعوَّدنا.

 

في النهاية، لا يسع أي نظام يريد أن يحل معضلة دامت نصف قرن تقريبا من عُمر الاقتصاد السياسي المصري؛ دون أن يتبنى مشروعا قوميا شاملا للاستثمار في الموارد البشرية والقدرات الصناعية بشكل يُلبِّي احتياجات الداخل، ويُقلِّل الاعتماد على الاستيراد، ويمنح الملايين وظائف متنوِّعة حقيقية، وينقل البلاد إلى الطفرة التي طالما بحثت عنها منذ تعثَّر مشروعها الصناعي في منتصف السبعينيات، وأخيرا، ينقذ الجنيه المصري من لعنة التعويم المُتجدِّدة، ويمنحه أسبابا جديدة ومنطقية وضرورية للثبات في وجه العملات الأجنبية والأزمات العالمية.

المصدر : الجزيرة