شعار قسم ميدان

عقوبة يوفنتوس.. كيف تحول الدوري الإيطالي إلى مسرح للفضائح؟

Soccer Football - Serie A - Juventus v Parma - Allianz Stadium, Turin, Italy - January 19, 2020 General view of the corner flag inside the stadium before the match REUTERS/Massimo Pinca
(REUTERS)

أحيانا يبدو تاريخ الكرة الإيطالية وكأنه سيل مستمر من الفضائح وقضايا التلاعب تتخلله بعض مباريات كرة القدم. من بين الدوريات الخمس الكبرى، لم يُنتج أي بلد آخر هذا الكم من العناوين المثيرة عبر تاريخه؛ فضيحة "توتونيرو" في 1986، وهبوط جنوى في 2005 للتلاعب في النتائج، ثم "كالتشوبولي" بعدها بعام واحد، ثم التلاعب في النتائج مرة أخرى عام 2011 في قضية كان جيوسيبّي سنيوري، قائد لاتسيو السابق، على رأس متهميها، وفي 2015 يكرر كاتانيا فعلة جنوى نفسها ويهبط للدرجة الثالثة للسبب ذاته. القائمة طويلة فعلا، لذا اكتفينا بالعناوين من آخر 40 عاما فقط. (1) (2) (3) (4) (5)

 

بيضة ودجاجة

بسهولة يمكنك ملاحظة أن وتيرة الكشف عن الفضائح تتسارع مع التقدم التكنولوجي، فبحساب القضية الحالية التي يحتل يوفنتوس صدارتها، فإن عدد الفضائح التي خرجت للنور في آخر عقد تساوي ضِعْف تلك التي اكتشفناها في العقد الذي سبقه.

 

بالطبع هذا يطرح سؤالا مهما بلا إجابة حقيقية: هل تُعبِّر غزارة القضايا والفضائح عن فساد الكرة الإيطالية بوصفها حالة شاذة متطرفة مقارنة بباقي بلاد أوروبا، أم أنها ببساطة تُعبِّر عن كفاءة القضاء الإيطالي مقارنة بنظرائه؟ بمعنى آخر؛ هل ما يحدث في إيطاليا هو ذاته ما يحدث في باقي أوروبا والفارق الوحيد هو درجة الكفاءة في التآمر؟

 

كما أسلفنا، هذا سؤال بلا إجابة، ببساطة لأن المرجعية غائبة هنا، وللمفارقة، كان غياب المرجعية هو السبب ذاته الذي دفع جيوسيبّي تشيني، مدعي الاتحاد الإيطالي لكرة القدم، للنبش في ملفات يوفنتوس تحديدا.

 

بدأت القصة في مطلع العام الماضي، عندما قرر تشيني البحث في ملفات بعض الصفقات التي عُقدت في الدوري الإيطالي خلال السنوات الأخيرة، والمتورط فيها 11 ناديا و59 إداريا بهذه الأندية، فيما عُرف لاحقا بقضية "بلاس فالِنزي" (plusvalenze)، التي تُترجم حرفيا إلى القيمة المُضافة أو المُضخمة بالعربية. سبب التسمية مفهوم طبعا؛ هذه الصفقات، التي كان أغلبها يشمل تبادل لاعبين بين هذه الأندية، كانت قيمتها مبالغا فيها من وجهة نظر تشيني. (6)

عموما، هذا أسلوب تتبعه الكثير من الأندية لسد ثغراتها المالية، وأشهر مثال على ذلك كان صفقة التبادل بين برشلونة ويوفنتوس التي انتقل بموجبها البرازيلي آرتور ميلو إلى الأخير مقابل البوسني ميرالِم بيانيتش و16 مليون يورو. هذا هو مختصر الصفقة، ولكن ما حدث فعليا أن برشلونة باع آرتور مقابل 76 مليون يورو في آخر أيام إغلاق السنة المالية لموازنة حساباته، ثم اشترى بيانيتش في افتتاح السنة المالية الجديدة مقابل 60 مليون يورو.

 

مشكلة تشيني هذه المرة كانت إيطالية بحتة، وكل الأصابع كانت تشير إلى نادٍ واحد يقود أوركسترا الصفقات الإيطالية المشبوهة، والحسبة بسيطة؛ يوفنتوس كان طرفا في نحو ثلثي هذه الصفقات (60%)، وبالتالي تحولت السيدة العجوز إلى المشتبه به رقم واحد في القضية. (7)

 

أجرى تشيني تحقيقاته وجمع ما أمكنه من أدلة ثم تقدم بها للمحكمة الإيطالية، وفي إبريل/نيسان 2021، حكمت المحكمة ببراءة المتهمين لعدم كفاية الأدلة. السبب الرئيس للبراءة كان غياب المرجعية لتحديد الأسعار "المناسبة" لعقود هؤلاء اللاعبين، ولا أدل على ذلك سوى استعانة تشيني بموقع "ترانسفير ماركت" (Transfermarkt) الألماني للتدليل على تضخم الأسعار، وهو موقع يقدم قيما تقريبية للاعبين بناء على عدة عوامل بعضها موضوعي وبعضها لا أساس له، وليس معتَمدا من أي جهة كروية رسمية أو حاكمة. (7) (8)

 

الدوري والدولي

خسر تشيني قضيته، ثم استأنف، ثم خسر الاستئناف، وحينها ظن الجميع أن القضية قد دُفنت للأبد، ولكن بعدها نشأ تحقيق جديد مستقل قاده المدعي العام في تورينو، هدفه مراجعة حسابات يوفنتوس المالية في السنوات الثلاث الماضية، فيما عُرف بـ"قضية بريزما" (Prisma Case)، وحينها طلب تشيني من المحققين النظر في الأدلة التي جمعوها. (7)

مرة أخرى، استخدم الإعلام والقضاء الإيطالي اسما مجازيا في "بريزما"، الذي يعني المنشور الزجاجي بالإيطالية؛ السطح الذي يمر عبره الضوء الأبيض الساطع ليتحلل إلى مكوناته اللونية ويكشف خباياه. المجاز حاضر دائما هنا.

 

المهم أن الأدلة الجديدة ساعدت تشيني على الذهاب إلى قضاة المحكمة مجددا بوثائق تُغريهم بفتح التحقيق مرة أخرى، وقد كان، وفي توصيته طالب تشيني المحكمة بخصم 9 نقاط من يوفنتوس في الموسم الحالي، ومعاقبة أندريا أنييلي، رئيس يوفنتوس السابق، بالإيقاف لـ16 شهرا، ومدير الكرة الحالي فيديريكو تشيروبيني بعشرة أشهر، وسلفه فابيو باراتيتشي، المدير الحالي لتوتنهام، بعشرين شهرا وعشرة أيام. (9)

 

لم تكتفِ المحكمة بتنفيذ توصيات تشيني، بل زادت الخصم النُّقطي ومُدد الإيقاف، فأصبح 15 نقطة وعامين لأنييلي و30 شهرا لباراتيتشي، ويسعى تشيني حاليا لمخاطبة يويفا وفيفا لتمديد إيقاف الأخير لنطاق دولي يشمل إنجلترا ولا يكتفي بالدوري الإيطالي.

 

المشكلة هنا أنه حتى تلك الصفقات التي لم تشهد تبادل لاعبين كانت مريبة بدورها، تخيل مثلا أنه بين موسمي 2018-2019 و2019-2020 تحصَّل يوفنتوس على 70 مليون يورو تقريبا من صفقات بيع كلٍّ من ريكاردو أورسوليني وستيفانو ستورارو وإيميل أوديرو ورولاندو ماندراغورا. لم تسمع عنهم من قبل؟ حسنا، هذا هو ما دفع تشيني للتحقيق ابتداء. (10)

 

ما زاد الطين بلّة أن هذا الرباعي بِيع إلى أندية معدمة أو تكاد، هي بولونيا وجنوى وسامبدوريا وأودينيزي على الترتيب. تخيل أن سامبدوريا يستطيع إنفاق 20 مليون يورو على حارس يوفنتوس الرابع مثلا، ثم تخيل أن هذا الحارس أصبح أغلى صفقات النادي في تاريخه كاملا بمجرد توقيعه. (11)

هذا هو ما حدث مع ماندراغورا في أودينيزي وأورسوليني في بولونيا، وقبل التوقيع مع أندريا بينامونتي في الصيف قبل الماضي، كان ستورارو أيضا هو أغلى صفقة ضمها جنوى في تاريخه، أي إنه حتى بغض النظر عن صفقات التبادل، فالنمط كان واضحا؛ هناك أندية فقيرة تنفق مبالغ أكبر من استطاعتها للتوقيع مع اللاعبين الذين يرغب يوفنتوس في التخلص منهم، وكل هذا كان يتم أثناء وبعد ضم كريستيانو رونالدو من ريال مدريد مقابل رقم قياسي بلغ 117 مليون يورو، ذكرت بعض التقارير الصحفية آنذاك أن المدير الرياضي حينها، بيبي ماروتّا، كان معترضا عليه، وتسبَّب في استقالته ورحيله إلى إنتر. (12) (13) (14)

 

الأسوأ لم يأتِ بعد

عند تلك اللحظة كانت الصورة قد اتضحت أمام تشيني؛ هو يفهم ما يحدث ولكنه لا يستطيع إثباته، ولذلك كان دور المدعي في قضية بريزما حاسما في قضيته. المشكلة أن كل ذلك تزامن مع تحقيقين آخرين لم يكن الوضع في يوفنتوس يحتملهما.

 

الأول تقوده "لجنة التحكيم المالي للأندية بالاتحاد الأوروبي" (Club Financial Control Body) التي يُشار إليها اختصارا بـ"CFCB"، وسببه أنها كانت وقَّعت اتفاقية تسوية مع عدد من الأندية منذ سنتين، من ضمنها يوفنتوس، تهدف إلى إعادة جدولة الديون القائمة لضمان استمرارها وتجنب إفلاسها. هذه التسوية أُعيد فتحها بعدما تجاوزت ديون يوفنتوس عن العام المالي الماضي ربع مليار يورو (250 مليون يورو) في رقم قياسي جديد بتاريخ الكرة الإيطالية، فقط هو رقم قياسي لن يحب أن يحتفظ به يوفنتوس في سجلاته. (8)

 

التحقيق الثاني يقوده -مفاجأة- جيوسيبّي تشيني نفسه، ولكنه ينظر في تفاصيل مالية مختلفة متعلقة بحركة تأجيل وترحيل الرواتب في يوفنتوس أثناء الجائحة، التي كشفت، طبقا للتحقيقات الأولية والتسريبات من مكالمات مراقبة لأعضاء إدارة يوفنتوس وعلى رأسهم أنييلي، أن الأخبار المعلنة آنذاك عن حجب رواتب 4 أشهر للاعبين لم تكن حقيقية. (7)

ما يزعمه تشيني أن اللاعبين قد تنازلوا عن رواتب شهر واحد فقط، بينما تقاضوا الأشهر الثلاثة الباقية في صورة دفعات غير مسجلة، لتخفيض نفقات النادي الرسمية. في آخر هذا الخيط تجد ما يُعرف بـ"كارتا رونالدو" (Carta Ronaldo)؛ اتفاق سري تم توقيعه بين يوفنتوس ورونالدو للحصول على رواتب الجائحة خارج الحسابات الرسمية، وبمقتضاه تدين السيدة العجوز للدون بما يقارب 20 مليون يورو. (15)

 

تؤكد بعض التقارير أن رونالدو عازم على الحصول على هذه المبالغ، وأن رغبته قد تضاعف العقوبات على يوفنتوس إن تقدم بنسخة من هذا الاتفاق. حتى اللحظة، لا يزال المدعي العام في تورينو وجيوسيبّي تشيني يحاولان التواصل مع محامي البرتغالي، ولكنهما لم ينجحا في إبرام أي اتفاقات.

 

هذه القضية تحديدا قد تُنهي موسم يوفنتوس الحالي عمليا، وربما تُدخله في أزمة مستمرة لعدة مواسم قادمة، والفرصة الوحيدة المتاحة لتحسين الأوضاع الآن هي الاستئناف أمام المحكمة الأولمبية الإيطالية، أعلى كيان قضائي رياضي في إيطاليا، التي ينحصر دورها في التأكد من صحة الإجراءات التي قادها تشيني ومدعي تورينو العام للوصول إلى هذا الحكم، أو إلغائه والعودة إلى نقطة الصفر. لا يوجد احتمالات أخرى هنا. (7)

 

الطوفان

SALERNO, ITALY - JANUARY 21: Victor Osimhen of SSC Napoli celebrates after scoring the 0-2 goal during the Serie A match between Salernitana and SSC Napoli at Stadio Arechi on January 21, 2023 in Salerno, Italy. (Photo by Francesco Pecoraro/Getty Images)
النيجيري فيكتور أوسيمين. (غيتي)

تشيني لن يتوقف هنا. في الواقع، الرجل أعلن بالأمس أنه سيبدأ تحقيقا مشابها في صفقة انتقال النيجيري فيكتور أوسيمين من ليل الفرنسي إلى نابولي، والسبب هو أنماط مريبة مشابهة بلا تفسير؛ الاتفاق الأوّلي كان 72 مليون يورو و10 ملايين كإضافات، ثم أعلن أن هذا المبلغ كان يتضمن ما يعادل 20 مليون يورو في صورة لاعبين متبادلين، 4 لاعبين تحديدا، منهم حارس لم يلعب مباراة واحدة بقميص ليل، وثلاثة آخرون أُعيروا مباشرة ثم أُنهيت عقودهم. (16)

 

اللافت في كل ذلك هو درجة الاستهتار في تغطية مثل هذه الصفقات، وكأن مسؤولي الأندية لا يعبأون، أو لا يعتقدون أن أحدا سيتمكن من ملاحقتهم أو الإمساك ببداية الخيط. عندما تبيع عقد لاعب وتحصل على مبلغ من المال وأربعة لاعبين ثم تتخلص منهم جميعا دون أن يلعبوا مباراة واحدة مع فريقك، وتتوقع ألا أحد سيتساءل عن الأمر، فهذا هو الاستخفاف بعينه.

 

القصة لن تتوقف عند يوفنتوس، وحتى لو كانت لتتوقف في تورينو، فلم تكن الشماتة لتنفع، لأنها لم تنفع أيضا عقب "كالتشوبولي" في 2006. هذه الفضائح تضرب مصداقية الدوري كله في مقتل، وتُفقد المشجعين الثقة في أنديتهم، وفي حقيقة ما يشاهدونه من مباريات، وتدفع الجميع نحو المزيد من نظريات المؤامرة في محاولة لتخيل ما لا يعلمونه بعد، وإن لم نكن متأكدين من صحة اعتبارها مجرد "نظريات" الآن.

 

هذه الفضائح، خاصة تلك التي يتورط فيها عدد كبير من الأندية والمسؤولين، تُحوِّل الدوري كله إلى مسرحية هزلية، فبينما يتقاتل الطليان في المدرجات بالأهازيج أحيانا وباللكمات أحيانا أخرى، مدفوعين بعاطفتهم وانتمائهم إلى أنديتهم، حتى وإن بالغوا في الأمر أحيانا، تحكم الإدارات موازنات المصالح والفضائح، وهذه القضايا هي ما يمنحهم نظرة على ما خلف الكواليس، نظرة كاشفة تُشعرهم بالغضب، وبالتالي يتصاعد معها العنف في المدرجات وخارجها، بالضبط كما حدث في 2006. (17)

 

هذا واحد من المشاهد التي بمجرد رؤيتها يستحيل محوها من الذاكرة، ويتطلب التعافي منها وقتا طويلا. يشبه الأمر أن تكون في وسط مشاهدة فيلم حركة مثير، وفي ذروة الأحداث، عندما يصل الترقب إلى أقصاه، تسمع صوت المخرج معلقا على تفصيلة ما، فتدرك أن كل شيء قد أُفسد، وأنك لم تعد تستطيع التعامل مع الفيلم بجدية مرة أخرى، وأن تقمص أحداثه صار مستحيلا، بل وربما تغضب من نفسك لأنك صدقته. المشكلة هنا أننا لا نعلم هوية المخرج فعلا.

——————————————————————————-

المصادر:

1- التلاعب بنتائج المباريات؛ لعنة كرة القدم الأزلية – France 24

2- جنوى يهبط للدرجة الثانية للتلاعب بنتائج المباريات – The Guardian

3- الكالتشوبولي؛ الفضيحة التي هزت كرة القدم الإيطالية وتركت يوفنتوس في الدرجة الثانية – BBC

4- فضيحة تلاعب جديدة تهز الكرة الإيطالية – The Guardian

5- كاتانيا يهبط للدرجة الثالثة بعد تورطه في التلاعب بنتائج المباريات – The Guardian

6- لماذا تم خصم نقط من يوفنتوس وما يعنيه ذلك للكرة الإيطالية وتوتنهام – The Athletic

7- شرح السبب لخصم 15 نقطة من يوفنتوس – The Athletic

8- 15 نقطة تخصم من يوفنتوس في موسم الدوري الإيطالي الحالي – The Athletic

9- مدعي الاتحاد الإيطالي لكرة القدم يوصي بخصم 9 نقاط من يوفنتوس – The Athletic

10- كل انتقالات يوفنتوس – Transfermarkt

11- صفقات سامبدوريا القياسية – Transfermarkt

12- صفقات أودينيزي القياسية – Transfermarkt

13- صفقات بولونيا القياسية – Transfermarkt

14- صفقات جنوى القياسية – Transfermarkt

15- كيف تتصل صفقات يوفنتوس ومانشستر يونايتد ورونالدو معا؟ – Football Italia

16- المدعي الإيطالي يستهدف نابولي وصفقة أوسيمين عقب فضيحة يوفنتوس – World Soccer Talk

17- فضيحة يوفنتوس قد تصيب السيري آ كلها بالشلل – The Athletic

المصدر : الجزيرة