شعار قسم ميدان

من "يد الله" إلى يد الفار.. لِمَ لا تترك التكنولوجيا كرة القدم وشأنها؟

يسمونه بالإسبانية "La mano de Dios" أو "يد الله"، لا نتحدث هنا عن طفل معجزة أو شخص أصابه البرق فتحوَّل إلى درويش، ولا حتى عن راهب في حالة خاصة جدا من التعبد، بل عن هدف(1) شهير أحرزه دييغو أرماندو مارادونا في شباك المنتخب الإنجليزي في دور ربع النهائي كأس العالم 1986 بالمكسيك، سجَّل مارادونا الهدف بيده اليسرى، واحتسبه الحكم الدولي التونسي علي بن ناصر لأنه لم يمتلك زاوية رؤية مناسبة، فتصوَّر أنه برأسه.

بفضل ذلك الهدف حسمت الأرجنتين المباراة لصالحها في النهاية، وفي المباريات التالية واصلت الأرجنتين انتصاراتها وحصلت على بطولة كأس العالم، قال مارادونا عن هذا الهدف إنه كان "قليلا من رأس مارادونا، وقليلا من يد الله"، ومن هنا جاءت التسمية، وفي وقت لاحق أشار إلى أنه يعتبر الهدف "انتقاما رمزيا" لانتصار المملكة المتحدة على الأرجنتين في حرب فوكلاند قبل أربع سنوات من تاريخ كأس العالم!

حول العالم، كان هذا الهدف مثار جدل كبير بين عشاق كرة القدم، في وقت لم تكن تنتقل فيه الأخبار ولا تسافر الصور كثيرا من دولة إلى دولة، وعلى مدى سنوات طويلة ظل هناك جدل شديد في الوطن العربي حول هذا الهدف، حتى إن أحمد زكي قد استحضره في أحد أشهر أفلامه، لكن ماذا لو سُجِّل هذا الهدف في كأس العالم 2022 المقام حاليا في قطر؟

بالطبع لن يحدث أي شيء من كل ما سبق، إذ سيلجأ الحكم إلى تقنية الفار للتأكد من صحة الهدف وينتهي الأمر، وكان مارادونا سيُلام على فعلته، وربما بسبب فرحة الفريق بالهدف ثم إلغائه تتبدل الحالة النفسية قليلا للأرجنتين، ما يتسبب في العكس، أن تفوز إنجلترا بالمباراة، مَن يدري؟

يد التقنية

في كرة القدم الحديثة، يتخطى الأمر ذلك بمراحل، أحد أكثر المشاهد تدليلا على قدرة التكنولوجيا على الولوج إلى أرض الملعب كانت حينما أنهت شركة "أديداس"، التي تُنتج كرة القدم الرسمية لدورة كأس العالم المقامة حاليا، الجدل الذي أُثير حول هُوية مُسجِّل هدف البرتغال الأول في مرمى الأوروغواي بدور المجموعات، احتُسب الهدف بالفعل لبرونو فيرنانديز، بينما طالب رونالدو باحتسابه لصالحه لأنه لمس الكرة برأسه.

فبعد ساعات من الجدل الصاخب، أعلنت الشركة(2) أن رأس رونالدو لم يلمس الكرة، وذلك استنادا إلى "بيانات دقيقة للغاية" حصلت عليها من جهاز الاستشعار داخل الكرة، الذي يرسل بيانات الكرة إلى غرفة عمليات الفيديو 500 مرة في كل ثانية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، في كأس العالم الحالي هناك 12 كاميرا تتبُّع مخصصة مثبتة أسفل سقف كل ملعب لتتبع الكرة مع 29 نقطة بيانات لكل لاعب على حِدَة، منها الأطراف والذراعان والساقان وحتى موقع الركبة، وهي تُحدِّد بدقة مكان كل لاعب في أي لحظة من لحظات المباراة، ومع وجود مستشعر قياس بالقصور الذاتي داخل الكرة، يتمكن حكّام المباراة من تحديد أدق حالات التسلل بشكل شبه آلي.

كان هذا تحديدا هو السبب في إلغاء احتساب العديد من الأهداف في كأس العالم هذا العام، الصدمة الأولى كانت في مباراة المملكة العربية السعودية والأرجنتين حيث ألغى الحكم ثلاثة أهداف متتالية للأرجنتين بسبب تقنية التسلل شبه الآلي الجديدة، هل يمكن أن يكون ذلك قد ساهم -إلى حدٍّ ما- في هزيمة الأرجنتين في تلك المباراة؛ بسبب تكرار الشعور باليأس بعد تسجيل كل هدف ثم إلغائه؟

حدث من قبل في الشطرنج

ثم ماذا عن الجمهور؟ مع التقنيات الدقيقة تلك، فإن جمهور الأرجنتين أو المغرب أو تونس أو البرازيل أصبح مطالبا بتقسيم فرحته بالهدف إلى جزأين، الأول بعد إحراز الهدف، تلك الدفقات الكثيفة من الهرمونات والنواقل العصبية التي تنفجر فجأة في دماغك بعد ملامسة الكرة للشباك، والثاني حينما نتأمل الحكَم ونرى إن كان سيقول بصحة الهدف أم لا، ربما بعد الاحتكام لفريق الفيديو، وقد تمر دقيقة كاملة أو أكثر قبل أن نعرف القرار ونطلق العنان لمشاعرنا بحق.

هذا مقلق حقا، السؤال عن المدى الذي تؤثر به التقنيات الحديثة في رياضة ما على الجمهور هو أمر مهم، وقد حدث هذا من قبل، لنتأمل مثلا لعبة الشطرنج، ولنبدأ من "ديب بلو"(3) المحرك الحاسوبي الذي كان في عام 1997 خصما مساويا تقريبا لجاري كاسباروف أسطورة الشطرنج آنذاك، الآن لم يعد الأمر تنافسا، فالحاسوب بات يتمكن "بسهولة" من هزيمة أي لاعب مهما بلغت قدرته.

(رويترز)

نتيجة لذلك، لم يعد أفضل لاعبي الشطرنج في العالم يكلفون أنفسهم عناء المنافسة مع الحاسوب، لكنهم أصبحوا أصدقاء معه وتصالحوا مع وجوده، يمكن لمحركات الشطرنج عمل حسابات دقيقة جدا، وتخزين كل مباريات الشطرنج التي لُعبت في التاريخ وتحليلها. يستخدم اللاعبون المحترفون تلك المحركات لتطوير قدراتهم، فيبتكرون وضعا ما على الرقعة ثم يطلبون من المحرك المُضي قُدما من تلك النقطة وحساب عشرات النقلات المستقبلية.

لكن ذلك في المقابل تسبَّب في نوع من الملل لدى جمهور اللعبة، خاصة مواليد الثمانينيات والتسعينيات ممن تعودوا على الشطرنج بنسخة كاسباروف وتوبالوف وأحبوا ميخائيل تال، هؤلاء اللاعبون صنعوا نقلات تاريخية لا تزال إلى اليوم تُمثِّل كل ما يحبه الجمهور في هذه اللعبة، تشبه بالضبط الآثار العظيمة في المتاحف الكبرى، لكن لو تأملنا الأمر من وجهة نظر تقنية وحسابية بحتة، فإن الكثير من تلك النقلات كانت بسبب خطأ طفيف لمحه أحد الطرفين واستثمر فيه على مدار نقلات مستقبلية.

على سبيل المثال، كان هناك افتتاحيات (الحركات في أول المباراة) في الشطرنج من المعروف أنها ليست قوية أو تنطوي على ثغرات، لكن الذكاء الاصطناعي أثبت العكس بعمق حساباته، وهناك افتتاحيات أخرى مستخدمة بكثافة أثبتت المحركات ضعفها. الآن أصبحت الافتتاحيات أكثر وضوحا، لكن ذلك قلَّل من نسب مجازفة اللاعبين بالخوض في افتتاحيات كانت قديما غير محسوبة بالكامل، بالتالي ارتفعت معدّلات التعادلات عما سبق، وأصبحت اللعبة أقل متعة، لأن تلك الأخطاء التي صنعت تماثيل الشطرنج الكبرى لم تعد متاحة.

إلى جانب ذلك، فإن المحركات رفعت من مستوى التحليل والتحضير للمباريات، ما تسبَّب في عمق شديد بالحركات لم يعد فهمه ممكنا على جمهور الهواة، بالتالي شعر فريق كبير منهم بأن لعبة الشطرنج أصبحت أكثر برودا وتخصصا وأقل متعة. في الحقيقة، كانت اللعبة تتقدم في مستواها، لكنها كلما تقدمت، ابتعدت عن مستوى جمهورها.

جيد أم سيئ؟

(غيتي إيميجز)

يدفعنا ذلك إلى النظر في تأثير التقنية عموما على لعبة مثل كرة القدم، وهل ستجعلها بمرور الوقت أقل متعة. خطأ مارادونا الذي تحدثنا عنه قبل قليل كان ببساطة "خطأ"، وتحوُّلا غير عادل تسبَّب في تغيير خط سير المباراة، لا يتمنى أحد أن يحدث ذلك ضده، الأمر إذن يعني أن تدخُّل التقنية له جانب إيجابي تماما، التسلل الآن أصبح دقيقا للغاية، لدرجة أن طرف إصبع أحد اللاعبين يمكن أن يكون السبب في إلغاء هدف. لكن على الجانب الآخر، فإن تطبيق مثل تلك التقنيات على كل شيء في اللعبة مستقبلا، وهو أمر سيحدث لا شك، قد يقود اللعب ليصبح باردا كفاية بالنسبة للجمهور، لأن تلك الأخطاء الطفيفة التي صنعت أجمل الأهداف سوف يتم تجنبها.

يدفعنا ذلك إلى تساؤل آخر هو: هل التكنولوجيا هنا مفيدة، أم ضارة، أم أنها كما نقول عادة مثل السكين، يمكن أن تستخدمه لقتل جارك أو لتقطيع السلطة؟ في كتابه "خدعة التكنولوجيا"، يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جاك إلول إن هذا السؤال خاطئ من أساسه، بمعنى أن الخطاب التقني العالمي يصدر لنا التكنولوجيا مثل السكّين، للجيد أو السيئ، الأمر في النهاية يعود لك، بذلك تكون التكنولوجيا في حد ذاتها عنصرا محايدا له علاقة فقط بطريقة استخدامك له.

بحسب إلول، فإن هذه الازدواجية بين "الجيد" و"السيّئ" الذي يمكن أن تُستخدم فيه التكنولوجيا موجودة فقط في قصص ديزني لاند، إذا اطلعنا على تاريخ تطور التقنية في العالم لوجدنا أن هناك دائما منطقة غموض واسعة للغاية توجد بين هذين النطاقين (الجيد والسيئ)، في تلك المنطقة من الغموض توجد دائما حالة من عدم التأكد لا يمكن لنا خلالها حسم مستقبل هذه التقنية أيًّا كانت في حياتنا، ومهما بدت مفيدة للوهلة الأولى.

كرة القدم إذن تتطور للأفضل، لا شك في ذلك، لكن هذا الأفضل لا يكون بالضرورة جيدا على كل المستويات، هناك دائما أعراض جانبية قادرة على تغيير شكل اللعبة كليا، يمكن للأجيال الجديدة، التي رأت الكرة مع حساسات أديداس وتقنيات التسلل ونمط احتساب الوقت الإضافي الجديد، أن تتكيف مع الأمر بدرجة أفضل، كونها أكثر مرونة من أجيال أكبر، هؤلاء الذين سيصرخون بعد كل هدف تقريبا: ما هذا بحق الجحيم، لِمَ لا تترك التكنولوجيا كرة القدم وشأنها؟

______________________________________________

مصادر:

المصدر : الجزيرة