شعار قسم ميدان

"العملاق باندورا".. لماذا يريد العلماء إعادة الفيروسات المنقرضة إلى الحياة؟

في الآونة الأخيرة، ازدادت تحذيرات العلماء من ذوبان جليد القطب الشمالي وما قد يترتب عليه من إحياء "فيروسات الزومبي" التي انقرضت منذ أزمنة بعيدة. ما عظَّم المخاوف كان قيام مجموعة من العلماء الفرنسيين بإحياء واحدة من أقدم سلالات الفيروسات المتجمدة، ليكتشفوا أنه رغم مرور 48 ألف عام على انقراضها، فإنها لا تزال مُعدية حتى الآن.

ذوبان جليد التربة الصقيعية

قبل أن نلقي نظرة فاحصة على ما نقصده بـ"فيروسات الزومبي"، تعالوا نعرف أولا ماهية التربة الصقيعية التي يشير إليها الباحثون كلما تحدثوا عن القطب الشمالي، وهي طبقة متجمدة من التربة تحت الأرض، تغطي 15% من نصف الكرة الأرضية الشمالي، وتشبه كبسولة زمنية تحمل في قلبها إلى جانب الحيوانات المنقرضة المحنطة وبذور النباتات الكثير من المواد العضوية العتيقة، بعضها ظل مدفونا في عمق الجليد لما قد يصل إلى مليون سنة فائتة.

مع تقلُّص مساحة الغطاء الجليدي، يخشى العلماء أن يتسبب ذلك في إطلاق سراح المواد العضوية المدفونة في عمق التربة الصقيعية، بما في ذلك السموم والأمراض. (غيتي)

المشكلة أن ما نشهده اليوم من ارتفاع درجة حرارة الكوكب الذي تسببت به التغيرات المناخية قد يكون له تأثيرات أوسع تدميرا مما نظن، على رأسها ذوبان جليد التربة المتجمدة للقطب الشمالي، والحقيقة أن تلك التربة تقلصت مساحتها بالفعل منذ عام 1980 إلى نحو 40% من مساحتها الأصلية. ومع تقلُّص مساحة الغطاء الجليدي، يخشى العلماء أن يتسبب ذلك في إطلاق سراح المواد العضوية المدفونة في عمق التربة الصقيعية، بما في ذلك السموم والأمراض التي اندثرت منذ أزمنة سحيقة.

تخيل معنا أن كل المواد المشعة الناجمة عن تجارب الخمسينيات النووية سيطلق سراحها، ومعها كل نفايات المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية، وإلى جانبها كل المواد العضوية المدفونة التي ستتحلل ما إن تستنشق الهواء وتتحول إلى غازات مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، الأمر الذي سيزيد حالة الاحتباس الحراري سوءا. سيناريو سوداوي، لكنه ما يتوقعه العلماء بالفعل وفق ما أشارت إليه ورقة بحثية نُشرت عام 2021 بمجلة "نيتشر" العلمية، وتناولت الآثار السلبية للتغيرات المناخية، وفيها قام الباحثون بفهرسة المخاطر المحتملة لذوبان جليد التربة الصقيعية.

"فيروس باندورا".. وشجرة الحياة البديلة للفيروسات

وفقا للعلماء كانت "فيروسات باندورا" موجودة على مرأى منا طوال القرون الفائتة دون أن نعرف، وهي تتفرد عن الفيروسات المعتادة بحجمها الهائل وعدد جيناتها الكبير. (شترستوك)

في ضوء ذلك، كانت تربة القطب الشمالي الصقيعية هي البيئة المناسبة لأبحاث جون كلافري، من المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) في جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا التي بدأت عام 2003، عندما اكتشف نوعا جديدا من الفيروسات "العملاقة"، أكبر من الأنواع المألوفة لدينا، لدرجة يمكن فحصها تحت المجهر الضوئي العادي بدلا من المجهر الإلكتروني، سمّيت "فيروسات باندورا".

كان هذا الاكتشاف يُنذر بوجود شجرة حياة بديلة للفيروسات غير التي نعرفها، ووفقا للعلماء كانت "فيروسات باندورا" موجودة على مرأى منا طوال القرون الفائتة دون أن نعرف، وهي تتفرد عن الفيروسات المعتادة بحجمها الهائل وعدد جيناتها الكبير الذي يصل إلى 2500 جين مقارنة بـ 13 جينا فقط في حالة فيروس مثل الإنفلونزا، الأمر الذي أربك العلماء، خاصة أنهم لم يتعرفوا إلا على 7% من جينات باندورا، أما الـ93% الباقية فلم تكن معروفة لديهم حينذاك.

استمرت جهود كلافري في البحث عن الفيروسات المنقرضة، لكن تجربة عام 2014 كانت الأولى التي يُعيد فيها فيروسا منقرضا للحياة، وذلك بعد عزله عن التربة الصقيعية وجعله قادرا على إصابة كائن مجهري وحيد الخلية يسمى "أكانثاميبا" (Acanthamoeba)، وقد صرح البروفيسور جون كلافري لوكالة "بي بي سي" الإخبارية حينها قائلا: "تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها فيروسا لا يزال مُعديا بعد هذه المدة الزمنية"، وذلك لأن الفيروس ظل كامنا لأكثر من 300 قرن من الزمان.

لا أحد بإمكانه أن يعرف على وجه اليقين ماهية الفيروسات الموجودة في التربة الصقيعية، وما إذا كانت تلك الفيروسات لديها القدرة على البقاء على قيد الحياة في الظروف الجديدة وإحداث العدوى للبشر أم لا، لكن كلافري يرجح أن ما حدث مع الفيروسات التي درسها قد يحدث مع الفيروسات الأخرى، ببساطة لأنه كما يبدو لا يوجد سبب يمنعها من نقل الأمراض.

"فيروسات الزومبي".. هل يجب أن نقلق؟

لفهم المخاطر التي يمكن أن تُشكِّلها "الفيروسات المنقرضة" علينا، كان على العلماء إعادة المزيد من الفيروسات الأقدم إلى الحياة لدراستها، وهو بالضبط ما فعله جون ميشيل كلافري في 18 فبراير/شباط 2023، عندما أعلن عن إحياء أقدم سلالة من الفيروسات المتجمدة يبلغ عمرها 48 ألف عام، وقد أطلق عليها "فيروسات الزومبي"، وهي الفيروسات التي رغم انقراضها لديها القدرة على أن تعود للحياة بتغيُّر الظروف مع الاحتفاظ بقدرتها على نقل العدوى.

تمكَّن جون كلافري، الذي يعمل أستاذا فخريا في الطب وعلم الجينوم، هو وفريقه البحثي من دراسة 13 فيروسا من السلالات العتيقة، وذلك بعدما عزلوها من سبع عينات مختلفة من التربة الصقيعية في سيبيريا، وتراوح عمر العينات ما بين 48 ألف عام و27 ألف عام، وهو عمر أصغر العينات التي عثروا عليها.

كانت تجربة كلافري وفريقه البحثي تهدف إلى إعادة إحياء عدة سلالات من فيروسات الزومبي، لبحث مدى قابليتها لإحداث العدوى، وقد وجدوا أن كل واحد من الفيروسات التي خضعت للاختبار ما زال قادرا على إحداث العدوى وإصابة الأميبا وحيدة الخلية. ويعد هذا تطورا مثيرا لأنه دق ناقوس الخطر حول ما يمكن أن يخرج من باطن التربة الصقيعية بعد انكشاف الأرض، بعد فترة طويلة اعتقد خلالها الباحثون أن هذه الفيروسات لا تشكل خطرا على الصحة العامة.

تخبرنا تجارب البروفيسور إذن أن علينا أن نقلق من عودة الفيروسات القديمة للحياة، وهو ما أكدته بيرجيتا أفنجارد، أستاذة قسم علم الأحياء الدقيقة بجامعة أوميا في السويد، في تصريحها لشبكة "سي إن إن" الإخبارية: "جهاز المناعة للبشر قد تطور عبر سنين من الاندماج مع المحيط الميكروبيولوجي، ووجود فيروس مدفون في عمق التربة الصقيعية لم نتعامل معه منذ آلاف السنين قد يعني أن جهازنا المناعي لن يكون كافيا لصده". تعتقد بيرجيتا أن علينا استباق الأحداث، حتى لا نصبح مجرد رد فعل لجائحة قادمة، وهذا لن يتحقق -بحسبها- إلا من خلال الدراسة والمعرفة.

رعب الأوبئة المستقبلية

بكتيريا قديمة مثل الجمرة الخبيثة قد تعود إلى الحياة مرة أخرى بعد تنشيطها، ولا يعرف العلماء المدة التي تبقاها هذه الكائنات الدقيقة مُعدية بعد تعرُّضها للظروف البيئية الجديدة.

المشكلة الأكبر أن الأمر لا يتوقف عند الفيروسات، فبكتيريا قديمة مثل الجمرة الخبيثة قد تعود إلى الحياة مرة أخرى بعد تنشيطها، ولا يعرف العلماء المدة التي تبقاها هذه الكائنات الدقيقة مُعدية بعد تعرُّضها للظروف البيئية الجديدة أو كيف ستتصرف عند مواجهة مضيف مناسب. في ضوء ذلك، فإن أفضل طريقة لتجنب هذه المخاطر في المستقبل هي المحافظة على مسببات الأمراض هذه مدفونة في عمق التربة الصقيعية إلى الأبد، وهو ما لن يتحقق إلا بمحاولة وقف ذوبان الجليد.

يشبه ذوبان الجليد في القطب الشمالي فتح علبة كبيرة من الديدان، ورغم أن القطب الشمالي لا يزال مكانا منخفض الكثافة السكانية، مما يجعل خطر إصابة الإنسان بالفيروسات القديمة وانتشارها أمرا مستبعدا، فإن التاريخ شاهد على حالات انتشار فيروسي سابقة أتت نتيجة لذوبان الجليد.

عام 2016، في منطقة نائية من سيبيريا تسمى شبه جزيرة يامال، هلك 2000 رأس من حيوان الرنة، وهو حيوان من عائلة الغزال يعيش في المناطق القطبية المتجمدة. في البدء ظن الأهالي أن ما أهلك الرنة ضربة شمس من موجة الحر الأخيرة، لكن النتيجة التي توصل إليها الأطباء كانت غير متوقعة؛ الرنة كانت مصابة بالجمرة الخبيثة.

عام 2016،، هلك 2000 رأس من حيوان الرنة، في جزيرة يامال، حيث كانت مصابة بالجمرة الخبيثة، نتيجة ذوبان قطعة من التربة الصقيعية أطلقت تلك الجراثيم المميتة. (شترستوك)

تفشى المرض بالجزيرة، وكانت النتيجة حالة وفاة وعشرين مصابا. لكن المفاجأة الأكبر كانت اكتشافهم أن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى ذوبان قطعة من التربة الصقيعية أطلقت تلك الجراثيم المميتة في الهواء. هذا ما يمكن أن يفعله الاحتباس الحراري بنا، وتُعَدُّ بيئة التربة الصقيعية تحديدا مناسبة لحفظ "الفيروسات الزومبي" كامنة في انتظار الوقت المناسب للانطلاق، ليس فقط لأنها باردة، ولكن لأنها خالية من الأكسجين ولا ترى الضوء.

يتكهن بعض العلماء بأن أمراض عتيقة قضت عليها البشرية، مثل الإنفلونزا الإسبانية والجدري والطاعون، قد تكون مجمدة هي الأخرى مثل جمرة حيوان الرنة الخبيثة في التربة الصقيعية. وبالوضع في الاعتبار أن خُمس مساحة نصف الكرة الشمالي مغطاة بالجليد، فإن ظهور أمراض تعود لأزمان غابرة بعدما عاشت في حالة سبات يُعَدُّ احتمالية قائمة.

في أكتوبر/تشرين الأول 2022، نشر فريق من العلماء بحثا عن نتائج عينات رواسب التربة المأخوذة من بحيرة هازن، أكبر بحيرة للمياه العذبة في كندا، وهي موجودة في الدائرة القطبية الشمالية، وبدراسة تسلسل المادة الوراثية في الرواسب، قاس العلماء مخاطر الانتشار الفيروسي. أظهرت نتائج البحث الذي نُشر في مجلة "The Royal Society" العلمية أن مخاطر الانتشار الفيروسي تتزايد في المواقع القريبة من المياه الجليدية الذائبة، مما يعني أن ذوبان الأنهار الجليدية الناجم عن ارتفاع درجات الحرارة سيزيد من احتمالية الانتشار الفيروسي بالمستقبل، مما قد يجعل القطب الشمالي بيئة خصبة للأوبئة القادمة.

متى سيحدث ذلك، أو هل سيحدث حقا؟ لا نعرف بعد إجابة هذه الأسئلة على وجه الدقة، لكن مجرد وجود احتمالية حدوثه يمنح العلماء في المعامل والسياسيين في أروقة المباني الحكومية الكثير من الكوابيس المرعبة، حتى في أكثر الليالي صفاء!

المصدر : الجزيرة