شعار قسم ميدان

فيلم "كل شيء كل مكان في الوقت ذاته".. هل يمكن أن توجد عوالم أخرى مثل عالمنا؟

حسنا، سبع جوائز أوسكار من 11 ترشيحا حصل عليها الفيلم الأميركي "كل شيء كل مكان في نفس الوقت" (Everything Everywhere All at Once) من بطولة ميشيل يوه، وإخراج دانيال كوان ودانيال شينرت، في مفاجأة سينمائية جديدة. يدور الفيلم في أجواء غاية في الغرابة، حيث تنسحب مهاجرة صينية في منتصف العمر إلى مغامرة مجنونة تستطيع فيها وحدها إنقاذ الوجود من خلال استكشاف أكوان أخرى والتواصل مع أشكال الحياة التي كان من الممكن أن تعيشها. أثار الفيلم الكثير من الجدل، لأسباب عدة حيث رأى البعض أنه لا يستحق، وقال البعض الآخر أنه قام بإقحام عدد من القضايا مثل المثلية الجنسية لنيل رضا الأوسكار، لكننا سنركز بشكل أكبر في هذا المقال على فرضية العوالم المتعددة التي طرحها الفيلم.

هل ذلك ممكن حقا؟ هل هي إحدى الشطحات الفلسفية الغريبة للغاية، أم أن الفيزياء تمتلك نماذج مقبولة يمكن لها أن تتوقع وجود عوالم متعددة بهذا الشكل بالفعل؟ هل يمكن أن يوجد عالم آخر تكون فيه أكثر نجاحا؟ عالم يشبه هذا العالم، مع الأشخاص أنفسهم، لكنك الآن فيه لست طالبا في جامعة متوسطة، بل لاعب كرة شهير في الدوري الإنجليزي؟ هل يمكن أن يوجد العالم نفسه لكنك لست موجودا به؟

قطة واحدة.. واحتمالان

إجابة هذه الأسئلة، على عكس توقعات الكثيرين، هي: "نعم، هذا محتمل"، يكتسب تفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكم الكثير من الزخم في الوسط العلمي. لكن لفهم ما يعنيه هذا التفسير، ولِمَ أصبح بالأساس ممكنا، دعنا نبدأ من أشهر تجربة فكرية في ميكانيكا الكم، إنها "قطة شرودنغر"(1).

حسنا، سنضع قطة في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة يُحتمل بمقدار 50% أن تتحلل ذرة منها خلال مدة محددة، إذا تحلّلت تلك الذرة فسوف تتسبّب في عمل عداد غايغر الذي يقيس الإشعاع، هنا سوف يُفلت العداد المطرقة لتسقط على زجاجة السم فينتشر في المكان وتموت القطة. الآن نقف أنا وأنت أمام ذلك الصندوق قبل أن نفتحه لنسأل: هل القطة حية أم ميتة؟

في تلك النقطة يتدخل تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم للإجابة بـ: "كلتا الحالتين معا، حية وميتة"؛ لأن هذه الذرة تكون في حالة تراكب كمّي، أي متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، أما حينما نفتح الصندوق فلن نجد أي مفاجآت، تكون القطة إما حية وإما ميتة، هذا هو ما يحدث حينما نحاول إدخال عملية قياس أو رصد لعالم الكوانتم، وذلك لأن الجسيم يفقد وضعه الكمومي لوضع ذاتي تُمثِّله حالة واحدة محددة.

يقول تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم إن الجسيمات دون الذرية توجد بكل حالاتها الممكنة معا إذا كانت الصناديق مغلقة، في حالة التراكب الكمي(2) (Quantum Superposition)، وهذا -حسب التفسير- هو التفسير الوحيد لدخول الإلكترون من شقَّيْ التجربة في الوقت نفسه بتجربة تسمى "تجربة الشق المزدوج، وهي الصورة التجريبية الحقيقية لتجربة قطة شرودنغر الفكرية، بل ويقول ريتشارد فاينمان إن هذه التجربة هي الأحجية المركزية في عالم الكوانتم كله!

الآن دعنا نرجع من جديد إلى صندوق شرودنغر، نقف أنا وأنت أمام الصندوق، وبالداخل قطة يمكن أن نصف حالتها عبر ما نسميه بـ"الدالة الموجية"، التي هي معادلة رياضية تقول إن حالات القطة داخل الصندوق تساوي "نصف الحالات ميّتة" زائد "نصف الحالات حيّة"، أما حينما نفتح الصندوق فإن احتمالا واحدا منهما هو فقط ما يتحقق، هنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال آخر مهم: أين ذهب الاحتمال الآخر؟

الإجابة المختصرة هي: لا أحد يعرف. لا يمكن، إلى الآن أن نضع تفسيرا مؤكدا لما يحدث في لحظة فتح الصندوق وانتقال القطة من حالة التراكب الكمومي (الحالة التي توجد فيها كل الاحتمالات معا) إلى الحالة الكلاسيكية (الحالة التي نراها في عالمنا، حالة تكون فيها القطّة إما حيّة وإما ميّتة)، هذا الانتقال بين عالمين يُسمى بـ "مشكلة القياس"(3) (Measurement Problem).

ماذا لو كنت أنت القطة؟

لكن لو فكرت قليلا لوجدت أننا أيضا جزء من تلك المشكلة، فأجسامنا تتكوّن من ذرّات تخضع بدورها لقواعد ميكانيكا الكم، بينما نحن لا نشعر بذلك، لنفترض مثلا أن هناك صندوقين في هذه التجربة، صندوق شرودنغر وبه القطة، وصندوق كبير، بحجم حافلة على سبيل المثال، نقف نحن داخله أمام صندوق القطة، الصندوق الجديد هو الآخر مغلق تماما، وخارجه يقف مجموعة من علماء الكوانتم في انتظارنا، حينما نفتح صندوق القطة، أنا وأنت، سنرى القطة إما حية وإما ميتة، لكن ماذا عن تلك المجموعة من العلماء التي تقف خارج الصندوق الكبير؟

بالنسبة لهم فإننا نوجد أيضا في حالة تراكب كمومي بها كل الاحتمالات معا، احتمال نكون فيه أنا وأنت معا ونرى القطة حيّة، وآخر نكون فيه أنا وأنت معا ونرى القطة ميّتة، في تلك الحالة نتشابك كموميا مع القطة، بمعنى أننا نتأثر بحالتها وتتأثر بحالتنا، لفهم ذلك دعنا نتساءل عن علاقة القطة بالعنصر المشع في الصندوق، لِمَ ترتبط القطة بهذا العنصر ما يجعلها حيّة وميتة معا بسببه؟

لأنها ستموت أو تحيا بسبب احتمالات هذا العنصر، بالتالي فهي ترتبط به رغما عنها، وإذا كان العنصر المشع يخضع لقواعد عالم الكم فإن القطة ستفعل، لكن ماذا عن البيئة المحيطة بالقطّة في الصندوق؟ الهواء والضوء على سبيل المثال، كل ذلك سوف يوجد في حالة تراكب كمومي مع القطة أيضا لأنه يتأثر بها وتتأثر به، وبالتالي كونها في حالة تراكب كمومي يجعل البيئة المحيطة أيضا في حالة تراكب كمومي، لكن ما الذي يمنع إذن أن نكون أنا وأنت في حالة تراكب كمومي مع القطة أيضا؟ نحن أيضا سنتأثر بحالة تكون القطة فيها ميّتة بشكل مختلف عن كونها حيّة.

يطرح ذلك بدوره تساؤلا أكبر، ماذا لو كان هناك صندوق أكبر يحوي العلماء الذين ينتظرون خارج صندوقنا؟ ماذا لو كان هناك صندوق أكبر من هذا؟ في تلك الحالة ستظل أفكارنا تتصاعد لتقول في آخر سؤال: ماذا لو كان الكون كله هو صندوق شرودنغر ونحن جميعا مكان القطة؟ هنا سيكون كل شيء في الكون متراكبا كموميا.

بمعنى أوضح، أنت ترى القطة حية أو تراها ميّتة، ثم تخرج للناس، فيرونك في إحدى الحالتين (مع القطة الحية أو الميّتة)، ثم تخرجون جميعا على التلفاز، فيراك كل البشر مع القطة الحية أو الميّتة، في كل مرة يحدث التراكب الكمومي على مستوى أكبر، فنصبح في النهاية أمام كونين، في أحدهما ماتت القطة، وتفاعل كل شيء في الكون مع تلك المعلومة، وفي كون آخر كانت القطّة حيّة، وتفاعل كل شيء في الكون مع تلك المعلومة.

عوالم متعددة

إن فرضية العوالم المتعددة ليست مجرد خيال رياضي، ولكنها فقط محاولة رصينة لها الكثير من الدعم الرياضي والفيزيائي تُطبِّق أساسات نظرية الكوانتم. (مواقع التواصل)

يطرح هيو إيفريت (4) (Hugh Everett)، من جامعة برينستون، في الخمسينيات من القرن الفائت، تفسيرا آخر لميكانيكا الكم عبر رسالة الدكتوراه الخاصة به، إنه ما نعرفه الآن باسم "تفسير العوالم المتعددة"(5) (Many Worlds Interpretation) لميكانيكا الكم، الذي يقول إن فتح الصندوق لا يعني أي شيء، ذلك لأن الكون كله هو صندوق ضخم يتفرّع مع كل عملية كمومية إلى كونين مختلفين في كلٍّ منهما يتحقّق جزء من الاحتمالات، وبذلك تختفي مشكلة القياس.

حسب تفسير إيفريت، فإن القطة بالفعل إما حيّة "أو" ميّتة، لكنها تصبح كذلك في كونين منفصلين، بأحدهما تكون حيّة ويستكمل هذا الكون مستقبله بوجودها، وفي الآخر تكون ميّتة ويستمر هذا الكون الآخر من دونها.

لا يبتكر إيفريت فيزياء جديدة، هو فقط يؤمن بالميكانيكا الكمومية أكثر من مؤسسيها، حيث يقول إنه لا يوجد عالم كمومي وعالم كلاسيكي وفاصل بينهما تظهر فيه مشكلة القياس، ولكن يوجد فقط عالم كمومي، وما يظهر أنه كلاسيكي هو الاحتمال الذي نراه في هذا العالم، بينما الكون كله بالفعل هو صندوق شرودنغر كبير جدا توجد فيه كل الاحتمالات الممكنة معا، وفي كون آخر فإن أشياء أخرى تحدث بسبب الاحتمالات الأخرى الممكنة، هذه الأكوان الأخرى لا توجد بشكل مادي في فضاء ثلاثي البُعد، لكنها ربما توجد في فضاءات أعلى يسمح بها ما يُسمى بفضاء هيلبرت.

بالتالي فإن فرضية العوالم المتعددة ليست مجرد خيال رياضي جاء في دماغ مؤلفه في مرحلة قبل النوم في إحدى الليالي الشتوية الباردة، ولكنها فقط محاولة رصينة لها الكثير من الدعم الرياضي والفيزيائي تُطبِّق أساسات نظرية الكوانتم، النظرية الأكثر دقة في تاريخنا إلى الآن، وتمد الخطوط على استقامتها لرؤية ما يمكن أن يظهر من نتائج، بل وتتمكّن من حل إحدى مشكلات الفرضيات السابقة لها.

هل يمكن أن يكون هناك عالم تتحقق فيه أمنيات نفتقدها الآن؟ هل يمكن أن يكون هناك عالم كعالمك لكنه من دونك؟! هذا ممكن على فانتازيته، بالطبع يواجه هذا التفسير لميكانيكا الكم الكثير من التحديات العلمية(6)، وهناك أسئلة كثيرة غير مجابة بعد، وربما يكون خاطئا بالطبع، وللتأكد من صحة تلك الفرضية يحتاج الأمر إلى الكثير من الوقت والأدوات التي لا تمتلكها البشرية الآن، وقد لا يحدث ذلك على الإطلاق، إنه فقط احتمال مدعم بفيزياء تخدمه وليس مجرد خيال ضال، لكنه يظل احتمالا يدعو للتأمل، للكثير من التأمل في الحقيقة.

___________________________________________

المصادر

  1. Schrödinger’s Cat
  2. SUPERPOSITION, INTERFERENCE AND DECOHERENCE
  3. The Measurement Problem
  4. Many Worlds Interpretation\
  5. The Many Worlds Theory – Sean Carroll
  6. Why the Many-Worlds Interpretation Has Many Problems
المصدر : الجزيرة