شعار قسم ميدان

مسلسل "Behind Her Eyes".. هل يمكن لروحك أن تسافر بعيدا عن جسمك؟

حصلت النتائج العشر الأولى الخاصة بالبحث عن مصطلح "الإسقاط النجمي" على منصة يوتيوب على أكثر من ثمانية ملايين مشاهدة خلال عامين ونصف فقط تقريبا. يحاول معظمها أن يُعلِّمك كيف تقوم بهذه الرحلة الغريبة بينما أنت مُستلقٍ في حجرتك، بجسمك الفيزيائي، فتدور هيئتك النجمية في أي مكان تريده، عادة ما ترتفع للأعلى فوق جسمك، ثم فوق المنزل، ثم المدينة، ثم الكوكب كله!

 

من حين لآخر، يشتعل الحديث عن الإسقاط النجمي في منصات التواصل الاجتماعي العربية، قبل عدة أشهر على سبيل المثال، تسبّب فيديو لأحد المؤثرين على تيك توك في خلق جدل واسع النطاق له علاقة بالإسقاط النجمي. أما مسلسل "Behind Her Eyes" الصادر عبر منصة "نتفليكس" في فبراير/شباط 2021، فقد تسبَّب في موجة جديدة من الجدل حول الإسقاط النجمي، الذي يُعَدُّ واحدا من الموضوعات التي يمكن أن تقتنع بصدقها لسبب واحد فقط، وهي أنه يحدث بالفعل، وهو ليس حلما، بل هو حالة قريبة لليقظة!

صورة ميدان

 

عنوان ميدان

قد تتعجّب من ذلك، لكن بعض الاستقصاءات أشارت إلى أن هناك نسبة قدرها(1) نحو 10-14% من عامة الناس تختبر ما يسمى بـ "تجربة الخروج من الجسم" (Out-of-body experience) (تختصر "OBE")، يعني ذلك أنه من بين كل 20 شخصا هناك شخصان إلى ثلاثة يختبرون حالة يبدون خلالها وكأنهم يتأملون أجسامهم من منظور خارجي.

 

عادة ما يكون هؤلاء أصحاب ميل ناحية الاستغراق، وهو نزعة أو سمة شخصية ينغمس فيها الإنسان في صُوره العقلية، وخاصة الخيالية، كذلك هناك ارتباط بين هذه الحالة وخبرات شبيهة مثل شلل النوم، أو ما يسمى أيضا "بالجاثوم"، أو الأحلام الصافية، حيث يحلم الشخص لكنه يدرك أنه يحلم، أو أحلام الطيران (تجربة الخروج ليست مرضا يتطلّب علاجا، بل تجربة يمكن أن نُطلق عليها لفظ "طبيعية"، لذلك لا تقلق إن كنت تختبرها من حين لآخر).

 

من جانب آخر، فإن تجربة الخروج من الجسد هي أمر من الممكن صنعه في حالات خاصة(2)، مثلا مع تعاطي بعض المواد المخدرة مثل حامض الليسرجيك (LSD)، أو بعض التجارب التي تحرم الخاضع لها من المثيرات الحسية، أو في حالة تعرض الخاضع للتجارب إلى مثيرات حسية بشدة أكبر من الطبيعي، أو عند إثارة مناطق محددة في الدماغ كهربيا، أو في حالة الطيارين ورواد الفضاء حينما يتعرضون لتسارع كبير في أثناء تمارينهم، كذلك تظهر تلك الحالة في تمارين اليوغا والتأمل والحالات الروحانية عموما.

 

ألا يبدو ذلك غريبا بعض الشيء؟ بمعنى أنك ربما كنت تظن أن قدرات خارقة مثل هذه لا بد أن يمتلكها، أو يُختص بها، فئة قليلة جدا جدا من الناس، وهذا لسببين رئيسيين، الأول أنها بالفعل خارقة، والثاني أنه لو كان كل هذا العدد من البشر يتمكّن من الخروج من جسمه، لمَ إذن لا يظهر ذلك لنا بوضوح؟ يمكن أن نستخدم هؤلاء في كل شيء تقريبا، في الشرطة مثلا والاستخبارات، يمكن كذلك أن يعرفوا ما هو مكتوب في ورق الامتحانات قبل حضورهم لها.

الاسقاط النجمي

 

عنوان ميدان

هناك فارق بين أن تكون في حالة يبدو لك خلالها أنك خرجت من جسدك، وحقيقة أن تكون قد خرجت من جسدك بالفعل، في كتابها "ما وراء الجسد: تقصّي تجارب الخروج من الجسد" (Beyond The Body: An Investigation of Out-of-the-Body Experiences) تحكي سوزان بلاكمور، الكاتبة واسعة الشهرة والباحثة في نطاق "ما وراء الطبيعة"، أن ما دفعها لعالم ما وراء الطبيعة، كمؤمنة في البداية بينما كانت شابة، هو تجربة مماثلة خرجت خلالها من جسمها.

 

في تجربتها، ارتفعت بلاكمور فوق جسدها، ثم فوق المبنى الذي كانت موجودة فيه، ثم أعلى جامعة أوكسفورد كلها، ثم أعلى الكوكب والكون كله. لكن الملاحظة الأولى لبلاكمور أنها، في اليوم التالي لتلك الحادثة، ذهبت إلى المكان نفسه وحاولت أن تفحص سقف المبنى وبعض المباني المجاورة، لتجد أن هذا ليس ما رأته، هناك اختلافات هندسية بين الواقع وما تصورت أنه الواقع في تجربتها، هيَّأت بلاكمور لنفسها آنذاك أنها ربما نسيت شيئا ما.

كتاب كتابها "ما وراء الجسد: تقصّي تجارب الخروج من الجسد"
كتاب "ما وراء الجسد: تقصّي تجارب الخروج من الجسد"

في الحقيقة هناك تجارب عديدة حاولت فحص صحة هذا الادعاء القائل إن أحدهم يمكن أن يخرج فعليا من جسده ويسافر لأماكن أخرى، مثلا سنة 1978 أُجري اختبار(3) لأحد هؤلاء الذين ادّعوا القدرة على السفر إلى كوكب المشتري، قام الرجل بتقديم تفاصيل عن الكوكب لا يعرفها العلماء، وبعد أن حصلت مركبتا مارينر 10 وبيونير 10 على معلومات عن الكوكب، جاءت نتائج فحص ادعاءات الرجل لتقول إن احتمالات صدق إجاباته ليست أكبر من المصادفة الطبيعية.

 

سوزان بلاكمور، على مدى سبع سنوات متتالية، أجرت أيضا تجارب شبيهة(4) مع مجموعة من مدّعي القدرات من هذا النوع، إذا كان هناك شخص يقول إنه يتمكّن من ترك جسده فعليا والسفر إلى أماكن أخرى فإنها كانت تخفي شيئا ما في ثلاجاتها أو خزانة مطبخها وتطلب منه الكشف عن هذا الشيء، وفي كل مرة كانت النتيجة سلبية.

 

عنوان ميدان

ما سبق يتركنا مع سؤال أخير غاية في الأهمية، وهو لمَ يختبر البعض هذه التجربة من الأساس، ولمَ تظهر بالشكل نفسه لدى الجميع؟ في تلك النقطة دعنا نسافر إلى نهايات التسعينيات من القرن الفائت، تحديدا في سويسرا، حينما كان طبيب الأعصاب "أولاف بلانكييه" يعمل على حالة صرع حرجة في أحد مستشفيات جامعة جنيف، حيث كانت إحدى مريضاته تعاني من تشنجات بلا توقف.

 

حاول بلانكييه(5) أن يُخفِّف أثر تلك التشنجات عن طريق إعطاء دفقات كهربية لطيفة لمناطق متفرقة من دماغها، لكنه حينما أثار منطقة تُدعى الموصّل الصدغي الجداري (TPJ) "Temporoparietal junction"، وتقع عند التقاء الفصين الصدغي والجداري من المخ، قالت المرأة إنها شعرت، ورأت، أن جسمها يتمدد وينكمش بغرابة، رفع بلانكييه قليلا من شدة تلك الدفقات فقالت المريضة إنها شعرت وكأنها على السقف في الحجرة، تنظر إلى نفسها بالأسفل.

نعرف الآن أن هذه المنطقة مسؤولة عن تمثيل أجسامنا داخل أدمغتنا، حينما تقف مع صديق لتتحدث في الشارع فإن دماغك يصنع تصورا، أو قل مخططا، لهيئة جسمك ثلاثي الأبعاد، بداية من رأسك وذراعيك ووصولا إلى قدميك، كي يعرف مواضعها جميعا وبالتالي ينظم عمليات الإدراك، في الواقع فإن الأشخاص الذين عانوا من بتر أحد أطرافهم في حادثة قاسية سيمتلكون صورة عن جسمهم بها هذه الأطراف، لكن الطرف المبتور يكون أصغر من المتبقي.

 

إذا حدث وأُثير الموصل الصدغي الجداري، لسبب ما قد يكون طبيعيا أو غير طبيعي، فإن هذا المخطط الجسدي (Body schema) يتشوه بالتبعية. في الواقع، فإنه يمكن لنا العبث قليلا بهذا المخطط دون حاجة إلى كهرباء أو أقطاب موجعة، إحدى أشهر التجارب في هذا النطاق هي ما نسميه "وهم نقل الجسم" (Body transfer illusion)، حيث يمكن للباحثين، عبر التلاعب بالمنظور البصري للشخص في أثناء توفير إشارات مرئية وحسية مرتبطة بجسمه، أن يدفعوه لتصور أن جسمه ليس في موضعه الطبيعي.

 

عنوان ميدان

في أشهر التجارب في هذا النطاق، التي نُشرت دراسة خاصة بها في دورية "ساينس" المرموقة(6) عام 2004، قام فريق من معهد علم الأعصاب بمدينة لندن البريطانية بحثِّ المشاركين على الشعور بـ "وهم اليد المطاطية". في التجارب، تُخفى اليد اليسرى للمريض خلف حائل خشبي على طاولة، بحيث لا يراها، بعد ذلك توضع أمام عينيه يد مطاطية شبيهة بيديه.

 

بعد ذلك، يقوم أحد منظمي التجربة بتحريك قلم أو عصا صغيرة على اليد المطاطية وفي الوقت نفسه يقوم بتحريك قلم أو عصا صغيرة أخرى على اليد الحقيقية المخفية. جاءت النتائج لتقول إنه، مع الوقت، بدأ الأشخاص يشعرون وكأن اليد المطاطية يدهم، بعد ذلك عندما طُلب منهم استخدام يدهم اليمنى للإشارة إلى يدهم اليسرى، فإنهم في معظم الأحيان كانوا يشيرون إلى اليد المطاطية!

 

يعني ذلك أن منطقة الموصل الصدغي الجداري قد أعادت تمثيل يدي هؤلاء في موضع آخر غير موضعها الحقيقي، أثار ذلك انتباه الباحثين في نطاق خبرات الخروج من الجسم، وقام بعضهم بعمل تجارب مثيرة للانتباه، في إحداها مثلا يجلس الشخص أمام إحدى الكاميرات لكن بظهره، بعد ذلك توضع على رأسه نظارة تعرض أمام عينيه ما تراه هذه الكاميرا (ظهره هو)، حينما يقوم الباحث بعد ذلك يلمس صدره عن طريق عصا، ثم في الوقت نفسه تحريك عصا أمام الكاميرا وكأنها تلمس صدر هذا الواقف أمامه، فإنه يشعر بالضبط بتجربة الخروج من الجسم، وكأن جسمه بالكامل قد تمثَّل أمامه على كرسي.

هذه الطفرة التي حدثت خلال عقدين مضيا، في نطاق فهم كيفية بناء مخطط الجسم، ما زالت تتصاعد يوما بعد يوم، لأن فهما أدق لمنطقة الموصل الصدغي الجداري يعني تطويرا أدق لصناعة الروبوتات، وكذلك طب الأجهزة التعويضية، وكانت تجارب أخيرة لبلانكييه ورفاقه(7) قد أشارت إلى أنه يمكن حثّ أجسام الذين ركّبوا أطرافا صناعية، عن طريق اللمس والرؤية، لكي يشعروا أنها تنتمي إلى أجسادهم. من جانب آخر فإن التساؤل عن هذه المنطقة أثار أيضا تساؤلا عما يعني "الوعي"(8)، كيف تعرف أنك أنت مَن يقرأ هذا الكلام الآن؟ كيف تشعر أنك أنت مَن يوجد بالداخل خلف هاتين العينين واليدين والقدمين؟

 

في هذا النطاق البحثي، ما زالت هناك بالطبع الكثير من الأسئلة، ومشاهدات تجريبية، بلا إجابة أو تفسير. لكن بالنسبة للإسقاط النجمي، فإنه إلى الآن لا توجد دلائل تُثبت أنه يمكن لأحدهم أن يسافر فعليا خارج جسمه، كل التجارب المنتشرة عن هذه الحالة ذاتية، أي إنها تجارب أصحابها التي يقنعون بها آخرين، لكن على الرغم من ذلك يحاول بعض أرباب التنمية البشرية وعلوم طاقة الجسم والعلاجات الروحانية في الوطن العربي أن يستخدموا تجارب تشير إلى وجود هذه التجربة لدى البشر.

 

في كل الأحوال، لإقناع صديق لك بأن ما يحدث له، أو لشخص آخر، ليس خروجا فعليا من الجسم، ضع شيئا محددا ومميزا في مكان خفي واطلب منه أو من هذا الشخص الآخر أن يعرف ما هو، هذه هي التجربة الوحيدة التي نمتلكها إلى الآن لتبيان حقيقة الأمر.

———————————————————————

المصادر

  1. Seeing Myself: What Out-of-body Experiences Tell Us About Life, Death and the Mind Kindle Edition by Susan Blackmore
  2. A Journey to Other Worlds
  3. الطفرات العلمية الزائفة – تشارلز وين وأرثر وينجز
  4. Seeing Myself: What Out-of-body Experiences Tell Us About Life, Death and the Mind Kindle Edition by Susan Blackmore
  5. Stimulating illusory own-body perceptions
  6. That’s My Hand! Activity in Premotor Cortex Reflects Feeling of Ownership of a Limb
  7. Multisensory bionic limb to achieve prosthesis embodiment and reduce distorted phantom limb perceptions
  8. الوعي: مقدمة قصيرة جدّا – سوزان بلاكمور
المصدر : الجزيرة