شعار قسم ميدان

لماذا علينا الرحيل عن كوكب الأرض؟

–  يجب علينا أن نتقبل حقيقة أن لا شيء في النظام الشمسي سوف يساعدنا.

–  إذا  أخبرني، ما هي خطتنا لإنقاذ الأرض؟!

–  نحن لا نهدف لإنقاذ الأرض، نحن نهدف للرحيل منها، تلك هي الخطة التي تدربت عليها.

بهذه الكلمات ينهي د. براند حواره الصادم مع كوبر في الفيلم الشهير "بين النجوم" (Interstellar)، من جهة أخرى يحاول ستيفن هوكينج(1) في كل حوار له مع الصحافة أن ينبهنا لتلك النقطة الهامة، يجب على البشر من أجل الحفاظ على جنسهم أن يهربوا من هنا، أن يستعمروا كوكبا آخر قبل مئتي سنة، دعنا لا نضع البيض كله في سلّة واحدة، بالكاد -بتعبير هوكينغ- أن نصبر مئة سنة أخرى.

ينظر البعض لتلك التصريحات على أنها نوع من الفرقعة الإعلامية ذات التصريحات النارية، لكن هل تقف تلك التصريحات على قاعدة حقيقية تستحق أن تدفعنا للتأمل فيها؟! للأسف نعم، في الحقيقة قد لا يكفي هذا المقال لكتابة كل الأسباب التي تجعل من تصريح هوكينغ ليس مجرد استعراض أو خبر يمكن أن نعتبره على درجة من الرفاهية العلمية، بل حقيقة مطلقة، يجب علينا أن نذهب من هنا في مرحلة قريبة، بل إننا سنذهب من هنا في أقرب فرصة تعطيها لنا تكنولوجيا كمومية جذبوية ما، هناك عدة أسباب ترتبط بنا كبشر -حروب نووية أو تغير مناخي- وأخرى ترتبط بطبيعة الكون ذاته.

لا أود أن أدفعك للتشاؤم لكن الأجواء هناك بالأعلى ليست بروعة الصور التي تبهرنا بها ناسا كل فترة، نحن بالفعل نعيش بداخل كارثة كونية، كان ذلك هو طابع الكون، ولا يزال.

جنس عاقل.. نتائج كارثية!

 بيكساباي
بيكساباي

يسهل على البعض القول إن استخدام الإنسان للتقنية(2) هو موضوع اختياري، بمعنى أنك قد تستخدم السكّين لتقطيع التفاح أو لقتل جارك الممل، أنت هنا حر، لكن ذلك يعد فهم ساذج لمسألة التقنية برمتها، لأنها تصنع من التقنية عنصر محايد لا دور له في حياتنا. هنا، يجب علينا، قبل الخوض في تأثيرها على البيئة، أن نعرف أن ارتباط التقنية فكرة "التقدم الدائم" هو وهم خلقناه كي نستمر في الابتكار، ذلك لأن الإنسان بعد ظهور السكين أصبح كائن مختلف تماما ليس من الممكن لنا فصل إمكانات السكين عن بعضها البعض في تصرفاته، لأنه ما إن أمسكها قد تغير منظوره للواقع تماما، لقد علمتنا التجارب الأليمة في هيروشيما وناجازاكي أن فصل فوائد التقنية عن أضرارها هو أمر مستحيل، وأن هناك ثمن وجب أن ندفعه مع كل تقنية نبتكرها.

يمتد تأثير استخدام الإنسان للتقنية ليصنع إشكالات حتمية في البيئة على كوكب الأرض، فمجرد وجود التكنولوجيا – حتى وإن كان ذلك في سبيل الفائدة – سوف يتسبب في إحداث خلل بالنظام الطبيعي الذي يديره الانتخاب الطبيعي ليؤدي لدرجة محددة من درجات التنوع، يظهر ذلك واضحا في القانون الأول للديناميكا الحرارية الذي يعلمنا أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم لكنها تتحول من صورة لأخرى، يعني ذلك أن استخدامنا للمادة والطاقة بطريقة ما سوف يؤدي حتما إلى تبدلات للمادة والطاقة في نطاقات أخرى من البيئة المحيطة، كما أنه حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية نتعلم أن الفوضى في الأنظمة تزداد باستمرار، لذلك يجب أن تدفع التيكنولوجيا في أثناء خلقها للإنتظام – المباني، الآلات، شبكات الطرق.. إلخ – ثمنا من الفوضى، هنا نفهم اقتباس إيليا بريجوجين القائل "الفوضى هي ثمن البنية".

يمتد تأثير الإنسان(3)على البيئة بداية من اليوم الذي بدأت فيه بمهارة الزراعة والري، للوهلة الأولى يبدو من الطبيعي أن نقوم بزراعة الأرض من دون التأثير على البيئة، لكن هناك إشكالات كبيرة لها علاقة بالإضرار بمكونات التربة من عناصر معينة ومكونات الماء نفسه، ينطلق ذلك التأثير مرورا بمشكلات الصيد التي أدت لصنع فجوة ضخمة بين كم ما نصطاده كبشر وكم الأسماك المتاحة سنويا، وهو التأثير الذي نجده أيضا في إنتاج اللحوم والزيوت، مرورا بالحالات القصوى من إفساد البيئة ذات العلاقة باستخدام الوقود الأحفوري، مناجم الفحم، الحروب وآثارها.

تهتز كل النظم البيئية الثابتة كدورتي تثبيت الكربون والنيتروجين بسبب استخدامنا للمبيدات والأسمدة وارتفاع نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو
تهتز كل النظم البيئية الثابتة كدورتي تثبيت الكربون والنيتروجين بسبب استخدامنا للمبيدات والأسمدة وارتفاع نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو

تتنوع نتائج تلك التأثيرات بين قدرة البشر خلال ذلك كله على ضرب التنوع الحيوي في البيئة وتسريع عملية انقراض الكثير من الحيوانات، الطيور، الشعاب المرجانية، بشكل ربما يشبه تأثير عصر جليدي، في المقابل تهتز كل النظم البيئية الثابتة كدورتي تثبيت الكربون والنيتروجين بسبب استخدامنا للمبيدات والأسمدة وارتفاع نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو.

رغم أن الجدل لازال دائرا حول ما إذا كان التغير المناخي سببه هو تدخل الإنسان أم أن هناك تغيرات حتمية كانت لتحدث بدون وجود الإنسان، إلا أن الجميع يتفق أن هناك نوع من التغير يحدث، تزداد درجات الحرارة بوضوح كل عام، وتتأثر درجات التنوع البيولوجي، وتظهر تلك التأثيرات يوما بعد يوم في ازدياد معدلات الشذوذ في الطقس، لقد شهدت الأرض عصور جليدية من قبل، ويخشى البعض أن نكون على حافة امر مشابه، هنا يجب أن نعرف أن الانقراض ليس ظاهرة نادرة في تاريخ الأرض، لكن الانقراض هو القاعدة والبقاء هو الاستثناء.

تأثيرات كوكبية

يتصور العلماء أن كوكب المريخ كان قبل -ربما- مليار ونصف عام كان كوكبا أخضر يضج بالحياة، لكن بسبب تأثيرات الشد بين جاذبيتي الشمس والمشتري في المقابل تغير ميل الكوكب قليلا مما دفعه للدخول في تلك الحالة العارمة من التصحر والتي قضت عليه، يدفعنا ذلك للتساؤل عن الأرض، هل يمكن أن تلقى نفس المصير؟

هنا نصل إلى القمر، لكوكب المريخ قمران، ديموس وفوبوس، وكلاهما صغير الحجم لا يعطي المريخ أي تثبيت جذبوي واضح، أما قمر الأرض فيتسبب فيما ندعوه "قفل مدي Tidal locking" وهو ما يحدث حينما تتسبب قوة جذب جرمين سماويين يدوران حول بعضهما البعض في ربطهما، وهو السبب في أن القمر يواجه الأرض بوجه واحد فقط، ربما تسبب ذلك بقدر من الحماية لكوكب الأرض، فمنع انحراف ميلها، لكن القمر لن يستمر معنا للأبد.

يبتعد القمر(4) عن الأرض بمقدار أربعة سنتيمترات كل عام، خلال أقل من مليار سنة سوف ينفلت من مدار الأرض ليتركها وحيدة في مواجهة تأثيرات المشترى والشمس عليها، في المقابل سوف يتأثر النظام الحيوي في الكوكب بالكامل، فالقمر يتسبب في شد كل الماء على الأرض أثناء دورته حولها فيعلو في مناطق وينخفض في مناطق، ان افلات كل تلك الكمّية من الماء قد يتسبب في غرق الأرض، أو ربما تغير وجهها تماما.

هناك دائما انحرافات طفيفة تتطور مع الزمن لتسمح بإفلات جرم ما من مداره أو شذوذ ما في خط سير أية عملية حيوية أو غير حيوية نعرفها
هناك دائما انحرافات طفيفة تتطور مع الزمن لتسمح بإفلات جرم ما من مداره أو شذوذ ما في خط سير أية عملية حيوية أو غير حيوية نعرفها.

دعنا هنا نوضح نقطة هامة، وهي أن الأمور ليست دائما بانتظام الدائرة، لا يوجد دائرة كاملة في الكون، لا يوجد دورة ثابتة للحياة أو حتى للكواكب أو للعناصر في قلب النجوم، هناك دائما انحرافات طفيفة تتطور مع الزمن لتسمح بإفلات جرم ما من مداره أو شذوذ ما في خط سير أية عملية حيوية أو غير حيوية نعرفها، الدوائر الكاملة موجودة فقط في مراجع الرياضيات.

ينقلنا ذلك للحديث عن العصور الجليدية مرة أخرى، يختلف المنظرين من الجيولوجيين والفلكيين حول أسباب حدوثها، لكن الجميع يؤكد أنها تحدث في شكل دورات، فالتدخل البشري هنا ليس السبب الأكثر تأثيرا، لكنها أيضا سوف تحدث كنتيجة للتغيرات المتوقعة، والطبيعية، للأرض أثناء مدارها حول الشمس ، حيث يتغير ميل الأرض، والمداورة الخاصة بها، ودرجة لامركزيتها، وشكل المدار نفسه بسبب تأثيرات الزمكان المحيط بالشمس، وهي أمور دورية تتطلب مئات الآلاف من الأعوام لكي تتغير من نقطة لنقطة، لكنها سوف تحدث، وسوف تهدد جميعها بقاء الحياة على الأرض.

أما عن التأثيرات الجيولوجية فهي عديدة، يتكون مركز الأرض من نواة داخلية حديدية صلبة يحيط بها نواة خارجية ضخمة بقطر حوالي 7000 كم، بسبب دوران الأرض حول نفسها تصنع تلك النواة السائلة دوامات من الحمل الحراري وهي ما يخلق المجال المغناطيسي للأرض وهو ما يحميها من الأشعة الشمسية والكونية الضارة، لكن ذلك لن يستمر كثيرا، فتلك النواة السائلة تتجمد لتصبح صلبة5 بالتدريج، سوف يؤدي تصلب النواة بالكامل لتوقف الألواح التكتونية عن الحركة وانكشاف المجال الكهرومغناطيسي للأرض، هنا سوف تسجل الأرض وفاتها خلال ملياري – ثلاثة مليارات من الأعوام.

نهاية الشمس

بيكساباي
بيكساباي

الشمس نجم متوسط العمر، تقع ضمن نجوم التسلسل الرئيسي، وهي المجموعة من النجوم التي لازالت تمتلك قدر من الهيدروجين لمدها بالطاقة، بدأت الشمس حياتها منذ ما يقرب من أربعة مليارات ونصف من الأعوام، تتربى النجوم في حضّانات هيدروجين ضخمة في قلب السدم، ثم تنمو بالتدريج لتنفصل فيما بعد عن رفيقاتها في التجمعات النجمية المفتوحة.

النجوم كالشمس(5) هي نجوم متوسطة الحجم، لقد استهلكت بالفعل 50% من هيدروجينها، بعد أن تستهلك البقية الخاصة بها تبدأ في التحول للون الأحمر بسبب انخفاض درجة حرارة سطحها من ستة إلى – تقريبا – ثلاثة آلاف درجة مئوية، ثم تتضخم لتصبح عملاق أحمر بقطر أكبر 250 مرة تقريبا من قطر الشمس الحالي، وهو ما يصل بها في الحجم إلى مدار المريخ، بعد ذلك تبدأ أغلفة الشمس الخارجية في الانفصال عنها في شكل رياح نجمية عاتية، بعدها بفترة – خلال الأربعة مليارات سنة القادمة – سوف تقبع الشمس كقزم أبيض في قلب سديم كوكبي.

خلال ذلك التغير سوف ترتفع درجة لمعان (Luminosity) الشمس حتى تصل إلى 35%، ربما، أكثر مما هي عليه الآن، سوف يتسبب ذلك خلال 600 مليون سنة في ارتفاع درجات الحرارة على الأرض، وسوف تقل درجات وجود ثاني أكسيد الكربون إلى نطاقات كارثية، مما سوف ينهي عملية البناء الضوئي، وتتوقف الحياة عن التواجد على هذا الكوكب، كذلك سوف تبدأ المحيطات في التبخر، ربع محيطات الأرض سوف تنتهي خلال مليار سنة، في منتصف تلك المدة سوف تصل متوسط درجات الحرارة عى الكوكب إلى 50 درجة مئوية، قبل وصول الشمس إلى مرحلة العملاق لأحمر سوف تكون الأرض قد انتهت، انتهت الحياة عليها، انتهى غلافها الجوي، انتهى مجالها المغناطيسي، لقد أصبح الكوكب كرة صلبة ميّتة.

لا يمكن في جزء من مقال واحد حصر كل تلك التأثيرات الكارثية التي سوف تتسبب فيها نهاية الشمس أو حتى رسم خط زمني لتوضيح كل مشكلة على حدة، لكن ما نعرفه أن الحياة على الأرض ربما لن تبقى لتشهد تغيرات الشمس، وهنا أود توضيح نقطة هامة، وهي أن التأثيرات المناخية – مثلا – تتخذ نمطا فوضويا، ما يعني أنها لا تلتزم بخطة أو توقعات، وهو ما دعا هوكينج للحديث عن مدة مائة عام، فالتغير المناخي قد يتطور ليصبح ثورة عارمة في سنوات قليلة ربما لا تتخطى مئتي عام، ربما ينتهي كل شيء قبل أن تبدأ نهاية الشمس.

إلى أين؟!
سوف نترك بيوتنا وأراضينا وأوطاننا، سوف ننسى شكل قاراتنا ومناخنا وقبور ميّتينا، سوف نذهب ربما إلى عالم بعيد بشمس أو شمسين كتلك التي نعرفها
سوف نترك بيوتنا وأراضينا وأوطاننا، سوف ننسى شكل قاراتنا ومناخنا وقبور ميّتينا، سوف نذهب ربما إلى عالم بعيد بشمس أو شمسين كتلك التي نعرفها.

في أبريل 2016 صرح ستيفن هوكينج(6) مع يوري ميللر الميلياردير الروسي عن مشروع للسفر بين النجوم سوف يمكّن حواسيب نانوية خفيفة بحجم شريحة الهاتف المحمول من السفر عبر شراع يعمل بدفع أشعة الضوء ثم توجيهه للسفر بسرعة تصل إلى 20% من سرعة الضوء ناحية بروكسيما قنطورس لاستكشافه، سوف يعطينا ذلك فرصة لاستطلاع الأجواء حول بروكسيما قنطورس في 20 إلى 30 سنة فقط، وإذا كانت الأجواء مناسبة، فربما علينا أن نبدأ في التجهيز للرحلة، ماذا؟!

ربما سوف يكون المريخ هو نقطة انتقال تنقذنا حتى نتمكن من الهروب من المجموعة الشمسية بالكامل، في أغسطس الماضي أعلن الفلكيون عن اكتشاف كوكب جديد يدور حول أقرب النجوم لنا، بروكسيما قنطورس، وكانت المفاجأة أن هذا الكوكب يدور حول النجم في منطقة قابلة لتواجد ظروف تسمح بظهور حياة، النجم هو قزم أحمر متواجد مع النجمين ألفا وبيتا قنطورس في ثلاثية رائعة ربما سوف تكون مشهد بديع لسكان الأرض الجديدة.

لا تتعجب من حديثي عن الرحيل كأنه أمر طبيعي، ما نحن متأكدون منه هو أن النهاية حتمية، بل إن مشكلتنا هنا هي "الرعب" من اقترابها بشكل أسرع مما نتوقع، نحن حتما راحلون من هنا، بل إن الأولى بعنوان المقال أن يكون "كيف سوف نرحل من هنا؟"، والذي ربما سوف يكون عنوان مقال قادم يتحدث عن احتياجاتنا للحياة على كوكب آخر، وكيف سوف نبني أول مستعمره، وكيف سوف نقوم بالإجلاء!

نعم، ليست تلك رفاهية برامج صباحية، سوف نترك بيوتنا، أراضينا، أوطاننا، سوف ننسى شكل قاراتنا ومناخنا وقبور ميّتينا، سوف نذهب ربما إلى عالم بعيد بشمس أو شمسين كتلك التي نعرفها، سوف نبدأ في بناء حياة جديدة ربما، وربما سوف نفسدها أيضا، وإن لم نتمكن من تملك تكنولوجيا تساعدنا على الهرب فسوف نحترق مع بقية الكوكب.

المصدر : الجزيرة