شعار قسم ميدان

أزمة توظيف تجتاح العالم.. لماذا تستبعد الشركات الناشئة الآلاف من موظفيها؟

أزمة توظيف تجتاح العالم.. لماذا تستبعد الشركات الناشئة الآلاف من موظفيها؟

في يوليو/تموز 2022، استيقظ سوق الشركات الناشئة العالمي على خبر كالصاعقة، عندما أعلنت رسميا شركة "إيرليفت (Airlift) -أكبر شركة ناشئة في باكستان، وأكثرها حصدا للتمويل على الإطلاق- انهيارها الكامل وإغلاق أبوابها وتسريح 1300 موظف دفعة واحدة. وقد عزت الشركة هذه الخطوة المأساوية إلى الأزمات الاقتصادية التي يمر بها العالم من انكماش اقتصادي وتضخم، فضلا عن نتائج الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها.

 

الشركة الباكستانية المتخصصة في مجال التجارة الإلكترونية والتوصيل فائق السرعة خلال 30 دقيقة، والتي استطاعت جمع حوالي 85 مليون دولار منذ تأسيسها في 2019 لتصبح أكثر شركة ناشئة جمعت تمويلات في باكستان، وتصل قيمتها إلى حوالي 275 مليون دولار؛ تعرضت للموت المفاجئ بعد فشلها في جمع المزيد من الاستثمارات التي تتماشى مع خططها التوسعية، في ظل ركود الأسواق الذي يشهده العالم والسوق الباكستاني(1).

 

هذا الخبر أسهم في دقّ المزيد من أجراس الخطر بالنسبة لأوضاع الشركات الناشئة حول العالم، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية والتضخم المتزايد بسبب فترة ما بعد الجائحة وتأثير الحرب، خصوصا في قطاع التوظيف الذي يشهد مستويات مقلقة من تسريح الموظفين والعمال، وما يعني ذلك من زيادة البطالة وما يصاحبه من زيادة في التوترات الاجتماعية.

 

التسريح هو الاتجاه الجديد

تيسلا للسيارات الكهربائية أعلنت تسريح بعض موظفيها وتجميد توظيف آخرين – وسائل التواصل.
تيسلا للسيارات الكهربائية أعلنت تسريح بعض موظفيها وتجميد توظيف آخرين – (رويترز)

في يونيو 2022، وصلت رسالة داخلية إلى موظفي شركة "تيسلا (Tesla)" للسيارات الكهربائية بإمضاء مؤسسها ومديرها التنفيذي "إيلون ماسك" يقول فيها إن الشركة استبعدت 10% من موظفيها بعد أن أصبحت مكتظة بالموظفين والعمال بما لا يتناسب مع أزمة الانكماش العالمية. كانت هذه الرسالة تمثل شعار المرحلة، حيث كشفت أن الشركات العملاقة أيضا، وليس الناشئة فقط ، بدأت في اتخاذ مسارات أكثر تضييقا على حركة التوظيف لديها.

 

بدورها، أعلنت عملاقة صناعة السيارات "فورد" الاستغناء عن 8 آلاف عامل وموظف دفعة واحدة، وذلك لتوفير 3 مليارات دولار أعلنت الشركة أنها ستضعها لبناء وحدتها لصناعة السيارات الكهربائية بديلا عن سيارات الوقود العضوي المعتمد على البنزين مرتفع الثمن.

 

أما شركة تويتر، فقد أعلنت عن تخفيض 30% من عمالتها في واحدة من أكبر الاستغناءات في تاريخ شركة الإعلام الاجتماعي الشهيرة. بينما أعلنت شركة "نتفليكس (Netflix)" الترفيهية للبث عبر الإنترنت الاستغناء على 300 موظف في مختلف أقسامها حول العالم، وهو نفس ما أعلنت عنه منصة "روبين هود (Robinhood)" العالمية للوساطة الرقمية بالاستغناء عن 9% من أطقمها الوظيفية بالكامل.

 

وكان خبر تسريح 4480 موظفا من شركة "Getir" التركية العملاقة المتخصصة في النقل وتوصيل الطلبات واحدا من أضخم التسريحات التي شهدتها الشركات الناشئة في مايو من العام 2022، حيث شملت الاستغناءات 9 أسواق تنشط بها الشركة التي تقدر قيمتها بـ12 مليار دولار. أيضا أعلنت منصة تكنولوجيا التأمين العالمية الضخمة "بوليسيتك" تسريح ربع موظفيها بعد 3 أشهر فقط من جولة تمويلية ضخمة جمعت خلالها 125 مليون دولار(2،3).

 

التوظيف أصبح امتيازا

Uber CEO Dara Khosrowshahi speaks to the media at an event in New Delhi, India, October 22, 2019. REUTERS/Anushree Fadnavis
دار خسروشاهي ، المدير التنفيذي لشركة النقل العالمية " أوبر " – رويترز

في بداية مايو الماضي، أرسل "دارا خسروشاهي" -المدير التنفيذي لعملاق النقل التشاركي العالمي "أوبر (Uber)"- رسالة لجميع موظفي الشركة في كل القطاعات، يقول فيها إن الشركة ستعمل على تخفيض النفقات بشكل حاد في خططها التسويقية والحوافز، وإنها ستتعامل مع التوظيف في شركتها الفترة المقبلة باعتباره "امتيازا"، وإن إداراتها سوف تدرس بعناية متى وأين ستطلب المزيد من الموظفين. وعلل خسروشاهي هذا الاتجاه من أوبر بأن الشركة مجبرة أن تبدأ في تصغير حجمها (Downsizing) بسبب "التحول الزلزالي" الذي يضرب الأسواق، بحسب وصفه(4).

 

الأمر لم يختلف مع الشركات التقنية العملاقة، فقد أعلنت شركة "ألفا بت" -الشركة الأم لمحرك البحث جوجل- أنها ستقلل وتيرة التوظيف في جميع مشاريعها وأقسامها حول العالم حتى نهاية العام، وأنها ستعطي الأولوية القصوى للمهندسين والتقنيين ذوي الكفاءة، معللة هذا القرار بأنها ليست محصنة من المشكلات التي يمر بها الاقتصاد العالمي. كما أعلنت شركة "أبل" أنها ستعمل أيضا على تقليل وتيرة التوظيف في أقسامها حتى مطلع العام المقبل.

أما شركة ميتا المالكة للفيسبوك، فقد أعلنت تجميد خططها لتعيين المزيد من الموظفين الجدد، وقللت من خطتها لتوظيف المهندسين بنسبة 30%، مع إعلان رئيسها "مارك زوكربيرغ" أنه يتوقع المزيد من الانكماش الاقتصادي خلال الفترة المقبلة. والأمر لم يختلف بالنسبة إلى شركة مايكروسوفت، التي أعلنت في مايو رسميا أنها تقلل من معدلات التوظيف في شركاتها وأقسامها، وجمدت فرص وظيفية كانت مُتاحة، وأجرت بالفعل مجموعة من الاستبعادات شملت 1% من طاقتها الوظيفية.

 

وحتى عملاق التجارة الإلكترونية العالمي "أمازون (Amazon)"، الذي يضم أكثر من 1.6 مليون موظف حول العالم، باعتباره أكبر عدد من الموظفين في شركة تقنية؛ لم يسلم من آثار هذه الموجة، حيث أعلنت الشركة في أبريل الماضي بأنها ضمّت المزيد من الموظفين إلى أطقمها حول العالم خلال فترة الجائحة بسبب تزايد الطلب، وأن إجراء تسريحات لبعض الموظفين قد تكون قريبة، إلا أنها تحتاج إلى المزيد من الوقت لتحديد الموظفين الذين يمكنهم القيام بالأعمال التي تغطي غياب نسبة من الموظفين الآخرين(5).

 

القطاعات الأكثر تضررا

بحسب تقرير "تيك كرنش"، فإن موجة التسريح الضخمة التي شهدتها الشركات الناشئة حول العالم في النصف الأول من العام الحالي (يناير-يونيو) كانت من نصيب قطاع التقنية المالية (Fintech). في الواقع، كان هذا القطاع تحديدا هو الأكثر حظا في العام 2021 في جمع التمويلات من صناديق الاستثمار الجريء حول العالم، حيث حصدت الشركات الناشئة المتخصصة في هذا القطاع حوالي 131.5 مليار دولار عبر حوالي 5 آلاف صفقة، إلا أنه لم يمر عام واحد حتى أصبح هذا القطاع هو الأكثر تضررا من أزمة الانكماش العالمي.

A sign is pictured at the entrance of Klarna's headquarters in Stockholm, Sweden on May 25, 2022. REUTERS/Supantha Mukherjee
منصة كلارنا Klarna السويدية للتقنية المالية ، أعلنت تسريح المئات من موظفيها – رويترز

خلال النصف الأول من العام 2022، حقق قطاع التقنية المالية نسبة 10-11% من إجمالي التسريحات التي شهدتها جميع قطاعات الشركات الناشئة حول العالم؛ ما يجعله في مرتبة متقدمة مع قطاعين آخرين هما قطاع الطعام والنقل. تزداد هذه الأرقام بشكل أكبر إذا دُمجت معها الشركات المتخصصة في العملات الرقمية، والتي شهدت موجات استبعادات كبيرة خلال الربع الثاني من العام الحالي، مع تراجع قيمة العملات الرقمية عالميا(6).

 

جاء على رأس شركات التقنية المالية التي سجلت موجات تسريح كبيرة شركة "كلارنا (Klarna)"، عملاقة التقنية المالية السويدية التي استغنت عن 10% من موظفيها، أي ما يعادل 700 موظف. كما أعلنت شركة "كوين بيز (Coinbase)" العملاقة لتداول العملات الرقمية عن تسريحها عددا كبيرا من موظفيها وصل إلى 1100 موظف، ما يمثل 18% من طاقتها العمالية بالكامل، مع تجميد عمليات التوظيف حتى نهاية العام(3).

 

الموجة وصلت المنطقة العربية

على الرغم من أن موجة التسريحات العالمية للموظفين في الشركات الناشئة لم تصل بشكل مكثف بعد إلى المنطقة العربية للدرجة التي تجعلها ظاهرة إعلاميا، فإن بوادرها عندما أعلنت شركة "سويفل (SWVL)"، المصرية الناشئة التي يقع مقرها في الإمارات، وواحدة من أهم الشركات الناشئة العربية وأكثرها تمويلا؛ بأنها سرّحت ثلث موظفيها دفعة واحدة، أي ما يعادل 400 موظف، في شهر مايو الماضي.

A woman walks past a vehicle with a logo of the Egyptian transport technology start-up Swvl, parked along a road in Islamabad, Pakistan, November 11, 2019. REUTERS/Akhtar Soomro
شركة سويفل SWVL المصرية للنقل التشاركي ومقرها الإمارات ، أعلنت تسريح ثلث موظفيها دفعة واحدة ( 400 موظفاً ) – رويترز

قالت سويفل إن موجة الاستبعادات تشمل موظفيها في كل من باكستان والإمارات، وإنها في المقابل قدمت مجموعة من التعويضات للموظفين المستبعدين، تشمل حزمة مساعدات، والإبقاء على حصة الموظفين من الأسهم، والاحتفاظ بالتأمين الصحي ومزاياه، وتسهيل عودتهم إلى الشركة بعد انتهاء الأزمة وتحسن الاقتصادات العالمية، وأيضا الاحتفاظ بأجهزتهم التي حصلوا عليها من الشركة.

 

وعللت سويفل أن هذا الإجراء باستبعاد عدد كبير من الموظفين، وإحلالهم بأنظمة مؤتمتة بدواعي ترشيد النفقات، كان هو الإجراء الوحيد أمام الشركة العربية الناشئة المُدرجة في بورصة ناسداك حتى تتمكن من استكمال مساعيها الطموحة بالاستحواذ على المزيد من الشركات العالمية وفتح المزيد من الأسواق، لتسريع خطواتها في بدء تحقيق أرباح إيجابية بداية من العام 2023 بدلا من العام 2024 كما كان مقررا قبل تفاقم أزمة التباطؤ الاقتصادي العالمي والتضخم(7).

 

وبعد عدة أسابيع من إعلان سويفل تسريح ثلث موظفيها، جاء إعلان شركة "فيزيتا (Vezeeta)" المصرية الناشئة للخدمات الصحية عن استغنائها هي أيضا عن 10% من موظفيها، وهو ما يوازي 50 موظفا تقريبا. فيزيتا تعتبر من كبار الشركات العربية الناشئة التي حصلت على تمويلات تجاوزت سقف الـ40 مليون دولار، وتعمل حاليا في أكثر من 50 مدينة موزعة على عدة دول عربية تشمل مصر ولبنان والأردن والخليج.

 

وعلى الرغم من الطفرة الكبيرة التي حققتها المنصة الطبية الناشئة التي تأسست عام 2021 أثناء فترة جائحة كورونا، خصوصا في مجال التطبيب عن بُعد، حيث تضاعفت قاعدة عملها 3 مرات، إلا أن المنصة اضطرت لتقليص فريقها بعد عودة الحياة إلى طبيعتها نسبيا، وبدء خطة توسع جديدة في المزيد من المدن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليصل عملاؤها إلى 10 ملايين مريض(8).

 

لماذا كل هذه التسريحات؟

تسريح الموظفين

على الرغم من أن موجات تسريح الموظفين طالت معظم الشركات بنسب متفاوتة، فإن أكبر موجات التسريح -وأكثرها تأثيرا- قد شهدتها الشركات التقنية الناشئة العاملة في مختلف القطاعات. السبب هو أن التباطؤ الاقتصادي وحالة عدم اليقين في الأسواق العالمية تدفع المستثمرين إلى توفير ملاذات آمنة لأموالهم بدلا من الاستمرار في ضخ الاستثمارات في المشاريع المخاطرة.

 

في تلك الأوقات، تتحول أهداف الشركات الناشئة من "التوسع" في الأسواق إلى هدف آخر، وهو تحقيق الأرباح في أقرب وقت ممكن، أي التحول من حالة "النمو" واقتحام الأسواق الجديدة (Growth) إلى حالة تحقيق الأرباح (Profitability) السريع، لضمان استمرار بقائها في الأسواق الهابطة، وفي الوقت نفسه لتكتسب ثقة المزيد من المستثمرين الذين يمتنعون عن الاستثمار في الشركات الناشئة مع زيادة التضخم وارتفاع سعر الفائدة.

 

وبالتأكيد، يظل واحدا من أهم أوجه الإسراع في تحقيق أرباح سريعة هو تقليل النفقات، وذلك باستبعاد العديد من الموظفين في قطاعات يمكن أتمتتها "Automation" في الشركات التقنية الرقمية، أو تجميد القطاعات التي لا تحقق أو يتوقع أن تحقق أرباحا في المستقبل بحسب بيانات رصد السوق، وبالطبع تجميد توظيف المزيد من الموظفين الذين كان من المستهدف توظيفهم في الظروف العادية(9).

 

في النهاية، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يزال المشهد الاقتصادي العالمي مشوّشا ولا يمكن التأكد مما ستؤول إليه الأمور، مع استمرار أزمة التضخم وارتفاع الأسعار واستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية وتوابعها التي تضر الاقتصاد العالمي ضررا مباشرا بكل قطاعاته، وعلى رأسها الشركات الناشئة التي تحاول معظمها التركيز على "البقاء" أكثر من تركيزها على النمو.

————————————————————–

المصادر

1 – Airlift, Pakistan’s top startup, shutting down following funding crunch

2 – Ford to Fund Its EV Efforts in Part by Laying Off 8000 Workers

3 – Companies that announced major layoffs and hiring freezes 

4  – Uber CEO tells staff company will cut down on costs, treat hiring as a ‘privilege’

5 – Microsoft, Google Are Latest Tech Giants to Hit Brakes on Hiring

6 –  Fintech startups lead the layoff wave

7 – سويفل SWVL المصرية الناشئة تستغني عن ثلث موظفيها بالتزامن مع تسريح الآلاف حول العالم

8  – Egyptian healthtech startup Vezeeta cuts 10% of 500-person staff

9 – Job cuts are rolling in. Here’s who is feeling the most pain so far

المصدر : الجزيرة