ما بين الأرقام الضخمة والسقطات الكبيرة.. كيف واجهت الشركات العربية الناشئة تحديات عام 2022؟
يطوي كتاب عام 2022 صفحاته الأخيرة مُعلنا نهاية قصة عالمية لم تكن مريحة لمليارات البشر حول العالم، حيث بدأ العام بأزمات الركود الاقتصادي الذي تعاظم على مدار شهور ليصل إلى ذروته بنهايته، خصوصا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي غطَّت آثارها العالم أجمع، لتُعيد للأذهان مشهدا كئيبا من ذلك النوع للأزمات العالمية التي تتداخل فيها أصوات البنادق والصواريخ مع أصوات الشكاوى من الغلاء والبطون الخاوية.
وبالتأكيد، كانت الشركات الناشئة حول العالم من أكبر المتضررين عام 2022، حيث أبطأ المستثمرون وتيرة تمويلهم للمزيد من الشركات التقنية وسط ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي، وتراجعت صناديق الاستثمار الجريء عن اندفاعها في المخاطرة غير المحسوبة برؤوس أموالها وسط بوادر ركود اقتصادي عالمي، الأمر الذي أثَّر بالتبعية على الشركات العربية الناشئة خلال العام. (1)
في هذا التقرير، نُحلِّق فوق المشهد الريادي العربي خلال عام 2022، ونُلقي نظرة على أهم الأحداث التي شهدها، التي ستنعكس بالتأكيد على عام 2023 الذي يؤكد الاقتصاديون أنه سيشهد "ذروة الركود الاقتصادي".
فلنتذكر عام 2021
خلال عام 2021، حصدت الشركات الناشئة العربية قدرا كبيرا من التمويلات عُدَّ الأكبر مقارنة بالسنوات الماضية، حيث جمعت الشركات الناشئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو مليارَيْ دولار، عبر أكثر من 400 صفقة تمويل لشركات ناشئة من المحيط إلى الخليج تعمل في أسواق وقطاعات مختلفة. بالتأكيد قد يكون عدد الصفقات التمويلية أكبر من ذلك الرقم، ولكن الإشارة هنا إلى الصفقات مُعلَنة القيمة.
احتلت الإمارات المركز الأول من حيث عدد وقيمة صفقات التمويل للشركات الناشئة التي تعمل على أراضيها، حيث استحوذت شركاتها على تمويلات تزيد على نصف إجمالي التمويلات العربية (نحو مليار دولار) ثم جاءت المملكة العربية السعودية في المركز الثاني، ثم حلَّت مصر في المركز الثالث. وجاء على رأس القطاعات الأكثر تمويلا قطاع التكنولوجيا المالية، ثم قطاع التقنية المالية "فنتك" (Fintech)، ثم التجارة الرقمية فخدمات النقل والتوصيل. هذا النشاط التمويلي الكبير رفع إجمالي عدد الشركات الناشئة التي تجاوزت قيمتها المليار دولار (يونيكون) إلى 6 شركات عربية.
من بين مئات صفقات التمويل، احتلت 5 شركات ناشئة هرم الصفقات التي يمكن وصفها بـ"الصفقات الضخمة" (Mega Deals)، على رأسها شركة "كيتوبي" (Kitopi) الإماراتية للمطابخ السحابية التي حصدت أكبر صفقة تمويلية شهدتها المنطقة بقيمة 415 مليون دولار، ثم شركة "يونيفونيك" السعودية للخدمات السحابية بتمويل قدره 125 مليون دولار، ثم تطبيق "حالا" (Halan) المصري متعدد الاستخدامات (سوبر أبلكيشن) الذي حصد 120 مليون دولار، ثم "تمارا" السعودية للتقنية المالية بتمويل 110 ملايين دولار، وأخيرا شركة النقل التشاركي "سويفل" (SWVL) التي طُرحت في بورصة ناسداك.
أما بالنسبة لصفقات الاستحواذ، فقد شهدت المنطقة استحواذات عالمية على عدد من الشركات الناشئة العربية، على رأسها استحواذ شركة "ستيل فرونت غروب" السويدية على منصة "جواكر" الأردنية للألعاب بقيمة 205 ملايين دولار، كما استحوذت شركة "تمر" السعودية على منصة "ممزوورلد" للتجارة الرقمية، فيما أعلنت "الشركة السعودية للإعلام" =استحواذها على حصة الأغلبية في منصة "ثمانية"، وغيرها من صفقات الاستحواذ التي شهدها عام 2021. (2)
المشهد الريادي العربي في عام 2022
أما عام 2022، فرغم جميع الأزمات التي شهدها العالم بسبب حالة التضخم واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع الأسعار وانعكاسها بشكل حاد على جولات التمويل والاستثمار في الشركات الناشئة، فإن الشركات الناشئة في المنطقة حققت نموا استثنائيا مقارنة بالأعوام السابقة، حيث تجاوز إجمالي التمويلات التي حققتها في مختلف القطاعات 3.2 مليارات دولار.
هذا الارتفاع في قيمة التمويلات قابله ارتفاع في عدد الصفقات أيضا، حيث تجاوز عددها 550 صفقة تمويل شملت شركات ناشئة في مختلف الدول العربية وفي مختلف القطاعات. تصدرت الإمارات المركز الأول في قيمة الاستثمارات حيث جذبت شركاتها نحو 43% من إجمالي التمويلات، ثم جاءت السعودية في المرتبة الثانية بنسبة 27%، ثم مصر في المركز الثالث بنسبة 16%.
كان النصف الأول من العام هو الأكثر نشاطا في حصد التمويلات، حيث جمعت الشركات نحو 1.8 مليار دولار عبر 332 صفقة، وهو رقم يقترب من إجمالي التمويلات التي حصدتها الشركات خلال عام 2021. لاحقا، وبقدوم النصف الثاني من العام، تراجعت وتيرة التمويلات والصفقات بشكل ملحوظ مقارنة بالنصف الأول، رغم حصول عدد من الشركات الناشئة على تمويلات يمكن وصفها بـ"الضخمة". (3)
الخمسة الكبار
شعار شركة "يسير" (Yassir) الجزائرية الناشئة للنقل التشاركي يُعرَض في بورصة نيويورك بعد حصولها على جولة تمويلية ضخمة بقيمة 150 مليون دولار – (وسائل التواصل)
من بين أكثر من 550 صفقة تمويل لشركات عربية ناشئة شهدها عام 2022، جاءت 5 صفقات بالتحديد على رأس قائمة "الصفقات الضخمة" (Mega Deals)، حصدتها شركات ناشئة في الإمارات والسعودية والبحرين والجزائر. هذه الصفقات الخمس قُدِّرت قيمتها بنحو 760 مليون دولار، أي ما يوازي ربع إجمالي صفقات التمويل التي حصدتها جميع الشركات الناشئة خلال العام الحالي.
خلال النصف الأول من العام، جاءت شركة "مزارع بيور هارفست الذكية" (Pure Harvest Smart Farms) المتخصصة في قطاع التقنية الزراعية "أجريتك" (Agritech)، جاءت على قمة الشركات العربية الناشئة حصدا للتمويلات، حيث جمعت 180 مليون دولار، ليرتفع إجمالي تمويلاتها إلى 387 مليون دولار، وتحتل مكانة متقدمة بين أقوى الشركات العربية الناشئة تمويلا خلال السنوات الماضية.
في المركز الثاني من حيث ضخامة صفقات التمويل، جاءت شركة "فودكس" (Foodics) السعودية المتخصصة في تطوير أنظمة إدارة سحابية للمطاعم وشركات التغذية، حيث جمعت تمويلا جديدا بقيمة 170 مليون دولار، ليرتفع إجمالي تمويلاتها إلى نحو 200 مليون دولار، مع بداية حملة توسعات إقليمية في مصر والأردن ودول الخليج. أما الصفقة الثالثة فكانت من نصيب منصة "رين" (Rain) البحرينية لتداول العملات المشفرة، حيث حصدت 110 مليون دولار في بداية يناير/كانون الثاني 2022، بوصفها أول منصة عربية متخصصة في مجال العملات الرقمية. (3)
أما في النصف الثاني من العام، فقد شهد شهر نوفمبر/تشرين الثاني بالتحديد صفقتين من أكبر الصفقات التمويلية للشركات العربية الناشئة، أولها شركة "يسير" (Yassir) الجزائرية لحلول النقل التشاركي وتوصيل البقالة والطلبات التي حصدت جولة استثمارية ضخمة بقيمة 150 مليون دولار، لتبدأ العمل في 6 دول حول العالم على رأسها دول المغرب العربي الجزائر والمغرب وتونس. وفي الشهر نفسه، حصدت شركة "فينيكس غايمز" (Fenix Games) الإماراتية الناشئة لتطوير الألعاب الإلكترونية باستخدام تقنيات البلوك تشين تمويلا بقيمة 150 مليون دولار أيضا بوصفها خامس أكبر صفقة تمويل لشركة عربية ناشئة شهدتها المنطقة. (4، 5)
استحواذات كبيرة
إلى جانب صفقات التمويل الكبيرة، شهدت ساحة ريادة الأعمال العربية أيضا عشرات صفقات الاستحواذ التي يمكن وصف الكثير منها بـ"الضخمة"، خصوصا خلال النصف الثاني من عام 2022، يأتي على رأسها استحواذ منصة "جاهز" (Jahez) السعودية للتوصيل على اثنتين من كبريات الشركات السعودية الناشئة: منصة "مَرِن" (Marn) للتوظيف التي استحوذت عليها جاهز بقيمة 16 مليون دولار،ومنصة "ذا شيفز" (The chefz) لتوصيل الحلويات بقيمة 172 مليون دولار، وهي تُعَدُّ من أكبر صفقات الاستحواذ التي شهدتها السعودية مؤخرا. (6)
النصف الثاني من العام شهد أيضا عددا من صفقات الاستحواذ المحلية والإقليمية، منها استحواذ منصة "فلاورد" الكويتية على شركة مبخر، واستحواذ باي تابس السعودية على "ديجيتال باي"، كما شهد أيضا استحواذ شركة "أنغامي" للأعمال الموسيقية على منصة "Spotlight events"، إلى جانب عدد آخر من الاستحواذات غير مُعلنة القيمة.
أما في النصف الأول من العام، فقد شهدت الشركات الناشئة العربية عددا من الاستحواذات والتوسعات المحلية والإقليمية، منها توسع "فودكس" السعوية إلى السوق الأردني عبر الاستحواذ على شركة "Posrocket" الأردنية للخدمات السحابية. كما استحوذت منصة "سنونو" القطرية لخدمات التوصيل على شركة "أكيد" (Akeed) العمانية بصفقة قدرها 10 ملايين دولار، وهو ما يُعَدُّ أول توسُّع لشركة ناشئة قطرية خارج قطر.
أما "ساري" السعودية التي تُعَدُّ من أكبر منصات التجارة الرقمية السعودية وأكثرها نموا فقد استحوذت في مطلع العام على شركة "مورِّد" المصرية بصفقة غير معلنة، كما أُعلن الاستحواذ على منصة "كووورة" (Kooora) البحرينية للإعلام الرقمي الرياضي بواسطة شركة "Footballco" العالمية بصفقة كبيرة قُدِّرت بنحو 25 مليون دولار. (3)
الجانب المظلم
رغم صعود الشركات العربية الناشئة خلال عام 2022 من حيث التمويلات والصفقات والاستحواذات، فإن المشهد الريادي العربي لم يخلُ من جوانب مظلمة، حيث شهدت الشركات الناشئة أزمة كبيرة في برامج التوظيف والتوسع تأثرا بأزمة الركود العالمي والتضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما جعل عددا من الشركات تُسرِّح شرائح كبيرة من موظفيها، على رأسهم شركة "سويفل" (SWVL) للنقل التشاركي، حيث أعلنت عن تسريح 400 موظف، أي ما يعادل ثلث موظفيها.
سويفل أيضا، التي كان العالم أجمع يحتفل بإدراجها للاكتتاب العام في بورصة ناسداك في الربع الأول من عام 2022، بوصفها أول شركة ناشئة من الشرق الأوسط تصل إلى مرحلة الاكتتاب بتقييم مليار ونصف مليار دولار، لم تدُم فرحتها إلا أشهرا قليلة، وكان في انتظارها مفاجأة سيئة من العيار الثقيل، حيث انهار سعر السهم على مدار العام من 10 دولارات -بداية الاكتتاب- إلى ما دون 20 سنتا في نهاية ديسمبر/كانون الأول، وهو ما يعني أن الشركة مصرية المنشأ إماراتية المقر فقدت أكثر من 95% من قيمتها خلال عدة أشهر. (7)
الحدث المُظلم الآخر الذي شهدته بيئة الشركات العربية الناشئة خلال 2022 هو انهيار واحدة من أكبر الشركات الناشئة تمويلا، وهي شركة "كابيتر" (Capiter) المصرية الناشئة المتخصصة في التجارة الإلكترونية بعد حصدها لجولات تمويلية ضخمة قدرت بنحو 33 مليون دولار. هذا الانهيار الذي حدث في الربع الثالث من العام تسبب في موجة اضطراب هائلة في الوسط الريادي، وعُدَّ من أكبر حالات الإفلاس والإغلاق التي شهدتها المنطقة العربية منذ سنوات طويلة. (8)
في النهاية، يمكن وصف المشهد الريادي العربي خلال عام 2022 أنه مُضيء في المجمل ولكن يتخلله بعض البقع المظلمة الكبيرة، لأسباب ترجع بالأساس إلى الظروف الاقتصادية العالمية التي تفاقمت على مدار العام، وأثَّرت تأثيرا مباشرا على الشركات الناشئة وصناديق الاستثمار الجريء والممولين الأفراد للمشاريع التقنية. السؤال الأهم الذي يترقَّبه الجميع الآن على أعتاب عام جديد: كيف ستتأثر الشركات الناشئة العربية بالركود العالمي الذي يتوقع أن يصل ذروته في عام 2023؟
—————————————————————————-
المصادر:
1 – الأيام السعيدة ولَّت.. كيف يؤثر التضخم والحرب على تمويل الشركات الناشئة؟
2 – عام الاستثمارات الضخمة.. كيف حصدت الشركات العربية الناشئة أكثر من ملياري دولار خلال 2021؟
4 – يسير Yassir الجزائرية الناشئة لحلول النقل التشاركي تحصد تمويلا هائلا بقيمة 150 مليون دولار
5 – Fenix Games raises $150M for blockchain game publishing
6 – جاهز السعودية تستحوذ على تطبيق ذا شفز في صفقة ضخمة بقيمة 172 مليون دولار
7 – محنة سويفل.. كيف فقدت شركة النقل الجماعي الأشهر عربيا 95% من قيمتها؟
8 – اختلاس أم فشل إداري.. كيف انهارت شركة كابيتر المصرية بعد جمعها تمويلات بقيمة 33 مليون دولار؟