شعار قسم ميدان

السوق هو الملك.. كيف تستكشف متطلبات السوق قبل العمل على منتج جديد؟

في صيف عام 1996، استيقظت أميركا على حملة ترويجية ضخمة أطلقتها شركة ماكدونالدز للوجبات السريعة، تعلن فيها عن نوع جديد من شطائرها اللذيذة بإسم "آرك ديلوكس (Arch Deluxe)"، راهنت ماكدونالدز على أنها ستكون سببا في طفرة كبرى في المبيعات بعد فترة قليلة من إطلاقها، لدرجة تخصيص ميزانية ضخمة لخطها الإنتاجي الجديد والتسويق له بقيمة قدرت بحوالي 200 مليون دولار.

 

مرّت الايام، وكل مديري فروع ماكدونالدز المنتشرة في كل مدينة من المدن الأميركية ينتظرون القفزة الهائلة في المبيعات، والإقبال التاريخي من العملاء على المنتج الجديد الذي أُنفقت عليه ميزانية هائلة، إلا أن الإقبال استمر على الشطائر نفسها التقليدية التي تنتجها ماكدونالدز، مع تجاهل تام للشطيرة الجديدة. لاحقا، بدأ الناس يقبلون بالفعل على المنتج الجديد، ولكن ليس بالشراء، وإنما -للمفاجأة- بالانتقاد والهجوم العنيف.

 

فمع ضجيج الحملة الإعلانية المكثفة لوجبات "Arch Deluxe" الجديدة عبر التلفزيون واللافتات الإعلانية في الشوارع وفروع ماكدونالدز، تعالى ضجيج من نوع آخر، ألا وهو احتجاج العملاء على المنتج الجديد، وهو آخر ما كانت تتوقعه ماكدونالدز بعد الإعلان عن شطيرتها ضخمة الحجم المليئة بالمكونات الشهية مقارنة بأنواع الشطائر الأخرى التي تقدمها.

 

كان للجمهور رأي آخر، إذ لم ينجذب لوجبة ماكدونالدز الجديدة لأنها لم تبدُ متناسبة -إطلاقا- مع مفاهيم الأسرة الأميركية التي كانت ماكدونالدز تستهدفها طوال الوقت، حيث لم تكن الشطيرة مناسبة للأطفال، بعكس ما رُوِّج له في إعلانات ماكدونالدز، كما أن سعر الوجبة كان أكبر من متوسط وجبات ماكدونالدز المعتادة، وهو ما جعلها تخرج عن إطار الطعام السريع والرخيص المناسب لشرائح المجتمع كافة.

 

المفاجأة أن من ضمن الانتقادات الشديدة التي وجهها الجمهور إلى الوجبة الجديدة من ماكدونالدز، هي أنها دسمة للغاية، وأنها تحتوي على قدرٍ عالٍ من السعرات الحرارية مقارنة بالشطائر الأخرى التي كانت تعد مقبولة بالنسبة إليهم. شريحة أخرى من الجمهور قالت إنها لم تفهم بالضبط الفرق بين هذا المنتج وغيره من بقية منتجات ماكدونالدز، ما جعلهم يتجاهلونه تماما رغم الحملات الإعلانية المكثفة.

 

على مدار السنوات اللاحقة، حاولت ماكدونالدز بشتى الطرق أن تعمل على تعديل منتجها الجديد ليتلاءم مع متطلبات السوق واحتياجات العملاء، إلا أن التجاهل والانتقادات استمرت في الانهيال على هذه الوجبة، حتى قررت ماكدونالدز في عام 2000 وبعد 4 سنوات من إطلاقه بأن توقف خط إنتاج وجبة آرك ديلوكس ورفعها من قائمة منتجاتها تماما بعد الإقرار بفشلها.

حتى الآن، وبعد مرور 20 عاما من إيقافها، ما زالت وجبة الـ"Arch Deluxe" الفاشلة من ماكدونالدز واحدة من أهم الحالات الدراسية (Case Studies) التي يتخذها المسوّقون لشرح أهمية البحث السوقي (Market Research)، وضرورة معرفة ما يريده السوق حقا قبل طرح منتج معين، وكيف أنه حتى شركة ضخمة مثل ماكدونالدز قد ترتكب خطأ تسويقيا قاتلا من هذا النوع، يجعلها تصدر منتجا لا يحتاجه الناس، ويكبدها خسائر قيمتها 200 مليون دولار على الأقل. (1، 2)

 

ما حدث أن ماكدونالدز أنتجت منتجا رائعا، ولكن -ببساطة- الجمهور لم يكن يريده. هذه الحالة بالتحديد -طرح منتج جديد في السوق، والرهان على تحقيق عوائد كبيرة على الاستثمار من ورائه بسبب قوة خصائصه مقارنة بمنتجات أخرى، وعزوف الجمهور المفاجئ عنه- هو واحد من أكثر مخاوف المسوِّقين كابوسية.

 

القاعدة تقول إن أي عمل تجاري، مهما كان نوعه أو مجاله أو حجمه، سواء تابع لشركة كبرى أو مشروع ناشئ يديره 5 موظفين، يقوم على مبدأ أساسي: تحديد الفرصة في السوق للاستفادة منها، أو تحديد مشكلة معينة في السوق والعمل على حلّها. بمعنى أكثر اختصارا، تحديد شيء ما يحتاجه السوق بشكل مؤكد (Certain market Need)، ومن ثَم العمل على تصميم الخدمة أو المنتج الذي يحتاجه السوق.

 

السؤال هنا: كيف يمكنك أن تحدد ما يحتاجه السوق بالضبط إذن؟ الإجابة هي بحث السوق (Market Research)، ويعرف بأنه عملية جمع وتحليل ودراسة السوق بشكل تفصيلي، بما يشمل رصد رغبات العملاء الحاليين والمحتملين، وخصائص وعادات الإنفاق في شرائح العملاء، وقوة المنافسين في سوق معين، وغيرها من الأمور المرتبطة بالسوق.

 

يمكن اعتبار "بحث السوق" إذن عملية مخابراتية لتحديد ما يحتاجه السوق بالضبط وبصورة تفصيلية شديدة الدقة، ومن ثم تمهيد الفرصة لنجاح المنتج أو الخدمة قبل حتى ظهورهما في الأسواق.(3)

 

بشكل عام، يمكن تقسيم بحوث السوق إلى قسمين أساسيين: البحوث الأساسية (Primary Research)، والبحوث الثانوية (Secondary Research). كلا القسمين هدفهما النهائي هو جذب معلومات حقيقية ومفيدة حول طبيعة الجمهور المستهدف وفئاته وتفضيلاته وكل التفاصيل التي تهم دراستها قبل طرح منتج أو خدمة جديدة، ولكن يختلفان في طريقة جمع هذه المعلومات.

 

البحوث السوقية الأوّلية هي عملية جمع معلومات للمرة الأولى، تركز فيها الشركة على جمع البيانات والاستطلاعات الضرورية التي يجب أن تضعها في اعتبارها قبل طرح المنتج والخدمة وأثناءه وبعده. أما البحوث السوقية الثانوية فيقصد بها الاستعانة ببحوث جاهزة بالفعل قامت بها شركات ومؤسسات أخرى في المجال نفسه أو مجالات مختلفة، ودراسة هذه البحوث وتحليلاتها والبناء عليها بما يتوافق مع اتجاه الشركة.

 

بمعنى أكثر وضوحا، البحث السوقي الأوّلي أو الأساسي هو الذي تعمل عليه أنت وشركتك بشكل مباشر، تتواصل مع الجمهور وتطلب تعليقاتهم وآراءهم وما يتوقعونه من منتجات وخدمات معينة، ومن ثم تعمل على تحليل هذه النتائج للخروج بمنتج يلبّي متطلبات العميل. بينما أبحاث السوق الثانوية يمكنك شراؤها أو متابعة التقارير والإحصائيات السوقية الدورية التي تنتجها الشركات التجارية أو حتى المؤسسات الحكومية. لذلك، يعتبر كل منهما مكمِّلا للآخر، أنت تعمل على بحثك السوقي الأساسي، وتستعين بالبحوث السوقية الثانوية لدعم رؤيتك بشكل أوسع للسوق.

يجب الإشارة هنا إلى أن واحدا من أكبر الأخطاء الشائعة في مرحلة البحوث السوقية هو اكتفاء الكثير من الشركات الناشئة والكبرى بالأبحاث السوقية الثانوية، واعتبارها حجر الأساس الذي يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل أثناء صناعة منتج أو خدمة أو تطويرهما. السبب في خطأ هذا الاتجاه هو أن البحوث السوقية الثانوية تعطي صورة عامة فقط، ولا تعطي الصورة الدقيقة المناسبة لكل نشاط تجاري بشكل خاص.(4)

 

تختلف طريقة البحث السوقي وأدواته باختلاف الشركات ومجالاتها وأحجامها والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. ومع ذلك، تظل هناك مجموعة من الطرق الثابتة التي تَتَّبعها كل الشركات مهما كان حجمها ومجالها، يمكن من خلالها تنفيذ بحث ميداني حقيقي لجسّ نبض السوق وتحديد متطلبات العملاء والفرص الكامنة.(3، 4)

أولا: الاستطلاعات

تعتبر الاستطلاعات (questionnaire) من أهم وأدق طرق جمع المعلومات والبيانات من عدد كبير من شرائح العملاء المختلفة، ومن أسهلها وأسرعها أيضا. استطلاع بسيط يحتوي على بعض الأسئلة المُركّزة الموضوعة بعناية، والمكتوبة بأسلوب شيّق -منعا لإثارة الملل- تُرسله عبر البريد الإلكتروني أو عبر وسائل الإعلام الاجتماعي وغيرها، لفئات مستهدفة تسويقيا، بالتأكيد سوف يعتبر مصدرا شديد الأهمية للمعلومات يمكنه أن يقودك إلى معرفة ما الذي يريده العملاء وينتظرونه منك.

 

يظل أسلوب الاستطلاعات الكمي هو الأسلوب الأشهر للبحوث السوقية التي تهدف إلى انتزاع أكبر قدر من المعلومات وتغطية مساحات واسعة من الجمهور. ولكن على الجهة الأخرى، فإنه يواجه أيضا تحديات كبيرة، أهمها عزوف العملاء عن الاستطلاعات، خصوصا إذا كان الاستطلاع طويلا أو يحتوي على أسئلة مملة وغير مفهومة. لذلك، يجب أن تكون الأسئلة المطلوبة مُركّزة وسهلة وشيّقة، لضمان استجابة الجمهور وتقديم إجابات ذات مصداقية.

ثانيا: مجموعات المناقشة

واحدة من أهم وأشهر طرق بحوث السوق الكيفية (Qualitative)، التي تتضمن شروحا وملاحظات دقيقة، هي أن تتفق على تحديد موعد مع عدد معين من شرائح مختلفة لجمهورك المستهدف، وتجتمع معهم في اجتماع يُعرف بـ"مجموعة التركيز أو البؤرة (Focus Group)". من المعتاد عقد هذا الاجتماع واقعيا، ولكن يمكن أيضا عقده رقميا، حيث يجتمع ما بين 5-7 عملاء محتملين للدردشة بخصوص جودة المنتج أو الخدمة وانتقادها وطرح آرائهم بوضوح.

عادة ما تكون الأسئلة التي تُعرَض على المجموعة أثناء المناقشة أسئلة مفتوحة وعامة، تتيح لهم النقاش وطرح أفكارهم وانتقاداتهم لكل شيء له علاقة بالمنتج أو الخدمة المعروضة عليهم. أي أن الغرض من هذه الجلسة هو الاستماع لمجموعة من العملاء المحتملين دون توجيههم إلى اختيارات معينة.

ثالثا: التقييم والملاحظة

هي من أكثر أساليب البحوث السوقية فاعلية حاليا مع ازدهار أدوات تقييم المنتجات والخدمات بواسطة العملاء عبر التطبيقات الذكية والمنصات الرقمية المختلفة. قبل إطلاق منتج أو خدمة معينة في السوق، تُطلَق نسخة تجريبية، وتُختار عيّنة من الجمهور تمثل الشريحة المستهدفة، ويُرسَل المنتج أو الخدمة لهم مقابل تجربتها والتعليق عليها إيجابا أو سلبا، ومن ثم تُؤخَذ تقييماتهم بعين الاعتبار قبل إطلاق المنتج بشكل نهائي.

 

أيضا يوجد طريقة تقليدية قعّالة هي طريقة الملاحظة الذاتية لأداء المنتج خلال فترة التجريب، ورصد مستوى إقبال الناس على شرائه أو تجاهلهم له، أو التواصل مع الباعة في المحلات أو أماكن بيع المنتج، وسؤالهم عن إقبال الناس على منتجك وأي شكاوى أو مميزات ذكروها أثناء الشراء.

 

مع تبني بعض رواد الأعمال فكرة اختراق الأسواق وفرض خدمات وتقنيات جديدة غير مألوفة للعملاء، وتعويدهم عليها تدريجيا، يظل إغفال البحث السوقي بؤرة خطر داهمة تهدد أي عمل تجاري، والسبب الأساسي للسقطات التسويقية الكبرى للشركات التي تسعى دائما لطرح خدمات ومنتجات جديدة هو هذا المبدأ -مع كونه صحيحا تسويقيا- الذي يؤدي أحيانا إلى الاندفاع للتجديد من أجل التجديد مع إغفال ما يطلبه السوق بالأساس.

 

إلى جانب ماكدونالدز وقصة إخفاق منتجها اللذيذ الذي رفضه السوق، تأتي واحدة من أشهر الكوارث التسويقية في القرن العشرين التي ارتُكبت بسبب إغفال البحث السوقي، وكادت أن تغرق شركة عريقة عملاقة وهي كوكاكولا. في عام 1985، أعلنت كوكاكولا إطلاقها منتجا جديدا كليا لمشروبها الأساسي، احتفالا بمرور 100 عام على تأسيسها، وأطلقت عليه اسم "الكولا الجديدة (New Coke)"، أنفقت عليه الملايين لتطويره، ووضعت فيه تركيبة جديدة مختلفة عن مشروب الكولا الذي اعتادت على إنتاجه عقودا طويلة.(5)

على مدار 3 شهور، انهالت مئات الآلاف من الشكاوى والانتقادات على الشركة من العملاء، يعلنون رفضهم التام للمشروب الجديد ومذاقه، واعتبروا أن الشركة تحاول أن تفرض عليهم مذاق مشروبها الجديد رغما عن إرادتهم. ومع الارتباك الشديد في إدارة كوكاكولا التي تصورت أن مشروبها الجديد سيلقى رواجا هائلا، استغلت شركة بيبسي -المنافِسة لها- هذا الخطأ القاتل بالتوسع في حملاتها الإعلانية لجذب المزيد من عملاء كوكاكولا الذين تحوّلوا إلى مشروب بيبسي.

 

تحول الاحتفال إلى مأساة، انخفضت مبيعات كوكاكولا بشكل هائل، في الوقت الذي ارتفعت فيه مبيعات بيبسي إلى السماء، الأمر الذي جعل كوكاكولا تتخذ قرارها بسحب منتجها الجديد الذي فرضته على السوق فرضا، وإعادة تنشيط مشروبها الكلاسيكي المعتاد الذي يألفه عميلها، كما أرسلت كوكاكولا مئات الآلاف من رسائل الاعتذار لعملائها الذين أمطروها بالشكاوى والاحتجاجات على المشروب الجديد.

 

في النهاية، استطاعت كوكاكولا معالجة الأزمة والعودة إلى المنافسة، واختفى منتج "New Coke" من الأسواق، إلا أنه لم يختفِ من محاضرات التسويق التي اعتبرته واحدا من أوضح نماذج الفشل في إجراء البحث السوقي في القرن الماضي، وإعادة التأكيد على أن السوق هو الآمر والناهي الوحيد في لُعبة الأعمال، مهما كان حجمها.

———————————————————————————————————————

المصادر

  1. The Arch Deluxe Was a Hell of a Burger. It Was Also McDonald’s Most Expensive Flop.
  2. The Rise And Fall Of The Arch Deluxe, McDonald’s Most Ambitious Failure
  3. How to Do Market Research: A Guide and Template
  4. How to do market research in 4 steps: a lean approach to marketing research
  5. Market Research Fail: How New Coke Became the Worst Flub of All Time
المصدر : الجزيرة