شعار قسم ميدان

الطريق إلى السماء.. القصة الكاملة لصراع جيف بيزوس وإيلون ماسك لغزو الفضاء

اضغط للاستماع

"منذ أن كنت في الخامسة من عمري وأنا أحلم بالسفر إلى الفضاء. في العشرين من يوليو/تموز، سوف أقوم بهذه الرحلة مع أخي. أعظم مغامرة مع أفضل صديق".

(جيف بيزوس في منشور على إنستغرام)

في العشرين من يوليو/تموز الجاري 2021، وبمناسبة الذكرى السنوية الـ 52 لعملية هبوط مركبة "أبوللو 11" على سطح القمر، تتوجَّه أنظار العالم أجمع إلى قاعدة "ويست تكساس" (West Texas) لمتابعة حدث إطلاق فضائي آخر مثير من نوعه، بطله هذه المرة هو أغنى رجل في العالم "جيف بيزوس"، الذي يخوض بنفسه رحلته الفضائية الأولى من خلال شركته الخاصة للصناعات الجوية الفضائية، المعروفة باسم "بلو أوريجن" (Blue origin).

 

ومن أجل استكمال دائرة الإثارة، قرَّر بيزوس، مؤسِّس شركة "أمازون" (Amazon) للتجارة الإلكترونية الذي تنازل عن منصب المدير التنفيذي للشركة رسميا الخامس من هذا الشهر، أن يصطحب معه في رحلته إلى الفضاء ثلاثة أشخاص: أخيه الأصغر "مارك بيزوس"، ووالي فانك رائدة الفضاء الأميركية المتقاعدة ذات الـ 82 عاما، التي ستصبح برحلتها مع بيزوس أكبر الاشخاص سِنًّا الذين ذهبوا في رحلة إلى الفضاء. أما الثالث، فهو شخص لم يُفصَح عن هويته حتى لحظة كتابة هذه السطور، دفع مبلغا ماليا كبيرا للاشتراك في الرحلة، وهو مبلغ قالت "بلو أوريجن" إنها سوف تتبرَّع به لإحدى مؤسساتها لدعم التعليم المستقبلي. (1، 2، 3)

جيف بيزوس يتحدث أمام الجمهور، وراءه الكبسولة التي تُقِلُّ المسافرين، وصاروخ "نيو شيبرد" الذي سيحملها إلى الفضاء.

في كبسولة صغيرة تتسع لستة أشخاص على قمة صاروخ "نيو شيبرد" (New Shepard) العملاق الذي تُطوِّره شركة "بلو أوريجن"، سينتظر جيف بيزوس ورفاقه انتهاء العد التنازلي، بعد ذلك ستبدأ محركات الصاروخ في الانطلاق من المنصة بسرعة هائلة تصل إلى 3 أضعاف سرعة الصوت، حتى يصل إلى ارتفاع مُحدَّد تتحرَّر فيه الكبسولة من الصاروخ ليفترقا إلى مسارين مختلفين.

ففي الوقت الذي سيعود فيه الصاروخ "نيو شيبرد" أدراجه مرة أخرى للهبوط عموديا على منصّته بعد تأدية دوره، ستشق الكبسولة التي تضم المسافرين طريقها في رحلة طيران حرة على حافة الغلاف الجوي سوف تستغرق نحو 11 دقيقة فقط، تُتيح للمسافرين مشاهدة الكوكب الأزرق من أعلى، في حالة من انعدام الجاذبية، ثم العودة مرة أخرى إلى الأرض عبر خطة هبوط بسرعة مدروسة باستخدام مظلات هوائية عملاقة.

هذه الرحلة القصيرة ستكون أول رحلة بشرية تُطلِقها شركة "بلو أوريجن" للفضاء بعد تجارب عديدة، وهي تأتي بقيادة مؤسِّسها جيف بيزوس لسبب وجيه، وهو توجيه رسالة للجميع تدل على قوة الشركة في سباق الفضاء وضمان كفاءتها أمام منافسيها، خصوصا منافستها اللدود شركة "سبيس إكس" (SpaceX) التي يملكها رائد الأعمال إيلون ماسك، التي كانت بالفعل قد أطلقت رحلتها الأولى التي تضم مسافرين في مايو/أيار 2020. (1، 2، 3)

وعلى الرغم من تعدُّد المتنافسين في مجال غزو الفضاء، فإن هذا الحدث يُعيد تسليط الضوء مرة أخرى على قصة المنافسة الطويلة بين اثنين من أقوى رجال الأعمال والصناعة في العالم: جيف بيزوس من جهة، وإيلون ماسك من جهة أخرى، القصة التي تتداخل فيها المنافسة والثروة والطموح والتقنية والإبداع والأحلام الكبرى التي طالما بدت للكثيرين غير معقولة ومستحيلة التحقيق.

صورة تعود إلى عام 2004 لاجتماع جمع جيف بيزوس وإيلون ماسك لمناقشة الأفكار حول استعمار الفضاء  (مواقع التواصل)

في أحد أيام عام 2004، وعلى طاولة صغيرة متواضعة في مطعم في ولاية كاليفورنيا، اجتمع شابّان نحيلان يبدو عليهما التهذيب ليتناولا وجبة خفيفة ويتبادلا بعض الأفكار. كان كلٌّ منهما قد حقَّق شهرة كبيرة في ذلك الوقت، ولكن ليس لدرجة أن يزدحم المطعم بالمُعجبين أو يتهافت عليهما الناس لنيل توقيعاتهما، وهو ما سيحدث طوال الوقت لكلٍّ منهما فيما بعد.

على يمينك في الصورة، هناك الشاب الأربعيني النحيل خفيف الشعر صاحب الابتسامة القوية، أنت تعرفه اليوم بالطبع، إنه جيف بيزوس، أغنى شخص في العالم الآن بثروة تُقدَّر بـ 200 مليار دولار. عند التقاط هذه الصورة، كان قد مرَّ 10 سنوات على تأسيس شركته للتجارة الإلكترونية "أمازون"، التي سرعان ما تحوَّلت إلى واحدة من عمالقة الإنترنت بعد إدراجها في البورصة، مما رفع إجمالي ثروة بيزوس آنذاك إلى نحو 5 مليارات دولار.

على يسارك، الشاب الثلاثيني المبتسم في تواضع هو إيلون ماسك، الذي تبلغ ثروته الآن نحو 160 مليار دولار. في ذلك الوقت، كان ماسك قد انتهى من بيع حصة بقيمة 160 مليون دولار في شركة "باي بال" (Paypal) الذي كان أحد مؤسسيها، كما باع أيضا شركته الصغيرة "Zip2" بنحو 300 مليون دولار. لم تكن ثروة ماسك قد وصلت إلى المليارات بعد في ذلك الوقت.

لم يكن غرض هذا الاجتماع الثنائي هو التفاخر بكل ما يملكه كلٌّ منهما من مال طبعا، بل كان لهدف آخر غريب نوعا ما، وهو تبادل الأفكار حول طموح كلٍّ منهما في غزو الفضاء. كان بيزوس قد أطلق عام 2000 شركته الناشئة "بلو أوريجن" التي تُركِّز على نقل البشر إلى الفضاء، بينما كان ماسك قد أطلق شركته "سبيس إكس" عام 2002 للهدف نفسه. كانت كلتا الشركتين حينئذ مجرد مشروع ناشئ في طور الطفولة ولم يُحقِّق كلاهما أي إنجازات.

وعلى ما يبدو، وبعكس ما تُبديه الصورة، لم يكن هذا اللقاء ودِّيا بما يكفي، ففي كتاب "بارونات الفضاء: إيلون ماسك وجيف بيزوس وصراعهما لاستعمار الكون" الصادر عام 2018، قال ماسك لمحرر الكتاب إنه أخبر بيزوس أنه "يسير في الاتجاه الخطأ" بخصوص رؤيته لتنفيذ مشروعه الفضائي، وأن شركة "سبيس إكس" -التي يُمثِّلها إيلون ماسك- طرحت أفكارا عديدة على بيزوس، وصفها الأخير جميعا بأنها "غبية".

"في الواقع، بذلت قصارى جهدي لإعطائه نصيحة جيدة، ولكنه تجاهلها تماما"، هكذا قال إيلون ماسك واصفا اللقاء الذي جمعه مع بيزوس، الذي ظهرت صورته في مارس/آذار 2021 وتداولتها وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، حتى علَّق عليها ماسك نفسه قائلا: "من الصعب التصديق أن هذه الصورة كانت منذ 17 عاما". (4، 5، 6)

في عام 2001، كان إيلون ماسك، الكندي/جنوب الأفريقي/الأميركي (جنسية ثلاثية)، شغوفا بما هو أكبر من مجرد تأسيس شركات ناشئة ناجحة، حيث كان مهووسا باستعمار كوكب المريخ تحديدا. في تلك الفترة كان لديه فكرة مبدئية حول إمكانية بناء "واحة في المريخ" عبر إرسال سفينة فضاء تحتوي على بذور لثمار معينة يمكن زراعتها في تربة المريخ وأجوائه.

ظنَّ ماسك آنذاك أن فكرته هذه سوف تُشجِّع الكونغرس في الموافقة على تمويل وكالة ناسا (NASA) لإطلاق مهام متتالية إلى المريخ وتأسيس وجود بشري دائم هناك، لكنه قلَّل في تقديره لقيمة تكاليف الصواريخ التي ستُطلِق هذه المهام. كانت هذه النقطة بالتحديد هي السبب في تأسيسه لشركة "سبيس إكس" عام 2002 لتصميم صواريخ قابلة لإعادة الإطلاق أكثر من مرة، وبالتالي تقليل تكاليف مهام الفضاء بقدر كبير، وتسهيل مهمة الوصول إلى المريخ على المدى الطويل.

لقطة من فيلم "المريخي" تُوضِّح تصوُّرا قريبا من تصوُّر ماسك، بإمكانية استعمار المريخ عبر تأسيس واحات زراعية ذاتية الإنتاج (مواقع التواصل)

في الناحية الأخرى، لم تكن أحلام جيف بيزوس أقل طموحا من أحلام ماسك، لكن هوسه الأساسي طوال عمره كان مُتركِّزا في بناء "مستعمرات فضائية" (Space Colonies). هذا التصوُّر كان سببه تأثُّر بيزوس الشديد في طفولته ومراهقته بتصوُّرات الفيزيائي "جيرارد أونيل" (Gerard O’Neill) التي انتشرت مطلع السبعينيات، وتقول إن أفضل وسيلة لغزو الفضاء هو بناء مستعمرات متكاملة في الفضاء مزوَّدة بجاذبية صناعية وتدور حول محورها بسرعات مطابقة لسرعة دوران الأرض حول محورها، لخلق بيئة صناعية متماثلة تماما مع البيئة الأرضية.

بعد تأسيس "أمازون" والنمو السريع لثروة بيزوس، وبتشجيع من صديقه كاتب الخيال العلمي "نيل ستيفنسون"، أطلق بيزوس شركته الفضائية "بلو أوريجن" عام 2000 ليعود إلى مطاردة حلمه القديم الذي سيطر عليه منذ مراهقته، لدرجة أنه كان قد ألقى خطابا في المدرسة الثانوية ضمن الطلاب المتفوّقين، كان يعجّ بأحلامه حول الفضاء، أنهاه بعبارة مُلهمة قال فيها: "الفضاء، حائط الصدّ الأخير، قابلوني هناك!".

رسم تصوُّري لمبدأ مستعمرات الفضاء كما وضعه الفيزيائي جيرارد أونيل، مستعمرة فضائية مزوّدة بجاذبية صناعية تدور حول محورها بسرعات مطابقة لدوران الأرض.

في هذه المرحلة بدأ السباق، إيلون ماسك عينه على استعمار المريخ بديلا للحياة على كوكب الأرض الذي يواجه تحديات مناخية وسكانية خطيرة، وجيف بيزوس، في المقابل، عينه على بناء كيانات قابلة للحياة في الفضاء والقمر. هدفان وإن اختلفا فإنهما يتفقان في المعنى النهائي وهو "تسهيل عبور الحياة من كوكب الأرض إلى الفضاء"، كما يتفقان أيضا في أمر آخر، وهو حتمية "تقليل تكاليف السفر إلى الفضاء". (6، 7)

بعد تأسيس شركة "سبيس إكس" بواسطة إيلون ماسك بالتعاون مع مهندس الصواريخ توم مولر عام 2002، استمرت فترة تحضيرات الشركة عدة سنوات بهدف بناء أول نسخة من الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام (Reusable Launch system)، أي يمكن إعادة استخدامها عدة مرات، وبالتالي توفير ملايين الدولارات في كل عملية إطلاق جديدة. وأخيرا في عام 2008، تمكَّنت "سبيس إكس" أخيرا من إطلاق صاروخ "فالكون 1″، بعد ثلاث محاولات إطلاق فاشلة. لاحقا، أُحيل صاروخ "فالكون 1" إلى التقاعد، وبدأت الشركة في تطوير صاروخ "فالكون 9" المداري بإمكانيات أكبر.

وبحلول عام 2013، بدأت "سبيس إكس" في إطلاق أول مهمة تجارية لعميل خاص، ثم تمكَّنت في 2014 من انتزاع 9 عقود عالمية لمهام صاروخية وفضائية. وفي مطلع 2015، أعلنت الشركة عن برنامجها الطموح "ستار لينك" (Starlink) الذي يهدف إلى إطلاق كوكبة من الأقمار الصناعية حول الأرض لتوفِّر شبكة إنترنت فضائي فائقة السرعة. بنهاية العام، استطاعت "سبيس إكس" بنجاح إطلاق صاروخها "فالكون 9″، وإعادته مرة أخرى بالهبوط عموديا إلى قواعد إطلاقه على الأرض، وهو ما مَثَّل أهم خطوة في مسيرة الشركة لإطلاق صواريخ مدارية بحمولات كبيرة، ثم إعادة استخدامها في مهام لاحقة، بعد أن كانت هذه الصواريخ تتحطَّم في المحيطات أو تُستخدَم قطعَ غيار في أفضل الأحوال.

بعد أقل من عام، أعلن ماسك أن "سبيس إكس" بدأت رسميا في تطوير مركبة "ستارشيب" (Starship) بوصفها مشروعا لإطلاق رحلات فضائية خاصة قصيرة وطويلة المدى يدعم نقل البضائع والركاب ورواد الفضاء إلى الأقمار الصناعية والقمر وكوكب المريخ والكواكب الخارجية، ومن المتوقَّع إطلاق السفينة التجريبية الأولى لـ "ستارشيب" خلال العام الجاري 2021.

بحلول عام 2018، شاهد العالم كله نجاح تجربة اختبار صاروخ "فالكون الثقيل" (Falcon Heavy) الذي حمل السيارة الخاصة بإيلون ماسك إلى الفضاء باعتبارها حمولة وهمية. وبقدوم منتصف عام 2020، أطلقت "سبيس إكس" حاملتها الفضائية "Crew Dragon spacecraft" التي استطاعت بنجاح نقل اثنين من رواد الفضاء التابعين لوكالة ناسا إلى محطة الفضاء الدولية، لتصبح "سبيس إكس" أول شركة فضائية خاصة في التاريخ ترسل رواد الفضاء إلى المحطة الدولية.

سيارة تيسلا رودستر، السيارة الشخصية لإيلون ماسك، بعد أن حُملت على صاروخ فالكون الثقيل وتحرَّرت من الجاذبية، وفي الخلفية كوكب الأرض (مواقع التواصل)

أما بخصوص الخطط المستقبلية، فمن المرجَّح أن تُطلِق "سبيس إكس" رحلتها المحمَّلة بطاقم بشري للدوران حول القمر عام 2023 التي تهدف إلى إثبات قدرة "ستارشيب" على الذهاب إلى الفضاء البعيد. ومن المرجَّح أيضا أن تبدأ "سبيس إكس" في إطلاق رحلاتها التجارية إلى المريخ عام 2024، يتلوها رحلات بشرية ربما بقدوم عام 2026، مع خطط طموح لتأسيس مدينة على سطح المريخ خلال عقد الثلاثينيات من القرن الحالي، تتحوَّل إلى بيئة ذاتية الاستدامة بقدوم الخمسينيات، ليصبح المريخ كوكبا قابلا للحياة بقدوم القرن التالي على أقصى تقدير. (6، 8)

"النظام الشمسي يمكن أن يدعم وجود تريليون إنسان، مما يعني قد يكون لدينا 1000 موتسارت و1000 أينشتاين. تخيَّل أي حضارة رائعة وغير معقولة يمكن أن توجد".

(جيف بيزوس – فبراير/شباط 2019)

جيف بيزوس عام 2019 يكشف عن كبسولة الهبوط على القمر "Blue Moon" التي طوّرتها "بلو أوريجن" (مواقع التواصل)

على الناحية الأخرى، يُخطِّط جيف بيزوس مؤسِّس "بلو أوريجن" لشق طريقه إلى الفضاء من خلال تقليل تكلفة الرحلات الفضائية وزيادة أمانها، وهو ما سيُتيح للبشر، بشكل أكبر، استكشاف المجموعة الشمسية، وبناء مستعمرات قابلة للحياة. يمكننا القول إن مسيرة بيزوس الحقيقية في هذا المجال بدأت عام 2005 مع شروع "بلو أوريجن" في تطوير صواريخ تحت مدارية عمودية الإطلاق والهبوط يمكن إعادة استخدامها في أكثر من مهمة إطلاق.

استمرت رحلة التطوير نحو 10 سنوات، حتى أُعلِن في عام 2015 عن إطلاق النسخة الأولى من مركبة "نيو شيبرد 1" (New Shepard 1) التي وُصفت بأنها ناجحة جزئيا، وسُمِّيت المركبة بهذا الاسم تيمُّنًا برائد الفضاء الأميركي آلان شيبرد. في السنوات التالية، أطلقت "بلو أوريجن" عددا كبيرا من التجارب لتطوير المركبة، كان آخرها "نيو شيبرد 4" (New Shepard 4) التي أُطلقت في إبريل/نيسان من العام الحالي.

بالتوازي مع تطوير "بلو أوريجن" لصواريخ "نيو شيبرد"، كانت الشركة قد أعلنت عام 2016 أنها طوَّرت نسخة من المركبات المدارية الثقيلة أطلقت عليها اسم "نيو غلين" (New Glenn)، تيمُّنًا باسم رائد الفضاء الأميركي "جون غلين". في الأساس كان من المقرَّر أن يتم الإطلاق الأول لـ "نيو غلين" في 2020، ولكن عُدِّل الموعد للعام 2021، ثم استقرَّ على الربع الأخير من عام 2022 موعدا نهائيا لإطلاق الصاروخ الجديد.

صورة لصاروخ "نيو شيبرد" تحت المداري مُعاد الاستخدام، أطلقته "بلو أوريجن" عام 2016 (وسائل التواصل)

وبحلول عام 2019، أعلنت "بلو أوريجن" عن تطويرها لمركبة الهبوط على القمر "بلو مون" (Blue Moon). يُعَدُّ القمر تحديدا إحدى المحطات المهمة في مشوار غزو الفضاء، ليس بالنظر إلى فرص استعماره فقط، ولكن أيضا لدوره المُحتمَل بوصفه محطة إمداد وقود للصواريخ والمركبات الفضائية ومستعمرات الفضاء، مع إمكانية تعدين موارده وتحويلها إلى شكل من أشكال الوقود لتسهيل الوصول إلى مسافات أبعد في المجموعة الشمسية، وأيضا تسهيل إمكانية بناء مستعمرات فضائية. (6، 8)

في إطار مساعي كلٍّ منهما لتحقيق خطوات أكبر وأسرع من غريمه، شهدت المنافسة بين بيزوس وماسك على مدار سنوات طويلة سجالا لا يتوقف في عدة جبهات. بدأت ملامح هذا السجال تتخذ صورة صراع مباشر عام 2013 عندما حاولت "سبيس إكس" استخدام منصات وكالة ناسا الفضائية لإطلاق صواريخها خاصة، وهو الأمر الذي عطَّلته "بلو أوريجن" باعتراض رسمي، مع عرض جيف بيزوس أن تُحوَّل هذه المنصات إلى ميناء فضائي تجاري يشمل "شركات الإطلاق الفضائية كافة".

هذه الخطوة جعلت ماسك يتهم بيزوس بأنه يُحاول عرقلة نشاط "سبيس إكس"، قائلا إن شركته كانت الأسبق في تطوير صواريخ تحت مدارية مُعادة الاستخدام، متقدِّمة على "بلو أوريجن"، وبالتالي فإن من البديهي أن تحصل "سبيس إكس" على حق امتياز في استخدام قواعد صواريخ ناسا. لاحقا، انتزعت "سبيس إكس" الحق في استخدام منصات ناسا لصالحها بالفعل.

بقدوم عام 2014، انتقل الصراع إلى مجال آخر، حيث دخلت الشركات في معركة براءات اختراع، عندما مُنحت شركة "بلو أوريجن" براءة اختراع بخصوص إحدى الطائرات المسيرة "الدرونز" التي قالت إنها طوَّرتها، وتُستخدم في عملية الإنزال العمودي للصواريخ. تقدَّمت "سبيس إكس" بطلب قانوني لإبطال براءة الاختراع منعا للاحتكار، وبالفعل انتصرت "سبيس إكس" مرة أخرى، وسُحِبت حقوق براءة الاختراع من "بلو أوريجن".

امتد الاشتباك بين الطرفين أيضا إلى معارك التوظيف، ففي عام 2015 اتهم إيلون ماسك شركة "بلو أوريجن" بأنها تحاول خطف الموظفين الأكفاء من "سبيس إكس" لتوظيفهم لديها بضِعْف الرواتب التي يتقاضونها، قائلا إنه يعتقد أن هذه الحركة غير ضرورية "ووقحة إلى حدٍّ ما".

على المستوى الإعلامي، لا يكاد يمر بعض الوقت إلا وتظهر تصريحات حادة متبادلة بين الطرفين. فبعد أن تمكَّنت "بلو أوريجن" من إطلاق صاروخ "نيو شيبرد" الأول بنجاح في 2015، علَّق ماسك ساخرا أن "سبيس إكس" فعلت هذه الخطوة منذ 3 أعوام، مُقلِّلا من إنجاز "بلو أوريجن". كما سخر ماسك من بطء إنجازات منافسه قائلا إن السنوات المتبقية من عمر بيزوس (57 عاما) لن تكفي حتى يستطيع أن يشهد تحقيق أحلامه إذا استمرَّت شركته في السير بهذا المعدل البطيء في تحقيق أهدافها.

من ناحية أخرى، وعلى الرغم من تحفُّظ جيف بيزوس عن إطلاق تصريحات عنيفة، فإنه انتقد -بسخرية غير مباشرة- طموح ماسك لاستعمار المريخ، قائلا إن فكرة الوصول إلى المريخ "ليست مُحفِّزة"، مُردفا: "اذهب وعش على قمة جبل إيفرست لمدة عام، ودعنا نرَ إن كنت ستتحمَّل الحياة هناك، لأن هذا المكان يُعتبر جنة إذا قورن بأجواء المريخ". وفي لقاء آخر، أعاد بيزوس الإشارة إلى أن طموح ماسك لاستعمار المريخ "بعيد جدا جدا".

ولكن رغم هذه التصريحات العنيفة والمنافسة المحتدمة، سيكون على الشركتين التعاون معا بعد أن اختُيرا في مشروع "أرتيميس" للرحلات الفضائية الذي أطلقته ناسا بالتعاون مع عدد كبير من شركات الفضاء العالمية، الذي سيشهد الإنزال البشري لأول امرأة وثاني رجل على سطح القمر عام 2024، ووضع الأساس لوجود بشري طويل الأمد على سطح القمر ومداره بحلول عام 2028. (9)

للوهلة الأولى، وعند إلقاء نظرة عامة على المنافسة بين ماسك وبيزوس، ربما يبدو الأمر مجرد صراع تقني في الأساس للوصول إلى أهداف إبداعية في مجال الفضاء. ولكن في حقيقة الأمر، فإن النظرة المدقِّقة في هذا السباق تُخبرك بأنه يشمل وجها إداريا أيضا. وبحسب ما أوردته فوربس في تقرير تحليلي نُشر عام 2019، فإنّ هناك 4 صفات إدارية أساسية تُبرز الاختلاف بين عقليتَيْ الرجلين وتُحدِّد طريقة كلٍّ منهما في الإدارة عموما، وطريقة إدارتهما للمنافسة في مشروعهما الفضائي خصوصا.

أول اختلاف في العقلية الإدارية لكلٍّ من بيزوس وماسك هو الأساس الذي يتحرَّك كلٌّ منهما بناء عليه. من جانبه، يُعرَف بيزوس، أثرى أثرياء العالم، بأنه رائد مبدأ "العميل أولا"، أو كما يُردِّد دائما: "ابدأ بتحديد احتياجات العميل، ثم تحرَّك بناء عليها". هذا المبدأ يعني أن تدرس السوق جيدا، ومن ثم ابدأ في صياغة أهداف واقعية متوافقة تماما مع متطلبات السوق المستقبلية.

في الجهة الأخرى، يعتنق إيلون ماسك مبدأ "التكنولوجيا أولا". العميل لا يعرف بالضرورة ما يريده بالضبط، والدور الأساسي للشركات الإبداعية هو فتح طُرق جديدة لأسواق جديدة طوال الوقت تُجبِر العملاء على الدخول فيها لتحسين حياتهم. هذه الفلسفة قريبة من رؤية "ستيف جوبز" مؤسس شركة "أبل" الراحل، الذي كان يعتقد دائما أنه يعرف أكثر مما يعرفه العملاء، ويعرف ما الذي يحتاجون إليه في المستقبل قبل حتى أن يُظهِروا رغبتهم فيه.

الاختلاف الثاني يتعلَّق بالتصريحات والإفصاح عن الأهداف. جيف بيزوس -باعتباره يُركِّز على العميل أولا- فهو من أنصار المدرسة الهادئة المُتحفِّظة قليلة التصريحات خفيضة الصوت، ونادرا ما يُفصح عن أهداف مرحلية إلا بعد التأكُّد تماما من إقدامه على هذه الخطوة ونجاحها بالفعل، لاكتساب ثقة عملائه. على العكس من إيلون ماسك، المعروف بإثارته للضجيج، وهوسه بالإعلان عن اختراقات تقنية ثورية جديدة يعمل عليها بهدف جذب انتباه المزيد من العملاء المستقبليين، وبالتالي جذب المزيد من الموارد المالية والكفاءات إلى شركاته.

أما الاختلاف الثالث فهو يتعلَّق بسرعة الإنجاز، وهو ما يُشبِّهه البعض بسباق السلحفاة والأرنب. جيف بيزوس هنا يلعب دور السلحفاة التي تتبع مبدأ "ببطء ولكن بثقة" (Slowly But surely)، فمنذ اللحظة الأولى لإطلاق شركته "بلو أوريجن" صرَّح أنها تسعى خطوة بخطوة لتحقيق أهداف إستراتيجيتها طويلة المدى بصبرٍ وتأنٍّ. وعلى العكس تماما، يسعى ماسك طوال الوقت لتحقيق قفزات كبرى تُركِّز على الاختراقات التقنية السريعة، كما ظهر في رسالته عند تأسيس شركة "تيسلا" للسيارات الكهربائية، التي ذكر فيها أن تحقيق أهداف الشركة للسيطرة على سوق السيارات الكهربائية يقتضي تحقيق "قفزات تقنية كبيرة" يجب الوصول إليها سريعا.

يمكن القول إن بيزوس يسمع من فريقه ويُنفِّذ بناء على رؤيتهم وأفكارهم، بينما ماسك يسمعه فريقه ويُنفِّذون رؤيته وأفكاره وفقا لخبراتهم.

أخيرا، يمكن وصف الاختلاف الرابع بينهما بأنه اختلاف في طريقة إدارة الفريق، فمن المعروف مثلا أن جيف بيزوس هو آخر مَن يتكلَّم في أي اجتماع يحضر فيه، ويُفضِّل أن يستمع إلى الآراء كافة دون أن يؤثِّر في اتجاهات المتحدِّثين. كما أنه معروف أيضا بتفويض المهام الإدارية وتشجيع فِرَق العمل على إنتاج الأفكار وربما تنفيذها، حتى لو لم يكن هو نفسه مقتنعا بها بما يكفي.

بالنسبة لإيلون ماسك فالأمر أقرب إلى تحديد أهداف واضحة يعمل عليها أفراد الفريق كافة بكثافة، كلٌّ بحسب دوره وبأعلى كفاءة ممكنة، دون ترك مجال لأفكار جانبية قد تُشتِّت الوقت والمجهود على حساب الوصول لتحقيق الأهداف المحددة. بمعنى أوضح، يمكن القول إن بيزوس يسمع من فريقه ويُنفِّذ بناء على رؤيتهم وأفكارهم، بينما ماسك يسمعه فريقه ويُنفِّذون رؤيته وأفكاره وفقا لخبراتهم. (10)

في النهاية، وبغض النظر عن احتدام المنافسة بين الخصمين لمستويات تصل إلى العداء أحيانا، فإنه يمكن القول إن مقولة "المنافسة تُولِّد الإبداع" تُلخِّص السباق المحتدم نحو الفضاء بين الشركتين الطموحتَيْن اللتين يملكهما اثنان من أغنى أغنياء العالم، وهذه المنافسة المحمومة كانت سببا مهما في تحقيق اختراقات تقنية كبيرة من المؤكَّد أنها ستُثري خطط استعمار الفضاء في العقود المُقبلة.

__________________________________________________________

المصادر:

  1. Jeff Bezos and his brother, Mark, will travel to space on Blue Origin’s first human flight on July 20
  2. Jeff Bezos’s Blue Origin says it will take a civilian to space in July
  3. Jeff Bezos is going to space for 11 minutes. Here’s how risky that is
  4. The Space Barons: Elon Musk, Jeff Bezos, and the Quest to Colonize the Cosmos 
  5. A Rare Photo Shows Elon Musk and Jeff Bezos Having Dinner 17 Years Ago, Before Their Longstanding Feud Ignited 
  6. Elon Musk and Jeff Bezos have profound visions for humanity’s future in space. Here’s how the billionaires’ goals compare.
  7. Jeff Bezos foresees a trillion people living in millions of space colonies. Here’s what he’s doing to get the ball rolling.
  8. ـJeff Bezos will fly aboard blue origin’s first human trip to space
  9. Jeff Bezos is heading to space, and he’s doing it before his main rival, Elon Musk. It’s the latest development in a 15-year feud between 2 of the world’s most powerful CEOs.
  10. Leading Like Jeff Bezos Or Elon Musk: Lessons From Their Contrasting Styles
المصدر : الجزيرة