شعار قسم ميدان

"طبيعي" و"بدون مواد حافظة".. هل نحن مصابون بالفوبيا من المكونات الكيميائية؟

Healthy vegan food. Fresh vegetables on wooden background. Detox diet. Various colorful fresh juices.
يتجه البعض للتطرف في علاقته بالمواد الكيميائية بشكل عام، حيث بات يروّج بأن كل المواد المصنوعة مضرة بشكل أو بآخر، في ظاهرة باتت تُعرف بـ"رهاب المواد الكيميائية" أو "كيموفوبيا". (شترستوك)

في عام 1958، تلقت "راشيل كارسون" رسالة من صديق لها يعيش في ولاية ماساتشوستس يحكي كيف تتساقط الطيور من على الأشجار وتلقى حتفها في مستنقع مجاور له بسبب المبيدات الحشرية التي تحتوي على مادة الـ"دي دي تي (DDT)"، في تلك اللحظة، بدأت عالمة الأحياء، التي سبق لها العمل في مصائد الأسماك، وتمتعت بحس أدبي رفيع، مسيرة بحثها الذي استمر نحو 4 سنوات عن هذه المادة، لتُخرج في النهاية إلى النور كتابها الشهير "الربيع الصامت"، الذي ورغم كونه كتابا ذا طابع علمي، فإن فصوله حملت عناوين أدبية جذابة على شاكلة: "ما الذي أَخْرس أصوات الربيع؟".

 

عبّرت راشيل في كتابها بحس أدبي بديع عن الخطر الذي يهدد الحياة بسبب مادة "دي دي تي" التي تقتل الأسماك والطيور والأزهار بل وتتسلل إلى غذاء البشر، لتتبناه حركات بيئية ويثير جدلا واسعا انتهى بحظر استعمال المادة رسميا عام 1972(1).

 

آتت الحملة أُكلها إذن، وتوقفت الشركات عن استعمال "دي دي تي"، وكان بين نتائج جهود راشيل كارلسون وتأثير مؤلفاتها الحديث عن البنزين الخالي من الرصاص، وقانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة، لكن وبينما يسعى العالم ليصبح "أكثر نقاءً"، كان البعض يتجه للتطرف في علاقته بالمواد الكيميائية بشكل عام، حيث بات يروّج بأن كل المواد المصنوعة مضرة بشكل أو بآخر (2)، في ظاهرة باتت تُعرف بـ"رهاب المواد الكيميائية" أو "كيموفوبيا" (Chemophobia).

مستهلكون مرتبكون

Happy Couple Buying Food In Supermarket, Choosing Products Standing With Trolley Cart Along Aisles And Full Shelves Purchasing Groceries Essentials Together. Smiling Spouses Holding Jar Of Sause
إن اعتقادنا بأن كل ما هو طبيعي أفضل هو اعتقاد ينطوي على مغالطة، فكلمة "طبيعي" لا تعادل كلمة "صحي". (شترستوك)

خلال العقود القليلة الفائتة، بدأ الناس يعتقدون بوجود جيش من السموم يغزو أجسامهم، وحتى مع تواتر الأدلة التي تشير إلى أن المواد الصناعية التي تدخل في صناعة أغذيتنا آمنة، ظل كثيرون يفضلون البدائل الطبيعية، من أعشاب أو مواد أخرى مستخلصة من النباتات، باعتبارها أقل ضررا من أي منتج صناعي (3).

 

لكن هذا التوجه يتجاهل حقيقة أن حياتنا تغيرت نحو الأفضل بسبب الأدوية واللقاحات والمواد الحافظة التي أبقت غذاءنا صالحا لفترات أطول وسمحت بنقله لمسافات طويلة، وعلى الرغم من وجود لوائح وقوانين صارمة في كل أنحاء العالم تحد من تعرضنا للمواد الكيميائية الخطيرة وتختبر كل المنتجات الجديدة قبل اعتمادها أكثر من أي وقت مضى، فإن الخوف ما يزال قائما من كل ما هو كيميائي (4).

 

في المقابل، اطمأن البعض لكل ما هو طبيعي حتى لو كان مضرا، بحيث يمكن لأحدهم أن يستلقي باطمئنان تحت أشعة الشمس على الشاطئ دون وضع واقي الشمس، متجاهلا الضرر البالغ للأشعة فوق البنفسجية التي تعتبر السبب الرئيسي لسرطان الجلد، بينما يفكر مليا في مخاطر لم تثبت بعدُ لإشارات الإنترنت مثلا أو شبكة الهاتف الجوال (5). إن الإسراف في ميلنا نحو الطبيعية، أو ما يُطلق عليه البيوفيليا، أحد العوامل التي تزيد الخوف من المواد الكيميائية. يمنحنا الاتصال بالطبيعة شعورا بالرضا ويخفض مستويات التوتر والقلق، فنرفض أحيانا كل ما لا يبدو طبيعيا تماما، ويغذي الجهل ونقص المعلومات هذا الخوف، فنتبنى – دون وعي – سلوكيات ربما تكون مضرة (6).

 

على سبيل المثال، آمن بعض الناس أن جرعات صغيرة وتمتلك كمّا ضئيلا جدا من الأعراض الجانبية، من الزئبق أو المعادن الأخرى الموجودة في اللقاحات، قد تضر بأطفاله أكثر من خطر الأمراض المعدية (7)، فآثر ألا يسمح بتطعيم أطفاله، ومن ثم عرّضهم لخطر الإصابة بفيروس أو بكتيريا قد تكون قاتلة. إن اعتقادنا بأن كل ما هو طبيعي أفضل هو اعتقاد ينطوي على مغالطة، فكلمة "طبيعي" لا تعادل كلمة "صحي"، كما أنها ليست مضادا لكلمة "كيميائي"، والأهم أن هذا الاعتقاد أدى إلى أن تصبح عقولنا أرضا خصبة للدعاية التي تزيد خوفنا وتوهمنا بتقديم منتجات بديلة تحمينا (8).

 

"من الطبيعة".. استثمار الجهل

ينتقل "رهاب الكيماويات" إلى مستحضرات التجميل أيضا، حيث يريد المستهلكون ما هو طبيعي على الرغم من التناقض الواضح في آرائهم حول فعالية المستحضرات "الطبيعية"
ينتقل "رهاب الكيماويات" إلى مستحضرات التجميل، حيث يريد المستهلكون ما هو طبيعي على الرغم من التناقض الواضح في آرائهم حول فعالية المستحضرات "الطبيعية". (شترستوك)

في عالم اليوم، أصبحت الملصقات الخضراء التي تحمل كلمات مثل "طبيعي 100%" و"بدون مواد حافظة" و"لا يحتوي على نكهات صناعية" و"بدون ألوان صناعية أو إضافات"، كافية لضمان ثقتنا في المنتجات التي تحملها، على الرغم من أننا في الحقيقة نخضع لتلاعب الشركات والمعلنين بنا.

 

تغذي الشركات خوفنا من كل ما هو صناعي، وتستثمر هذا الخوف بمزيد من المنتجات التي "تحمينا من الخطر المحدق"، هكذا يجد "الزبادي الطبيعي" و"الشامبو الخالي من البارابين والسلفات" طريقا ممهدا نحو منازلنا، دون وجود ما يؤكد كون هذه المنتجات أكثر أمانا، إذ يبقى السؤال: ما المواد البديلة التي دخلت في مكونات تلك المنتجات البديلة؟ (9)

 

في عام 2015، نشرت مجلة "Consumer Reports" نتائج استطلاع أجرته على مئات المستهلكين بشأن الملصقات التي تحمل علامة "طبيعي"، ليجيب نحو 62% منهم بأنهم يُقبلون بالفعل على شرائها، لكن بالسؤال عما تعني لهم الكلمة، أشار ما يقرب من ثلثي المشاركين إلى اعتقادهم بأن "طبيعي" تعني أكثر مما تعنيه في الحقيقة، إذ رأى أغلبهم أن جهة محايدة هي من تحققت من صحة الوصف على الملصق، وهو ما لم يحدث بالطبع.

 

كما اعتقد أكثر من 80% من المشاركين أن الكلمة تعني عدم استخدام أي مواد كيميائية أثناء معالجة المنتج، وعدم احتوائه على مكونات أو ألوان صناعية، وأنه مكون من مواد غير معدلة وراثيا، وأكد ما يقرب من 90% منهم استعدادهم لدفع سعر أعلى نظير تلك العلامة. لقد أساءت الشركات استخدام هذه الكلمات، حيث نَفَذت من ثغرات اللوائح والقوانين لتقدم لنا منتجات نظن نحن المستهلكين أنها غير معالجة، رغم أن احتواء المنتج على أكثر من 5 مكونات يعني بالتأكيد أنه شديد المعالجة (10).

 

ينتقل "رهاب الكيماويات" إلى مستحضرات التجميل أيضا، حيث يريد المستهلكون ما هو طبيعي على الرغم من التناقض الواضح في آرائهم حول فعالية المستحضرات "الطبيعية". في استطلاع أجرته الرابطة الوطنية للعطور ومستحضرات التجميل الإسبانية، رأى 59% من المشاركين أن مستحضرات التجميل "الطبيعية" لا تعمل بشكل أفضل من غيرها، وكان نحو 19% من المستهلكين ينقلون عاداتهم الغذائية إلى مستحضرات التجميل، ويرون أنهم "لن يضعوا أي شيء على أجسادهم طالما أنهم لا يستطيعون تناوله" (11).

 

كل هذه السموم.. طبيعية أيضا

أكثر المواد سُمّية قادمة من الطبيعة أيضا، مثل أغلب أنواع عيش الغراب والزرنيخ، إنها طبيعية تماما، وجرعات صغيرة منها قادرة على قتل من يتناولها
أكثر المواد سُمّية قادمة من الطبيعة، مثل أغلب أنواع عيش الغراب والزرنيخ، إنها مواد طبيعية تماما، لكن جرعات صغيرة منها قادرة على قتل من يتناولها. (شترستوك)

يمكننا الحديث عن مواد كيميائية بعينها تسبب لنا الحساسية مثلا ونود تجنبها، لكن سوى ذلك لا يمكن اعتبار المواد الكيميائية مضرة في حد ذاتها، يمكن الحديث عن عشرات المواد الكيميائية التي لا يبدو اسمها مألوفا لك في الغالب تتواجد في منتجات طبيعية تماما، هناك ماء وسكر وجلوكوز وفركتوز وسكروز ومالتوز ونشا وأحماض أمينية وحمض جلوتاميك وحمض أسبارتيك وهيستيدين في ثمرة واحدة من الموز (12).

 

في المقابل، تحتوي الطبيعة أيضا على الكثير من المكونات المُضرة، مثل البكتيريا والفيروسات القاتلة، ناهيك بكون أكثر المواد سُمّية قادمة من الطبيعة أيضا، مثل أغلب أنواع عيش الغراب والزرنيخ، إنها مواد طبيعية تماما، لكن جرعات صغيرة منها قادرة على قتل من يتناولها. نحن لا نحتاج إذن إلى مختبر كيميائي للحصول على أقوى السموم.

 

كما أن أمر السمية تتوقف في النهاية على الجرعة المناسبة، تناول 7 لترات من الماء مثلا خلال فترة قصيرة يمكن أن يكون قاتلا، في كوب من بذور التفاح هناك مقدار من السيانيد الطبيعي يكفي لقتل إنسان بالغ، وتناول 200 جرام من الملح كافية لقتل من يتناولها أيضا، وكذلك يمكن أن تفعل القهوة إذا شرب أحدهم 100 كوب في جلسة واحدة (13).

 

كان الطبيب "پاراسيلسوس" قد كتب عن هذا في القرن السادس عشر مدافعا عن استخدامه الزئبق والأفيون أحيانا في العلاج، قائلا بأن كل ما حولنا يحمل سُمّا وأن الأمر يتوقف على الجرعة، وأصبحت هذه عقيدة أساسية لعلوم السموم: "الجُرعة هي التي تصنع السُّم"، لقد دخلت بعض المواد الكيميائية من الأساس إلى غذائنا لتجعله أكثر أمانا ولتمد صلاحيته لفترة أطول، وتجعله يحتفظ بنكهته ولونه وملمسه طوال تلك الفترة فيمكن نقله بين المدن والدول (14).

 

على سبيل المثال، يستخدم حمض الأسكوربيك "فيتامين سي" القابل قابل للذوبان في الماء، في حفظ الأغذية مثل الخبز والعصائر والحبوب والخضروات المعلبة، ويمكن الحصول عليه بأحد طريقين: من مصادر طبيعية مثل الفواكه والخضروات، أو بصناعته في المختبرات، في الحالتين نحصل على المركب نفسه، غير أن صناعته تكون أقل تكلفة، وهذا المثال ينطبق على العديد من المواد التي تُستخدم في صناعات الأغذية أو صناعة الأدوية وتظل خيارات صحية لكن إنتاجها في المختبرات يكون أسرع وأقل تكلفة بما يسمح بإنتاج الكمية الكافية لاحتياجات السوق (15).

 

في النهاية، ربما يجدر بنا أن نؤكد أن تصحيح هذا المفهوم الخاطئ بشأن المواد الكيميائية المحيطة بنا، مع زيادة المعرفة بالكيمياء وعلم السموم ربما تُمكّننا من تقييم المخاطر الكيميائية بطريقة أكثر عقلانية وتقديرها بما يتناسب مع حجمها الحقيقي، واتخاذ قرارات ذكية بشأن غذائنا وكل المستحضرات التي نستخدمها لنتجنب تلاعب الشركات ونحفظ أموالنا من الإهدار (16).

——————————————————————————-

المصادر:

  1. "الربيع الصامت": كيف انتصر كتاب على مادة "دي دي تي"؟
  2. ‘Chemophobia’ is irrational, harmful – and hard to break
  3. Quimiofobia: los riesgos de temer en exceso a los químicos artificiales
  4. QUIMIOFOBIA O LA INCOMODIDAD DE LO IMPERCEPTIBLE
  5. Quimiofobia: los riesgos de temer en exceso a los químicos artificiales
  6. QUIMIOFOBIA O LA INCOMODIDAD DE LO IMPERCEPTIBLE
  7. Quimiofobia: los riesgos de temer en exceso a los químicos artificiales
  8. ‘La ignorancia y la falta de información son los grandes aliados de la quimiofobia’
  9. La quimiofobia, la “absurda moda” que indigna a los científicos
  10. Despegando la etiqueta de ‘Natural’
  11. Quimiofobia: esto es lo que dicen expertos en cosmética sobre el miedo a los químicos
  12. Chemophobia’ is irrational, harmful – and hard to break
  13. La quimiofobia, la “absurda moda” que indigna a los científicos
  14. علم السموم: مُنحنى التعلُّـم
  15. Quimiofobia: ¿es mejor natural que sintético?
  16. ‘Chemophobia’ is irrational, harmful – and hard to break
المصدر : الجزيرة