شعار قسم ميدان

جوانب خفية من مصر القديمة.. كيف كشفت التكنولوجيا الحديثة أسرار الفراعنة؟

An Egyptologist or archaeologist reads and translates Egyptian hieroglyphs carved in stone
تطورت علوم الآثار مؤخرا وتلاقت مع الطب والكيمياء والفيزياء لتصنع لنا عالما ثلاثي الأبعاد عن أشياء حدثت قبل ألفين أو ثلاثة آلاف أو حتى خمسة آلاف سنة. (شترستوك)

مقدمة للترجمة:

يظن البعض أن علم الآثار يتعلق فقط بدراسة النصوص القديمة والمباني وما رُسم عليها من صور لحياة الناس قبل آلاف السنين، لكن ذلك في الواقع غير دقيق، إذ تطورت علوم الآثار مؤخرا وتلاقت مع الطب والكيمياء والفيزياء لتصنع لنا عالما ثلاثي الأبعاد عن أشياء حدثت قبل ألفين أو ثلاثة آلاف أو حتى خمسة آلاف سنة، عبر استخدام طرائق التصوير المحوسب، يضيف هذا النوع من التداخل بين المنهجيات الكثير من الصرامة إلى نتائج الكشوف الأثرية، لكنه لا يخلو من اللا يقين. جو ميرشانت، الصحفي من "نيوساينتست"، يشرح لنا في هذه المادة كيف غيَّرت بعض تلك التقنيات ما نعرفه عن المصريين القدماء.

 

نص الترجمة:

قبل نحو قرن من الآن، افتتح عالم الآثار الإنجليزي هوارد كارتر مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون التي كانت تستكين في حضن الهدوء وتُغلَق الأبواب على أسرارها، واكتشف أنها تزدان بمجوهرات مُزخرفة، وتحمل بين طياتها أثاثا جميلا، وملابس فاخرة، فضلا عن قناع الوجه الذهبي الشهير. كان كل شيء منسجما مع طقوس الدفن الملكي في أكثر العصور ازدهارا في تاريخ مصر القديمة، بدت جميع الأشياء متناسقة باستثناء شيء واحد فقط كان متواريا وراء أربطة المومياء، وهو خنجر ظهر وكأنه في غير محله.

 

ولأن طبيعة الإنسان تنجذب بقوة إلى السعي لمعرفة الأشياء التي يحفها الغموض، حاول كارتر استكشاف هذا الخنجر، وتبين أن المشكلة لم تكن في غلافه الذهبي، بل في شفرته المصنوعة من الحديد اللامع، وهو معدن لم يتعلم المصريون صهره إلا بعد قرون من وفاة الملك توت عنخ آمون، لذا افترض كارتر أن الخنجر ربما تم استيراده من الإمبراطورية الحيثية القديمة في الأناضول، وهي إمبراطورية اشتهرت بصناعتها المُبكرة للحديد. غير أن نظرية كارتر -التي افترضت أن الحديد صُنع في مناطق أبعد بكثير من مصر القديمة- لم تجد برهانا إلا في عام 2016، وبالفعل تأكدت النظرية حينها، واكتشف الباحثون أيضا أن هذا الخنجر ينطوي على مستويات عالية من النيكل المرتبط بالحديد النيزكي.

Howard Carter (1873-1939). English Archaeologist. Carter And An Egyptian Assistant Examining The Sarcophagus Of King Tutankhamen, Found During The Excavation Of His Tomb In The Valley Of The Kings, Egypt, October 1925. Photographed By Harry Burton.
"هوارد كارتر" عالم الآثار الإنجليزي ومساعد مصري يفحصان تابوت الملك توت عنخ آمون، عثر عليه أثناء التنقيب في قبره في وادي الملوك، مصر، أكتوبر 1925. تصوير: هاري بيرتون. (شترستوك)

ما يميّز هذا الاكتشاف ويجعله حدثا يستثير الاهتمام والفضول هي الطريقة التي اتبعها العلماء لتحليل هذا الخنجر دون إتلافه باستخدام الأشعة السينية. وتُعَدُّ هذه العملية مؤشرا على نهج جديد في علم المصريات يُشدد على الحفاظ على الآثار من التدمير، حيث أصبح بإمكاننا الآن دراسة المومياوات دون فك أغلفتها، بل والأهم من ذلك هو قدرتنا على خلق مناظر طبيعية افتراضية للموجودات قبل آلاف السنين مع الحفاظ على القطع الأثرية سليمة للأجيال القادمة. لطالما تسللت هذه الاكتشافات إلى وجدان كارتر كالأحلام البعيدة التي تحفر سراديبها في أعماقه.

 

قد تعتقد أن المسح الضوئي للمومياء تقنية جديدة لم تعلن عن نفسها سوى مؤخرا، لكن الحقيقة أن الأشعة السينية اكتشفها العلماء لأول مرة عام 1895، وبعد بضع سنوات في عام 1903، نقل كارتر جثة الفرعون تحتمس الرابع البالغة من العمر 3300 عام من المتحف المصري على ظهر عربة تجرها خيول إلى مشفى قريب يتمتع بالتكنولوجيا الحديثة لتصوير الجثة بالأشعة السينية. لكن في العقود الأخيرة، انبعثت في صدور علماء الآثار آمال جديدة لما طرأ من تغيرات كبيرة في طريقة استخدامهم للأشعة السينية. فبعدما ظلت أعينهم لأزمنة طويلة تنقب في الظلمات عن بارقة أمل، بات من اليسير عليهم الآن الوصول إلى أجهزة التصوير المقطعي المحوسب عالية الدقة، التي تُطلِق الأشعة السينية من زوايا متعددة لإنتاج صورة ثلاثية الأبعاد للبنية الداخلية للكائن، ما يسمح بفحصه وتحليله جيدا قبل أن يغطيه الزمن برداء النسيان.

 

الاختراق الرقمي للمومياوات

في عام 2021، أعلن زاهي حواس، وزير الآثار المصري السابق، بالتعاون مع سحر سليم، وهي دكتورة جامعية مُتخصصة في علم الأشعة بجامعة القاهرة، عن "فك أغلفة مومياء أمنحتب الأول رقميا" باستخدام التصوير المقطعي المُحوسب، وأمنحتب هو الفرعون الذي حكم مصر قبل توت عنخ آمون بقرنين، أي نحو عام 1500 قبل الميلاد. الأمر المؤسف أن قبر الملك قد سبق وتعرض للنهب في العصور القديمة، وغاص في غموض شامل كأنه تاريخ قديم بلا وثائق. لكن بعد عدة أجيال، أنقذ الكهنة جسد الفرعون وأعادوا دفنه ليصونوه من شوائب الزمن قبل أن يترصده الضياع والفناء. وبعد أن توارى الجسد عن البصر أزمنة طويلة، اكتشفه المنقّبون فيما بعد في أواخر القرن التاسع عشر، وحفظوه بصورة جميلة داخل تابوت يحمل بين طياته أكاليل الزهور.

أظهرتْ فحوصات التصوير المقطعي التي أجراها كلٌّ من حواس وسليم أن المومياء أُعيد ترميمها بعناية، وكشفوا أيضا عن 30 قطعة من الذهب والكوارتز والمجوهرات بأشكال وألوان مختلفة، بالإضافة إلى حزام يتألف من 34 خرزة ذهبية. كان ذلك اختراقا كبيرا، خاصة إذا علمنا أنه عندما حلل كارتر وفريقه مومياء توت عنخ آمون في عام 1925، فقد أجروا هذه العملية جراحيا، وقسموا الجسد إلى أجزاء منفصلة لفحصها واكتشاف ما بداخلها. لكن الوضع تغيّر الآن كما قال حواس: "بفضل التقنيات الحديثة، أصبح بإمكاننا الآن كشف الستار عن وجه المومياء، بل ويمكننا أيضا أن نُظهِر لك التمائم الذهبية التي وجدناها في الداخل دون المساس بها"، وكأن هذه العملية المذهلة تتوسط العلاقة بين الماضي والحاضر عن طريق تجميد لحظة من عمر الزمن.

 

بالطبع قد يفشل المسح الضوئي في توليد الإحساس نفسه بالتجارب التي يحصّلها الإنسان بنفسه وحواسه، كتلك اللحظة التي تتقد فيها أعيننا ويعترينا إحساس بالذهول والرهبة بمجرد رؤيتنا لشيء موجود منذ قديم الأزل في صورته الحقيقية. لكن العديد من الباحثين قرروا حاليا أخذ خطوة أبعد من مجرد التصوير المقطعي، وبدأوا في استخدام البيانات التي أظهرها المسح الرقمي، لإعادة خلق المشاهد في صورة مادية نابضة بتفاصيل رائعة باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد. يمكن اعتبار هذه العملية جسرا ممهدا يعبره عوام الناس ليصلوا إلى أسرار الماضي التي أخضعتها التقنيات الحديثة أخيرا للاستيعاب والتفسير. في عام 2010، عندما رأى الخبراء أن مومياء توت عنخ آمون أضعف وأشد هشاشة من أن تسافر لحضور أحد المعارض السياحية الدولية المتجولة، قرر المسؤولون طبع نسخة ثلاثية الأبعاد من مومياء الملك لتكون هناك في المعرض، التي بدت حينها حقيقية وواقعية للغاية.

 

الجميل في الأمر أن عملية خلق نُسَخ طبق الأصل لأجزاء الجسم التي يتعذر علينا الوصول إليها يمكن أن تساعد أيضا في الدراسات العلمية. في عام 2018، خرج الباحثون بنسخة ثلاثية الأبعاد لقلب إحدى المومياوات، وكانت غايتهم من ذلك كله هو فهم كيف تعامل معها المُحنِّطون. وفي عام 2021، طبع علماء المصريات في مانشستر بالمملكة المتحدة نُسَخا لعظام ثلاثية الأبعاد أُجري عليها مسح ضوئي، للتعرف على أنواع العظام الموجودة داخل بعض مومياوات الحيوانات المصرية القديمة. استخدم كامبل برايس، أمين قسم آثار مصر والسودان في متحف مانشستر، هذه التقنية لإعادة خلق المزيد من المشاهد التي لطالما توارتْ عن الأنظار، ليُسفر مسعاه عن مشهد لأربع جماجم لتماسيح قديمة. يقول برايس معلِّقا على ذلك: "لم تكن لتتمكن أبدا من بلوغ هذا المطلب العسير برؤية أشياء كهذه أو حتى التعامل معها مع التقنيات السابقة، ولكن خلال بضعة أجيال فقط، تحدث تغييرات ما كان لأحد أن يتخيلها، وبالفعل تبدل الوضع الآن وأصبح بإمكانك أن تشهد على ذلك كله باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد".

Medical radiology technicians prepares a CT scan to do a radiological examination of an Egyptian mummy in order to investigate its history at the Policlinico hospital in Milan, Italy, June 21, 2021. Picture taken June 21, 2021. REUTERS/Flavio Lo Scalzo
فحص بالأشعة المقطعية لمومياء مصرية من أجل التحقيق في تاريخها في مستشفى بوليكلينيكو في إيطاليا. (رويترز)

يقول إنريكو فيراريس، عالم المصريات وأمين المتحف المصري في تورين بإيطاليا، إن التكنولوجيا الجديدة يمكنها أيضا أن تساعدنا على رؤية الحياة في مصر القديمة رؤية مختلفة، مشيرا إلى أن الخبراء على مر العصور ظلوا رازحين تحت وطأة النظرة التقليدية تجاه الأشياء، فلم يستثر انتباههم شيء أكثر مما فعلت النصوص المكتوبة فقط، حيث يقول: "في العادة، يبذل الخبراء تركيزا أكبر على ما هو مكتوب على شيء ما، وليس ماهية الشيء الذي صُنع منه. وبالتالي سلَّط هذا النهج الضوء على المعتقدات الدينية المصرية، على غرار الخلود، والمومياوات، والموت، وما إلى ذلك، ولم يكترثوا للأمور الأخرى. غير أن العلم بات يلعب الآن دورا مرشدا في تقديم نظرة إنسانية أشد واقعية وأحفل بالمغزى عن هذه الحضارة القديمة، مثل تقنيات التصنيع أو الطرق المختلفة التي تبنَّاها الحرفيون أثناء العمل".

 

استعان فيراريس بالعلماء في جميع أنحاء العالم لاستخدام تقنيات حديثة تشمل "القياس الطيفي الكتلي" (Tandem mass spectrometry)، و"فلورية الأشعة السينية" (X-ray fluorescence) لإجراء فحوصات جديدة على مئات العناصر التي عُثر عليها في عام 1906 من مقبرة عمرها 3400 عام لرئيس عمال رفيع الشأن يُدعى "خا"، وزوجته ميريت، وتقع المقبرة بالقرب من الأقصر في جنوب مصر. وصلتْ دقة الأدوات التي تبناها الفريق إلى درجة أنهم عندما حللوا صندوقا مرسوما في المقبرة، تبين أن الفنان الذي رسم على هذا الصندوق استخدم نوعين من الأحبار السوداء المختلفة، أحدهما لتلوين المساحات الكبيرة، والنوع الآخر للمسات النهائية، مثل تلوين النقاط والنقوش بأحجام وأشكال مختلفة. ولأن الإنسان فُطِر على أن يجد لذة فريدة في الفهم وإخضاع كل شيء للاستيعاب، يقول فيراريس إن مثل هذه التحريات والفحوصات تُعَدُّ نقطة انطلاق أساسية لفصل جديد في علم المصريات.

 

عوالم افتراضية

لم يقتصر الدور الذي لعبه هذا الاتجاه الرقمي على مساعدة علماء المصريات في إعادة بناء المقابر والقطع الأثرية فحسب، بل ساعدهم أيضا على خلق نسخ كاملة من مناظر طبيعية زاخرة بالتفاصيل. لاستكمال هذا المشروع، جمعت إيلين سوليفان من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، البيانات من مصادر عديدة، منها الحفريات وصور من الأقمار الصناعية والخرائط الطبوغرافية لإنتاج نموذج ثلاثي الأبعاد في سقارة، عبارة عن مقبرة قديمة مترامية الأطراف في جنوب القاهرة، وترى سوليفان أن هذه هي الطريقة الأمثل لرصد الطبيعة المتغيرة للموقع ذاته على مدار تاريخ مصر بأكمله.

 

تطور مشهد المقبرة من مجرد مجموعة من المقابر المبعثرة المصنوعة من الطوب اللبن على حافة الصحراء في الأسرة الأولى، نحو 3000 عام قبل الميلاد، إلى مشهد ضخم مليء بالأهرامات والمعابد والمقابر التي استمرت حتى العصر الروماني، أي منذ ما يقرب من 2000 عام. تقول سوليفان: "لا أعتقد أن أي شخص مهما بلغ عقله من ذكاء وتطور لديه القدرة على أن يجعلك تتخيل مئات المباني المختلفة مصطفة معا في مشهد واحد يستوعبه عقلك كما تفعل التكنولوجيا الحديثة، فضلا عن أن إعادة بناء المشهد بتقنية ثلاثية الأبعاد تجربة تهدف إلى إطلاق سراح عقلك بإتاحة السفر افتراضيا عبر الزمن، بحيث يمكن للمشاهدين أن يخوضوا تجربة الاستمتاع بالمشاهد المتغيّرة للمكان ذاته في لحظات مختلفة من التاريخ".

A CT scan machine is seen on display during a media preview for the exhibit "Mummies: New Secrets from the Tombs" at the Natural History Museum of Los Angeles County in Los Angeles, California September 10, 2015. The exhibit opens to the public on September 18. REUTERS/Mario Anzuoni
رغم أن تقنيات التصوير بالأشعة السينية والأشعة المقطعية واختبارات الحمض النووي كانت دائما الوقود الذي يغذي الأفلام الوثائقية والكتب الأكثر مبيعا، فإن العديد من العلماء مع ذلك أعربوا عن شكوكهم إزاء دقة النتائج. (رويترز)

أتاح هذا النموذج أيضا لسوليفان اختبار أفكار جديدة على غرار إعادة تشكيل الأصوات والروائح وتأثيرات الإضاءة، لتصبح المشاهد مفعمة ونابضة بالحياة، وتتوقع سوليفان أن تصبح هذه المشاهد الافتراضية أشد واقعية مع تحسن التكنولوجيا، وبالفعل هذا ما يعمل عليه الباحثون حاليا. قبل قرن من الزمان، أُحيلت العديد من الكنوز التي اكتشفها كارتر وأقرانه إلى المتاحف، واليوم يحلم علماء المصريات ببناء عوالم افتراضية تُتيح لنا السير في شوارع مصر القديمة، وتُنعش وجداننا تجاه كل شيء يحيط بنا، بدءا من مداعبة رائحة البخور لأنوفنا في المعابد الكبرى، وصولا إلى إحساس القشعريرة الذي يخامرنا بمجرد دخولنا المقابر الباردة.

 

ومع ذلك، يساور بعض المتخصصين قلق من إمكانية أن يتخطى العلم حدوده ويلعب دورا أبعد مما يجب. تتمثل إحدى المشكلات الأساسية على سبيل المثال في تصوير الرفات البشري القديم وأخذ عينة منه للبحث عن أدلة على الأمراض أو معرفة سبب الوفاة. رغم أن تقنيات التصوير بالأشعة السينية والأشعة المقطعية واختبارات الحمض النووي كانت دائما الوقود الذي يغذي الأفلام الوثائقية والكتب الأكثر مبيعا، فإن العديد من العلماء مع ذلك أعربوا عن شكوكهم إزاء دقة النتائج، ومن ضمن هؤلاء العلماء كامبل برايس، أمين قسم آثار مصر والسودان في متحف مانشستر الذي أعلن قائلا: "تكمن المشكلة الرئيسية في اعتقاد الناس أن العلم ما هو إلا عصا سحرية، ما إن تلوِّح بها حتى يتكشف لك عالم المومياوات بكل خباياه".

 

لكن من الناحية العملية، لا تسير الأمور بهذه البساطة، إذ ليس من اليسير أبدا تحليل البقايا البشرية الهشة التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، التي مرت بعملية عنيفة من التحنيط. يتذكر برايس النقاشات التي دارت بين الأطباء وعلماء الآثار عندما أجروا على المومياوات المحفوظة في متحف مانشستر تصويرا بالأشعة المقطعية في أحد المستشفيات المحلية للأطفال، وحينها لم يتمكَّن المتخصصون من تحديد ماهية ما يرونه. غير أن هناك مسألة أخلاقية أخرى حول تقديم نتائج المسح إلى الجمهور، فهل تساءلنا يوما عما إذا غالب المصريون القدماء شعورا بعدم الارتياح لمشاركة مثل هذه المعلومات مع الناس، وأن ما يفعله الباحثون الآن ما هو إلا مُنغصات تقض مضاجعهم.

 

يُعَدُّ أقرب دليل على ذلك هو ما تُفضي به الكتابة الهيروغليفية، والصور التي توضح معتقداتهم ورغبتهم العارمة بأن يتذكرهم الناس فيما بعد باعتبارهم ملوكا أقوياء مفعمين بالصحة والعافية، ومن هنا سعوا لخلق عالم من الذكريات تقل فيه احتمالية أن يكونوا بشرا تعثروا بأذيال المرض وطالتهم أوجه القصور قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة. ولهذه الأسباب، قرر معرض المومياوات الذهبية القادم، الذي يستكشف المعتقدات المصرية القديمة حول الآخرة، عدم عرض أي أشعة مقطعية للمومياوات. ينضم إلى قائمة العلماء المهتمين بهذا الشأن عالم المصريات البريطاني نيكولاس ريفز، مؤلف كتاب بعنوان "توت عنخ آمون الكامل" (The Complete Tutankhamun)، الذي يصب جُل تركيزه على إمكانات وحدود التكنولوجيا الجديدة.

كتاب "توت عنخ آمون الكامل" (The Complete Tutankhamun)
كتاب "توت عنخ آمون الكامل" (The Complete Tutankhamun) لعالم المصريات البريطاني نيكولاس ريفز (مواقع التواصل)

وجَّه ريفز دراسته حول عمليات إعادة البناء الافتراضية للجدران المطلية لغرفة دفن توت عنخ آمون، التي أُعيد بناؤها باستخدام عمليات المسح الضوئي بالليزر والصور الرقمية. نفذت هذه العملية شركة "فاكتوم آرت" (Factum Arte)، وهي شركة فنية مُتخصصة في مدريد. يقول ريفز معلِّقا على ذلك: "إنه لأمر رائع أن تشهد على عملية بديعة كهذه، إذ لا يهم إلى أي مدى يصل ارتفاع الرسومات على الحائط، لأنك في جميع الأحوال ستتمكَّن من رؤية كل التفاصيل التي أبدعتها الفرشاة. وتصل دقة هذه العملية لدرجة أنك لن تستمتع بالمشهد وأنت تراه على أرض الواقع بقدر المتعة التي ستحصِّلها من المشهد الافتراضي المفعم بالتفاصيل الدقيقة وأنت جالس على مكتبك لا تحرك ساكنا".

 

توصل ريفز خلال بحثه إلى شقوق غير مرئية في جدران المقبرة، ما يشير إلى وجود مداخل خفية، كما خلص إلى أن العديد من المشاهد المرسومة لجنازة توت عنخ آمون طرأ عليها تغيير، ويعتقد أن الرسومات الأصلية أظهرت توت عنخ آمون أثناء دفنه لملكة مصرية سابقة، وهي الملكة نفرتيتي. في عام 2015، خرج ريفز بفرضية مثيرة للانتباه، وهي أن وراء مقبرة توت عنخ آمون الصغيرة نسبيا والمكونة من أربع غرف، تقع على الأقل غرفة واحدة أخرى، وهي مكان دفن الملكة نفرتيتي. بعبارة أخرى، ربما يرسم القدر خطة ما زال ينسج فصولها ولم يُسدَل الستار بعد على فصلها الأخير، فقد لا يكون اكتشاف كارتر المذهل قبل قرن من الزمان هو آخر فصول الرواية، ولا تزال هناك مقبرة ملكية أخرى أشد ثراء.

 

حدود التكنولوجيا.. وعمق التاريخ

قد تعتقد أن التركيز الشديد على الأدوات العلمية هو الحل الأمثل، لكنه مع الأسف لا يخلو من المشكلات أيضا. فمنذ عام 2015، حاولت عدة فِرَق اختراق جدران مقبرة توت عنخ آمون واستكشاف خباياها باستخدام رادار مخترق للأرض، تُستَخدم نبضاته لتصوير الأجسام المدفونة. ومع ذلك، ظل اكتشاف الغرف المحفورة في عمق الصخور أمرا غاية في الصعوبة، ولم يتمكَّن الباحثون من الاتفاق على كيفية تفسير البيانات، وانتهى المطاف بنفي معظمهم لفكرة وجود مقبرة الملكة نفرتيتي في هذا المكان. ومع ذلك، يرى ريفز أن العلم التقني في المطلق ينبغي ألا يتفوق ببساطة على المتخصص في هذا المجال، كعلم المصريات، بقوله: "لا يجب افتراض أن ما توصلنا إليه إلى الآن هو آخر فصول الرواية ما دامت هناك أدلة أثرية لا يمكن تجاهلها".

 

في سبتمبر/أيلول من العام الماضي 2022، أبلغ ريفز عن دليل آخر توصل إليه من الرسومات الجدارية، وهو اكتشافه أن بعض الكتابات الهيروغليفية طرأ عليها تغييرات في العصور القديمة. فرغم أن الرسومات الحالية تُصور الملك "آي" خليفة توت عنخ آمون وهو يدفنه، فإن الرسومات الأصلية صورت قبل ذلك الملك الشاب توت عنخ آمون وهو يدفن شخصا آخر في المقبرة ذاتها. يرى ريفز أنه يمكن اختبار فرضيته بحفر ثقب صغير في أحد جدران المقبرة وإدخال كاميرا للتحري عما بداخلها. ورغم أن هذه الخطوة لا يمكن تنفيذها إلا بموافقة السلطات، فإنها لا تزال مسألة غير محسومة بعد.

مقبرة توت عنخ آمون
مقبرة توت عنخ آمون (شترستوك)

مع تحسن التكنولوجيا طوال الوقت، يرى بعض الباحثين أن البيانات التي حصلت عليها البشرية باستخدام أدوات علمية غير جراحية هي خطوة قيّمة في حال تعرضت الاكتشافات الأثرية إلى أي ضرر. يرى فيراريس أيضا أن الأجسام المادية مهما بلغت قوتها لا يمكنها أن تتحدى الزمن الذي باتت في حضرته على درجة أصيلة من الضعف والهشاشة، ما يعني أن البقايا المادية من المومياوات مُعرّضة دائما لخطر الكوارث الزاحفة مثل الفيضانات أو الحرائق أو عمليات النهب القادرة على التهام صفحة كاملة من تاريخ ثري.

 

في السياق ذاته، يقول فيراريس: "علينا أن نبذل ما بوسعنا للحفاظ على هذه الأشياء في صورتها المادية، ولكن ربما ليس هذا هو الهدف النهائي". بمعنى أن الزمن لو أمهلنا قليلا للحفاظ على هذه البقايا المادية، فلن يستمر ذلك أبد الدهر، وهنا يظهر دور المعلومات الرقمية التي لا يمكن اقتحام حصنها المنيع بسهولة، وهو ما يُعَدُّ "نوعا من التأمين" لا بد أن نبذل جهودا في سبيل دراسته وتقديره في المستقبل بغض النظر عما سيؤول إليه مصير الأجسام المادية. لذا فالهدف النهائي من ذلك كله هو "اغتنام المعرفة" أو الإلمام بكل ما يتعلق ببقايا الأجسام المادية، ليساعدنا فيما بعد على رؤية التاريخ رؤية شاملة وغنية. ومَن يعلم! فقد يتفق كارتر، الذي أمضى 10 سنوات في تسجيل العناصر التي وجدها في مقبرة توت عنخ آمون بدقة، مع هذا الرأي.

 

صحيح أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون كان الاكتشاف الأعظم حينها، بسبب الكنوز المستردة وتنوعها وقيمتها الفنية، لكن ثمة اكتشافات أخرى غيّرت نظرتنا للتاريخ البشري بطرق لا تقل عمقا وجوهرية، منها المقابر الملكية التي اكتشفها عالم الآثار الألماني هاينريش شليمان في أواخر القرن التاسع عشر. فعندما حفر شليمان دائرة مكونة من ست مقابر ملكية في قلعة ميسينا في جنوب اليونان، عثر على كنوز ذهبية يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، ومن ضمن تلك الكنوز عثر على "قناع أجاممنون"، الذي كان يرتديه حاكم ميسينا الأسطوري في حرب طروادة (وهي واحدة من أشهر الحروب في التاريخ، دارت بين الإغريق الذين حاصروا مدينة طروادة وأهلها واستمرت لعشر سنوات). ومن جانبه، يقول جاك ديفيس من جامعة سينسيناتي في أوهايو: "إن هذه الاكتشافات أحدثت ثورة في فهمنا لمنطقة البحر الأبيض المتوسط".

 

أما الاكتشاف الثاني فهو جيش "التيراكوتا" أو "جيش الطين". في عام 1974، عثر عمّال حفر بالقرب من مدينة شيان بالصين على تمثال على هيئة جندي مصنوع من الطين بحجم الإنسان الطبيعي في وضع تأهب للمعركة. ثم سرعان ما عثر علماء الآثار بعدها على جيش كامل من التماثيل الطينية يحرس قبر الإمبراطور تشين شي هوانغ الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد (لخدمته في الحياة الأخرى حسب معتقداتهم). يسلّط روان فلاد من جامعة هارفارد الضوء على موقع الجنود في مدينة ينكسو، آخر عاصمة لسلالة شانغ، وما كشفته هذه المدينة التي يعود تاريخها إلى أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد عن عصر ذهبي للثقافة الصينية المبكرة التي اتخمت بالقصور، وتمتعت بنظام للتحكم في الفيضانات، وظهرت فيها عظام أوراكل المنقوشة، التي هي أقدم دليل على الكتابة الصينية. يقول فلاد معلِّقا على ذلك: "كل هذه الاكتشافات الحقيقية دفنت وراءها قصصا غطتها الحياة برداء النسيان منذ أزمنة سحيقة".

اكتشاف جيش "التيراكوتا" أو "جيش الطين"
اكتشاف جيش "التيراكوتا" أو "جيش الطين" (شترستوك)

لا تزال هناك الكثير من الاكتشافات المثيرة، منها ما اكتشفه خبير الآثار جون فرير عام 1797، حينما كتب إلى زملائه يصف أحجارا حادة عثر عليها عمال البناء في هوكسن بإنجلترا. وُجدت الحجارة على عمق 4 أمتار، وبجانبها وجدوا عظام حيوانات ضخمة مجهولة تحت طبقات يبدو أنها كانت ذات مرة في قاع البحر. اقترح فرير أن هذه الحيوانات تنتمي إلى فترة زمنية بعيدة للغاية، كما يرى مايك باركر بيرسون من كلية لندن الجامعية أن الأحجار الحادة التي اكتشفها "فرير" ونعرفها الآن باسم الفأس الحجري أو الفأس المشقوف كشفتْ لأول مرة عن الماضي البشري العميق منذ آمادٍ مضت.

 

أما آخر الاكتشافات المثيرة فهو حطام سفينة "أولوبورون" التي تعود إلى العصر البرونزي، واكتشفها الغواصون قبالة سواحل تركيا عام 1982. يقول بريندان فولي من جامعة لوند بالسويد إن حطام السفينة يُعَدُّ أحد أعظم الاكتشافات التي غمرتها المياه، لأنه غيَّر وجهة نظر المؤرخين تجاه ذلك العصر، إذ كشف حطام هذه السفينة عن وجود شبكة مذهلة من الاتصالات التجارية، فضلا عن أن الشحنة التي حملتها على سطحها أزاحت الستار عن 11 ثقافة مختلفة، كما أنها كانت متخمة بالأسلحة، والمجوهرات، وبيض النعام، والتوابل، والسبائك النحاسية من مناطق بعيدة مثل مصر وقبرص وآسيا.

 

هل نعرف الحقيقة؟

رغم كل هذه الاكتشافات، فإننا إذا ما أجرينا غوصا عميقا في هذه الشخصيات والكشوف التاريخية، فسنكتشف أن أيًّا منها لم يحظَ بفحص شامل وقاسٍ بقدر ما حظيت به مومياء الملك توت عنخ آمون. في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1925، فك عالم التشريح "دوغلاس ديري" أغلفة المومياء، وبدأ في إزالة الضمادات المتفحمة والمتهالكة، ثم قطّع الجسد لنزع مجوهراته، واستخدم سكينا ساخنة لفصل الجمجمة عن القناع الذهبي. خلص ديري إلى أن الفرعون مات في ريعان شبابه في سن الثامنة عشرة تقريبا، وامتلك رأسا كبيرا، وندبة في خده الأيسر، ولم يظهر سبب واضح للوفاة.

 

في عام 1968، قرر عالم التشريح رونالد هاريسون من جامعة ليفربول بالمملكة المتحدة تصوير المومياء بالأشعة السينية لإنتاج فيلم وثائقي لـ"بي بي سي" (BBC). لكن أثناء هذه العملية، لاحظ ترقُّقا في جمجمة توت عنخ آمون، وخمَّن أنه قد يكون ناتجا عن ضربة في مؤخرة الرأس، وهو تخمين أدى إلى اندلاع العديد من فرضيات القتل، ولكن تبيَّن في النهاية أنه ناتج عن عملية التصوير بالأشعة السينية. أما في عام 2005، تعاونت ناشيونال جيوغرافيك مع فريق من العلماء بقيادة عالم الآثار المصري والأمين العام للمجلس الأعلى للآثار زاهي حواس لتصوير المومياوات الملكية بما فيها توت عنخ آمون بالأشعة المقطعية. أظهرت الصور ثلاثية الأبعاد وجود كسر في عظمة الفخذ الأيسر للملك، وخمَّنوا أن هذا الكسر قد يكون ناتجا عن حادث سقوطه من العربة.

Zahi Hawass, an Egyptologist, stands next to assistant as a mummy, said to be belonging to an ancient Egyptian King, is put through a CT scanner (computerized Tomography) in Egypt, in this handout photo received on February 17, 2021. The Egyptian Ministry of Antiquities/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY
عالم الآثار المصري زاهي حواس خلال التصوير المقطعي لمومياء قيل أنها تنتمي لملك مصري قديم. (رويترز)

في عام 2010، أفاد الفريق بالاستعانة بعينة من الحمض النووي أن توت عنخ آمون كان مُصابا بالملاريا، وأن والديه كانا أقرباء. وحينما أعادوا تحليل فحوصات التصوير بالأشعة المقطعية، تبيَّن أن قدمه كانت مُشوهة. في النهاية، نجحوا في تقديم نسخة جديدة مريضة وعاجزة من الملك الشاب. وفي الوقت الذي ألهمت فيه هذه الدراسات المزيد من الأفلام الوثائقية، أثارت حفيظة علماء آخرين، وانتقدوها مشككين في دقة نتائج الحمض النووي التي ربما تغيرت جراء التلوث، أو أن التصوير المقطعي فشل في التمييز بين الإصابات أو الأمراض التي حدثت قبل وفاة الملك وبين الأضرار التي ألحقها الزمن بالجسد منذ ذلك الحين. ورغم ذلك استمرت التكهنات حول هذا الملك، آخرها الفرضيات التي تُشير إلى أن توت عنخ آمون كان مصابا بالصرع، أو أن فرس النهر هاجمه وطالته إثر ذلك يد الموت، فأسلم الروح في النهاية.

—————————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية