شعار قسم ميدان

من "توكسيك" إلى "ذوي الهمم".. هل يؤثر تغيير المصطلحات حقا على التواصل بين البشر؟

تغيير معنى كلمة، أو إلغاء وصف شيء وإعطاؤه وصفا جديدا، أو حتى إدخال كلمات جديدة في لغتنا لا ندرك معناها الحقيقي إدراكا واعيا، ربما يؤثر أكثر مما نظن على التواصل بيننا.
إن تغيير معنى كلمة، أو إلغاء وصف شيء وإعطاؤه وصفا جديدا، ربما يؤثر أكثر مما نظن على التواصل بيننا. (شترستوك)

تغيير معنى كلمة، أو إلغاء وصف شيء وإعطاؤه وصفا جديدا، أو حتى إدخال كلمات جديدة في لغتنا لا ندرك معناها الحقيقي إدراكا واعيا، ربما يؤثر أكثر مما نظن على التواصل بيننا. إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ اللغة فإننا قد نجد أمثلة مهمة لتلك التغيرات الدلالية في الكلمات التي تُعَدُّ بمنزلة تحذير أو لفت نظر لما قد يحدث في المستقبل.

 

أحد الأمثلة المتطرفة على ذلك هو استخدام البشر الآن لكلمة "حب أفلاطوني" بمعنى الحب البريء الخالي من عشق الجسد بين الرجل والمرأة، في حين أن المعنى الحقيقي لهذه الكلمة الذي أُسست عليه كان مرتبطا بالمثلية الجنسية، فالفيلسوف اليوناني أفلاطون كان يرى أنه قد تكون هناك علاقة حب بين الرجال، وأنه لا يجب أن تكون هناك علاقة جسدية بين الرجل والمرأة إلا للتكاثر، ولكن مع مرور الوقت تحوَّل معنى الحب الأفلاطوني في أذهان الناس إلى وصف "علاقة حب بريئة" بين رجل وامرأة.

 

هناك أسباب كثيرة لحدوث التغيير الدلالي للكلمات، مثل الضغط السياسي، وهو ما يندرج تحته كل الكلمات التي تغيرت في إطار الصوابية السياسية، أو الاستعمار، أو ربما تطور التقنيات الحديثة التي تفرض على اللغة أن تُطوِّر من نفسها أيضا (1). فهل ما يحدث الآن من تغيرات دلالية في بعض الكلمات، أو انفتاح ثقافي على لغات أخرى وتبني بعض كلماتها دون فهم عميق لمعناها قد يكون له تأثير سلبي في التواصل بين البشر أو بين الأجيال المختلفة؟

هل يحتاج "ذوو الهمم" إلى مساعدتنا؟

عندما تطلق على شخص أنه "ذو احتياج خاص" فهذا لا يدع مجالا للشك أو التردد من الأطراف الآخرين لتقديم المساعدة، ولكن كلمة "ذوي الهمم" قد تمنح سامعها إحساسا أن هذا الشخص ليس في حاجة إلى المساعدة.
عندما تطلق على شخص أنه "ذو احتياج خاص" فهذا لا يدع مجالا للشك أو التردد من الأطراف الآخرين لتقديم المساعدة، ولكن كلمة "ذوي الهمم" قد تمنح سامعها إحساسا أن هذا الشخص ليس في حاجة إلى المساعدة. (شترستوك)

حسنا، دعونا نبدأ من مشهد معتاد للكثيرين. إذا دخلت إلى أي مصلحة حكومية في مصر في وقتنا الحالي فستجد نافذة مخصصة بلافتة واضحة "لذوي الهمم"، هذا التعبير الذي تستخدمه مصر حديثا في إطار الصوابية السياسية بهدف تقليل التنمُّر الذي يتعرض له أولئك الذين يعانون من أي إعاقة جسدية أو ذهنية، وهو تعبير ينتشر في الكثير من الدول العربية أيضا.

 

فيما سبق كان يُطلق على هؤلاء في اللغة لفظ "معاقين"، ثم "ذوي الاحتياجات الخاصة"، ومؤخرا "ذوي الهمم"، فإذا كان هناك ثلاثة أجيال سيدخلون تلك المصلحة الحكومية، فكل جيل منهم لديه مفهوم وإطار ثقافي مختلف عن الشخص الذي يعاني من "إعاقة" تجعله مختلفا عن الآخرين.

 

وبعيدا عن أزمة التواصل بين الأجيال، فالسؤال المهم هنا: ما المردود الذهني والإدراكي الجديد المترتب على تغير تلك الكلمة في أذهان الأجيال الجديدة؟ فعندما تطلق على شخص أنه "ذو احتياج خاص" فهذا لا يدع مجالا للشك أو التردد من الأطراف الآخرين لتقديم المساعدة، ولكن كلمة "ذوي الهمم"، رغم أن لها وقعا نفسيا أفضل، فإنها ربما تمنح سامعها إحساسا أن هذا الشخص ليس في حاجة إلى المساعدة.

 

المثال الأبرز على أزمة التواصل والدلالات تلك رصدته دراسة علمية (2) نُشرت للمرة الأولى عام 1915 في مجلة "لانسيت" الطبية العريقة، وأُعيد نشرها والتعليق عليها عام 2015 بواسطة قسم الأمراض النفسية في جامعة كامبريدج تحت عنوان "One Hundred Years Ago: Shell Shock". وقد عنت الدراسة الأصلية بتتبع المرض النفسي الذي يصيب الجنود في الحروب، ووصف خلالها عالم النفس البريطاني تشارلز صموئيل مايرز الحالة النفسية التي تُصيب الجندي بعد صدمة الحرب، وأطلق على هذا المرض "Shell shock" أو "ارتجاج الدماغ"، وقال إنه يجعل الجندي في حالة دائمة من الذعر وعدم القدرة على النوم أو الحركة بشكل مناسب، كما تُصيبه حالة من التحديق والذهول معظم الوقت.

 

وقتها، استُخدم هذا المرض واسمه اللاذع في الدعاية ضد الحروب، ومع الوقت ظهر اسم "اضطراب ما بعد الصدمة" لهذا المرض، الذي يبدو وقعه على الأذن والنفس أخف وطأة، حيث إن المصطلح يوحي بأن الصدمة قد مرت وليس لها وجود الآن في نفس الجندي المُحارب، بينما ما يظهر عليه ليس سوى "اضطراب" ما بعد تلك الصدمة، وهو أمر غير صحيح، حيث أوضح التعليق الحديث على الدراسة أن استيعاب المجتمعات للضرر الذي يتعرض له الجنود أصبح أقل بعد تغيير وصفه.

"انفتاح لغوي غير خالٍ من المخاطر"

يبدو إذن أن مسألة تغيُّر اللغة أو المصطلحات تؤثر فينا أكثر مما نظن. في مجتمعنا العربي اليوم، يستخدم الشباب الكثير من الكلمات المأخوذة من اللغة الإنجليزية سواء بنطقها الإنجليزي أو بترجمتها لوصف العلاقات العاطفية الفاشلة، فهل ستفهم الأم مشكلة ابنتها حين تصف علاقتها بأنها "توكسيك" أو "سامة"؟ أو أن هذا الشخص حوله الكثير من "الريد فلاجز"، التي يُقصد بها أن الطرف الآخر في العلاقة قد قام بفعل أو تصرف يجب أن يكون بمنزلة تحذير على عدم صلاحيته في العلاقة العاطفية؟ والسؤال الأهم: هل تُستخدم تلك التعبيرات بمفهومها الصحيح من الأساس، أم أن أي علاقة تواجه مشكلة يلجأ طرفاها إلى هذا الوصف (توكسيك) لأنه الشائع الآن؟

 

كلمة "توكسيك" (Toxic)، أي سام، تعني أن العلاقة باتت تُعَدُّ بمنزلة السم الذي يقتل صاحبه، وهو مصطلح أميركي يُستخدم بكثرة في علم النفس الحديث لوصف العلاقات المؤذية، وأصبحت تلك الكلمة تُستخدم في الدراما وفي مقاطع مصورة تحصد الملايين من المشاهدات، وحتى في بعض التقارير الصحفية سواء كانت مكتوبة بالعربية أو مترجمة.

 

لكن هذا الاستخدام الموسع للمصطلحات المستحدثة لا يخلو من مشكلات. في دراسة علمية عربية (3) كتبها الأستاذ الدكتور مبارك حنون، أستاذ اللغة واللسانيات في جامعة قطر، نُشرت في دورية "عالم الفكر" تحت عنوان "حكامة الشأن اللغوي.. سياسة لسانية أم لسانيات سياسية؟"، كان الهدف هو البحث في ثغرات المفاهيم الشائعة والتباساتها، و"البحث عما يكون لهذه الالتباسات من آثار في إفشال آليات عمل اللغة في وطننا العربي، والنظر في تأثير نقل المفاهيم من تربة إلى أخرى واستهلاكها دون مساءلتها أو تصويبها".

 

أشارت الدراسة إلى ظهور العديد من المفاهيم والمصطلحات الدخيلة على لغتنا العربية التي بدأت تطفو على ألسنة المجتمع العربي دون أن تحظى بعناية نقدية وتحليلية كافية. وفي هذا السياق، ربما يرى البعض أن انتشار كلمة مثل "توكسيك" لوصف العلاقات المؤذية يُعَدُّ انفتاحا لغويا على مجالات معرفية مختلفة بغرض الخروج عن نمطية اللغة ومكوناتها، لكن الدراسة السابقة توضح أن هذا الانفتاح "غير خالٍ من المخاطر" التي تتضمن سوء الفهم واختلافه بين الأجيال المختلفة في أقل الأحوال.

فجوة بين الأجيال

كانت كلمة "gay" في القواميس قديما تصف الشيء أو الشخص المرح والمبهج.
كانت كلمة "gay" في القواميس قديما تصف الشيء أو الشخص المرح والمبهج. (شترستوك)

بلا شك، يصنع التغير المستمر في المصطلحات والأوصاف فجوة ثقافية بين الأجيال، على سبيل المثال، تخيل شابا مراهقا دارسا للعلوم وقع تحت يده كتاب "The gay science" للفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، وقتها سيتخيل هذا الشاب أن الكتاب يتحدث عن المثلية الجنسية ورأي العلم فيها، في حين أن الكتاب الذي نُشر عام 1882 كان يُقصد به حرفيا "العلم المرح"، وهذا لأن كلمة "gay" في القواميس في ذلك الوقت كانت تصف الشيء أو الشخص المرح والمبهج.

 

هذا النوع من التغيير اللغوي يُطلق عليه التغيير الدلالي، ويعني تطوير استخدام الكلمات بما يناسب العصر الذي نعيش فيه، وقد اهتمت بدراسته العديد من الأبحاث. على سبيل المثال، في ورقة بحثية استقصائية (4) نُشرت عام 2018 بعنوان "Semantic Change Of The Word Gay"، كان الهدف هو معرفة كيف يدرك كل جيل في بريطانيا معنى كلمة "gay" حين سماعها، واستعان مؤلف الورقة البحثية بمجموعات من أجيال مختلفة، ما بين مراهقين وكبار سن، حيث طرح أربعة اختيارات لمعنى كلمة "gay"، وطلب من المشاركين في الاستقصاء أن يختاروا المعنى الذي يجدونه مناسبا للكلمة.

 

أظهرت نتائج الاستقصاء أن الجيل الأكبر سِنًّا يختار معنى "مرح أو مبهج أو كثير الألوان" لكلمة "gay"، أما الجيل الذي تتراوح أعماره ما بين 15-21 عاما فقد اختار "مثلي الجنس"، ولكن تلك الورقة البحثية وجدت أن قلة من كبار السن المشاركين في الاستقصاء اختاروا معنى مثلي الجنس للكلمة، وفي الأسئلة التوضيحية للاستبانة صرَّح كبار السن المشاركون أن أحفادهم قد أخبروهم أن تلك الكلمة أصبح لها معنى آخر ويجب أن يتوقفوا عن استخدامها القديم حتى "لا يُسيئوا لأي شخص".

تأثير اللغة الثانية

إن الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية بوصفها لغة ثانية ليس لديهم خلفية عن المعاني السابقة للكلمات، ولهذا هم غير قادرين على فهم الأعمال الأدبية التي تحتوي على بعض الكلمات ذات التغيرات الدلالية. (شترستوك)

وإذا كان التغيير الدلالي لكلمات من اللغة الأم للفرد قد يُسبِّب له بعض التشوش في التواصل، ماذا إذن عن تأثير التغيير الدلالي للكلمات على مَن يقرأ أو يتعامل مع الآخرين بلغة ثانية غير لغته الأم، أو على شخص كان مضطرا للدراسة والتعلم بلغة ثانية؟

 

في دراسة نُشرت عام 2019 بمجلة "كوميونيكشن آند كالتشر تريندز" (5)، ألقى المؤلفون الضوء على التأثير الناتج عن التغيير الدلالي للكلمات في اللغة الإنجليزية على مَن يتعاملون مع هذه اللغة بوصفها لغة ثانية. أكدت الدراسة أن اللغة تتغير باستمرار ويتغير معنى الكلمات بمرور الوقت، وهذا التغير يمكن أن يحدث في المعنى الحرفي للكلمة، كالمثال السابق الخاص بكلمة "gay"، أو من خلال الاستخدام العملي للكلمات، وفي تلك النقطة يمكن أن نستعين بمثال من اللهجة العامية في مصر، حيث أصبحت كلمة "صايع" تُستخدم لمدح شخص أو احترافيته في شيء ما، في حين أنها كانت تصف الشخص الفاشل من عشرات السنوات.

 

أجرى مؤلفو الدراسة بحثهم من خلال استبانة حول 15 كلمة تغيرت دلالتها ومعناها بمرور الوقت، وشارك في الاستبانة 50 شخصا من خلفيات تعليمية مختلفة، وأظهرت النتائج أن غالبية متعلمي اللغة الإنجليزية بوصفها لغة ثانية كانوا قادرين على مواكبة التغير الدلالي، ولكن أيضا وجدوا نسبة كبيرة تكافح لفهم تلك التغييرات.

 

غير أن المثير للاهتمام -أو القلق- في الدراسة أن مؤلفيها وجدوا بعض المشاركين الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية بوصفها لغة ثانية ليس لديهم خلفية عن المعاني السابقة للكلمات، ولهذا هم غير قادرين على فهم الأعمال الأدبية التي تحتوي على هذا النوع من التغيرات الدلالية فهما صحيحا، واعتبرت الدراسة أن تلك "سمة سلبية" في التغيير الدلالي للكلمات، وهو عدم قدرة البعض على مواكبة تلك التغييرات، خاصة مَن يتعاملون مع اللغة بوصفها لغة ثانية.

مصطلحات ملتبسة

الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية بوصفها لغة الثانية ليس لديهم خلفية عن المعاني السابقة للكلمات، ولهذا هم غير قادرين على فهم الأعمال الأدبية التي تحتوي على هذا النوع من التغيرات الدلالية
 (شترستوك)

في ضوء ذلك، بات التغيير الدلالي للكلمات حقلا يستهوي الكثير من المهتمين بدراسة اللغة وتطويرها، خاصة أن الساحة اللسانية العربية باتت "تعج" بالمفاهيم الجديدة التي لم تحظَ بعناية نقدية وتحليلية وافرة، وهو ما يجعل اللغة العربية غير قادرة على المواكبة النقدية لتلك التغيرات.

 

فخلال السنوات الأخيرة، ظهرت في اللغة العربية مجموعة من المفاهيم والمصطلحات "المُلتبسة" مثل "العولمة اللغوية"، و"التعددية اللغوية"، و"الليبرالية اللغوية"، و"التسامح اللغوي" وغيرها. كل هذه المصطلحات إما وافدة من حقول معرفية أخرى مثل علوم السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وإما مفاهيم جديدة استُحدثت لأغراض وجب التنبيه على توضيح مضمونها.

 

على سبيل المثال، توضح الدراسة السابقة أن عبارة "السياسة اللغوية" عبارة مُلتبسة وغير مستقيمة، غرضها كان المزج بين علمين مختلفين هما اللغة والسياسة، ولكنها تفتقر إلى الدقة فضلا عن أنها عبارة مؤدلجة لأنها توحي بغلبة السياسة على اللغة. لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد، فمع انتشار مصطلح "الصوابية السياسية" الذي تهدف من خلاله السياسة إلى تصويب اللغة، أصبح واضحا أن السياسة تقف للغة بالمرصاد، والسؤال المهم هنا: هل نضج حقل "التغيير الدلالي" بحيث لا يكون هناك خطر حقيقي على التباس المعاني والتواصل اللغوي والفكري بين البشر؟ الإجابة هي لا، بحسب الدراسة التي ألقت الضوء على خطورة تبني اللغة لمصطلحات ومفاهيم مستحدثة، بدون التمهيد الكافي لتلك المصطلحات أو المفاهيم.

——————————————————————————

المصادر

  1. The Study of Semantic Change and its Effect on Linguistic and Literary Comprehension of ESL Learners
  2. One Hundred Years Ago: Shell Shock
  3. دراسة بعنوان "حكامة الشأن اللغوي سياسة لسانية أو لسانيات سياسية" منشورة عام 2022 في العدد 188 من عالم الفكر – مجلة دورية محكمة تصدر
  4. عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
  5. Semantic Change Of The Word Gay
  6. The Study of Semantic Change and its Effect on Linguistic and Literary Comprehension of ESL Learners
المصدر : الجزيرة