شعار قسم ميدان

"فن التنفس".. كيف يؤثر الفعل الذي لا ينقطع أبدا في حالتك المزاجية؟

نتنفس في الدقيقة الواحدة ما بين 16 إلى 18 مرة، أي أننا خلال ساعة واحدة نأخذ ما يزيد عن ألف نفَس، وخلال اليوم الواحد نأخذ ما يزيد عن 25 ألف نفَس، بمتوسط 10 ملايين نفَس خلال العام، يمكننا الاستغناء عن الطعام أو الشراب لبعض الوقت، لكن دقائق فقط دون الأكسجين تؤدي إلى الموت، و20 ثانية فقط تؤدي إلى توقف النشاط الكهربائي في الدماغ(1).

هذا الفعل الذي نقوم به بشكل غير واعٍ لا يشير فقط إلى الحياة في أجسامنا، لكنه يعبر أيضا عن شكل هذه الحياة، ملايين الأنفاس التي قمنا بها بلا وعي تحدد في الحقيقة حالتنا الصحية وتغير حالتنا العاطفية والمزاجية، والفعل الذي يعتبر سببا لحياتنا يؤثر أكثر مما نظن في إدراكنا لذواتنا، فكيف يؤثر فينا التنفس؟ وكيف نحقق التأثير الأمثل له؟(2)

هكذا ينعشنا التنفس

في أغلب الأوقات لا ندرك أننا نتنفس. ورغم أن الفعل لا يكون بالسهولة ذاتها في كل الأوقات يقوم دماغنا بمعالجة الأمر بشكل مستمر، حين يحيط بنا هواء ملوث مثلا أو نكون في مكان خانق تصل إلى دماغنا عبر الشبكات الهوائية معلومات عن تلك التغيرات فيتعامل دماغنا معها، تعمل مئات الخلايا العصبية بشكل متزامن لضبط إيقاع التنفس في كل مرة، بحيث نواجه التحديات الفسيولوجية والظروف البيئية المتغيرة.

في عمل متواصل، يمتص الدم الأكسجين ويُطلق ثاني أكسيد الكربون من النفايات السامة التي تتكون في أنحاء الجسم، وحين يحصل الجسم على ما يكفي من الأكسجين يعمل على النحو الأمثل، فتنشط الخلايا والأنسجة والعضلات، وتتواصل عملية تصنيع خلايا وأنسجة جديدة ونقية وصحية، وتقوى قدرة الجسم على التحمل وامتصاص الغذاء والتخلص من السموم.

أما حين لا نحصل على الهواء النقي الكافي من خلال الرئة، فساعتها يتم تنقية الدم أو تجديده بما يضمن الحفاظ على صحة مثالية، وهنا يتخذ الدم لونا أحمر مائلا إلى الزرقة، وتتحول البشرة إلى شحوب غير صحية، ومع تراكم الشوائب في الدم تظهر العديد من الأمراض(3).

أكثر من الأكسجين

لكن تأثير التنفس يتجاوز بكثير مسألة الأكسجين على أهميتها. حين ينشّط عمل الجهاز العصبي الباراسمبثاوي بتأثيره الذي يمنحنا الاسترخاء نتمكن من التنفس بشكل عميق، بينما يكون التنفس متسارعا عند نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي، المسؤول عن ردود فعل الجسم عند مواجهة الضغوط، والحقيقة أن الأمر لا يسير في الاتجاه نفسه دائما، حيث يعمل الاتجاهان معا للسيطرة على حالة الجسم من خلال ضبط معدلات التنفس.

حين تأخذ أنفاسا بطيئة وثابتة يتلقى عقلك رسالة بأن كل شيء على ما يرام، تصل إشارة إلى الدماغ لتنشيط الفرع السمبثاوي من الجهاز العصبي، فيتباطأ معدل ضربات القلب ووتيرة عملية الهضم ويتعزز الشعور بالهدوء وتراخي العضلات، كما يتم تقليص هرمونات التوتر مثل الكورتيزول(4). أما عندما تأخذ أنفاسا سريعة ضحلة، فإن العكس تماما هو ما يحدث، حيث تزداد ضربات القلب وتنقبض العضلات ويتعزز الشعور بالتوتر.

كما يذكر كل من "باتريشيا جيربارغ" و"ريتشارد براون" في كتاب القوة الشافية للتنفس (The Healing Power of Breath)، فإن الدماغ يستمع إلى الرئتين، وحين نغير نمط تنفسنا، تتغير طريقة تفكيرنا وشعورنا ونتواصل بشكل أفضل مع أنفسنا ومع الآخرين(5). لذا تعتبر تمارين التنفس أسرع وسيلة لتقليل التوتر وتحسين التركيز وخفض ضغط الدم وتحسين الأداء المعرفي، حيث يمكن للتنفس البطيء أن يخفض بسرعة معدل ضربات القلب ويساعد على التغلب على نوبات الهلع (panic attack) ويقلل الشعور بالقلق الحاد.

يشمل تأثير التنفس أيضا إمكانية علاج بعض الأمراض النفسية والحد من أعراضها، في دراسة قُدمت في المؤتمر الدولي للطب التكاملي والصحة في لاس فيغاس حول تأثير اليوجا والتنفس في الأشخاص المصابين باضطراب اكتئابي شديد، لاحظ الباحثون انخفاض أعراض الاكتئاب بشكل ملحوظ بعد 12 أسبوعا من ممارسة اليوجا وتمارين التنفس يوميا، كما لاحظ الباحثون زيادة مستويات حمض جاما أمينوبوتيريك (وهي مادة كيميائية في الدماغ تحد من استثارة الخلايا العصبية في جميع أنحاء الجهاز العصبي، ولها تأثيرات مهدئة ومضادة للقلق)(6).

بشكل مماثل، في دراسة نشرتها مجلة "بي إن سي (BMC Complementary and Alternative Medicine)"، قام باحثون بجامعة كارولينا الجنوبية الطبية باختبار تأثير التنفس على مجموعتين من البالغين، الأولى مارست تمارين اليوجا والتنفس لمدة 10 دقائق يوميا، بينما قامت المجموعة الأخرى بقراءة نص من اختيارهم لمدة 20 دقيقة، وتم اختبار لعاب أفراد المجموعتين في فترات مختلفة أثناء التمرين، ليجد الباحثون أن لعاب المجموعة الأولى التي مارست تمارين التنفس كان يحتوي على مستويات أقل من السيتوكينات (البروتينات التي تستخدم في التواصل بين الخلايا) المرتبطة بالالتهاب والتوتر(7).

تشير الدراسات إلى أهمية تمرين التنفس للجسم والعقل، لكنها لا تحدد ما الأكثر تأثيرا، أهو الفعل البدني الذي يحدث عند الاستنشاق بعمق ودخول الأكسجين إلى أجسامنا وتنظيف الجسم من ثاني أكسيد الكربون، أم أنه الاسترخاء الذي يتبع هذا الفعل. وتقول "سارة لازار"، الأستاذة المساعدة في علم النفس في كلية الطب بجامعة هارفارد والتي تدرس علم الأعصاب لليوجا والتأمل، إن التأثير غالبا ما يحدث نتيجة المزيج بين هذا وذاك(8).

بل ويمتد تأثير التنفس الجيد إلى علاج بعض الأمراض أيضا. في دراسة نشرتها مجلة "بريث (Breathe)" حول التأثيرات الفسيولوجية للتنفس البطيء، أوضحت الدراسة أنه يؤثر في نشاط عضلات الجهاز التنفسي ومعدل ضربات القلب وديناميكيات تدفق الدم بحيث يمكن اعتباره وسيلة لتحسين المعايير الفسيولوجية المرتبطة بالصحة وطول العمر، بما ينبئ بقدرته أيضا على علاج بعض الأمراض إذا ما تم التوسع في بحث الأمر بمزيد من الدراسة(9).

تمرين لتقليل التوتر

دعنا نركز قليلا مع مسألة دور التنفس في تقليل القلق أو الذعر. هناك أنواع كثيرة من التنفس الذي يهدئ التوتر، أشهرها -والذي تقترحه هيئة الصحة البريطانية– يحتاج إلى بضع دقائق فقط، ويمكن القيام به في أي مكان، وتشير الهيئة إلى أنك ستحصل على أكبر فائدة إذا قمت بهذا التمرين بانتظام بوصفه جزءا من روتينك اليومي. لأداء هذا التمرين يمكنك أن تكون واقفا أو جالسا على كرسي يدعم ظهرك أو مستلقيا على سرير أو بساط لليوجا على الأرض، إذا كنت مستلقيا ضع ذراعيك بعيدا عن جانبيك قليلا مع رفع راحتي اليدين، اجعل رجليك مستقيمتين، وإذا كنت جالسا ضع ذراعيك على جانبي الكرسي.

يجري التمرين كالآتي: أولا، دع أنفاسك تتدفق إلى أعماق بطنك بارتياح، دون إجبارها، وحاول التنفس من أنفك وإخراج الزفير من خلال فمك، من المهم أن تتنفس برفق وبشكل منتظم. يجد بعض الناس أنه من المفيد العد بثبات من 1 إلى 5 أثناء كل شهيق وزفير، لكنك قد لا تتمكن من الوصول إلى الرقم 5 في البداية، إلا أن الأمر سيتحسن مع التمرين. بدّل بين الشهيق والزفير دون توقف أو حبس أنفاسك، فقط اتركها تتدفق برفق، واستمر في فعل ذلك لمدة 3 إلى 5 دقائق.

يمكن أن تضيف إلى هذا التمرين جانبا متعلقا باليقظة الذهنية، وتعني التركيز على تنفسك وجذب انتباهك إلى الحاضر دون السماح لعقلك بالانجراف إلى الماضي أو المستقبل. نحن نعني هنا أن تركز فقط على تنفسك فقط وصوتك الصادر أثناء ذلك، البعض يستخدم كلمات أو جملا قصيرة أثناء التمرين لحفز اليقظة الذهنية وتخفيض تشتت الانتباه، وعندما تلاحظ أن عقلك قد انحرف وذهب في أحلام اليقظة، خذ نفسا عميقا وأعد انتباهك بلطف إلى الحاضر، ولا تيأس من تكرار المحاولة.

تنفس مثل الطفل

إذا كنت تشعر أن هذه صعب، فربما علينا أن نذكرك بأن كل ما نفعله هو استدعاء الطريقة التي تنفست بها حين كنت طفلا، إنها طبيعتنا منذ الولادة، تأمل كيف يرتفع بطن طفل نائم، وكيف يتخلل الهواء جسده الصغير فيمنحه هدوءا يتسلل إلى كل ما حوله، وشعورا بالاسترخاء نتوق نحن الكبار إليه. تُعرف هذه الطريقة بالتنفس البطني، لكننا ننساها مع تقدمنا في العمر، بحيث يتنفس أغلبنا من الصدر فقط، خاصة في حالات التوتر والقلق.

كان التنفس من الصدر هو ملاذنا فقط في لحظات التوتر والخوف، حينها نكون في حاجة إلى امتصاص كميات كبيرة من الأكسجين ليمكن لنا الهرب من الأخطار المحدقة بنا، لكنه اليوم صار شكل تنفسنا في الغالب بسبب ما يحيط بنا من ضغوط، وغالبا لا نلاحظ ذلك(10).

في حالة التنفس الصدري، لا يتجاوز الأكسجين المنطقة العلوية من الرئة، وهو أمر غير جيد على المستوى البعيد(11). يمكنك العودة إلى التنفس البطني ببساطة من خلال دقائق يومية عند الاستيقاظ أو في منتصف اليوم. عندما تبدأ بالشهيق ضع إحدى يديك على الصدر والأخرى على البطن، وحاول أن تملأ البطن أولا بالهواء لترتفع يدك عليها، ومن ثم الصدر، لاحظ ارتفاع اليد التي تعلو البطن أولا ثم اليد الأخرى، بالهواء، وعند الزفير فرِّغ جسمك من الهواء من الأسفل إلى الأعلى، بحيث يخرج من البطن أولا ثم الصدر، كما يوضح الفيديو التالي.

ولتعرف قدر التأثير، جرب في لحظات التوتر أن تقتطع دقائق قليلة للاسترخاء بأخذ 3 أنفاس طويلة وبطيئة وعميقة من البطن، ولاحظ ما ستصبح عليه حالتك، في حالتنا العادية غالبا نتنفس 12-16 مرة في الدقيقة، والتنفس العميق يمكن أن يحولها إلى 6 أنفاس أو أقل في الدقيقة الواحدة(12). ودعنا نذكر بأن تمارين التنفس تختلف عن التأمل، في التأمل نبقى عالقين في أذهاننا فقط، ندرك أحاديث عقولنا ونستمع إلى أفكارنا، نصبح أهدأ، لكن ذلك لا يتأتى لنا إلا بعد فترة من الزمن، لكننا في التنفس ننفصل عن العقل ونركز في اتصالنا بأجسامنا، فنحصل على راحة فورية من كل أشكال التوتر والإرهاق(13).

البراناياما.. قوة التنفس

في الثقافات القديمة، عرف البشر قوة التنفس في منحنا الطاقة وشفائنا أحيانا من الأمراض، فتخبرنا الطاوية الصينية والهندوسية عن هذه الطاقة التي يمنحها لنا التنفس، وتتناول نصائح متعددة لضبط عملية التنفس بحيث تؤثر بشكل أفضل في الصحة والعقل، وأحد هذه التطبيقات القديمة هو "البراناياما (Pranayama)"، وهو أسلوب في ممارسة اليوجا يعتمد على التحكم في التنفس باعتباره إحدى طرق إطالة العمر(14).

أحد المبادئ الأساسية للبراناياما هي استنشاق الهواء من الأنف للاستفادة من قدرته على تنقية الهواء من الشوائب والجراثيم والأجسام الغريبة، وفي أبسط طريقة يمكنك أن تجلس أو تستلقي في مكان مريح وتتنفس من خلال الأنف، املأ جسمك بالهواء من الأسفل إلى الأعلى، بحيث يمتلئ بطنك بالهواء أولا ثم صدرك، وأخيرا عظام الترقوة، توقف قليلا لتحتفظ بالهواء، ثم ازفر برفق ليخرج الهواء من أعلى إلى أسفل وتكون البطن في آخر ما يخرج منه الهواء، وكرر الأمر عدة مرات.

تشترك العديد من تقنيات وتمارين التنفس في تأثيرها المهدئ السريع الذي يسري في أنحاء الجسم، وينصح المتخصصون بأن تجرب أحد تمارين التنفس 10 دقائق يوميا، ويمكنك ممارسته بشكل متفرق خلال اليوم، كما يمكنك استخدام بعض التطبيقات مثل "Braethwrk" و"one deep breath" لترشدك إلى كيفية ممارسة التمارين وأفضل الأوقات.

___________________________________________

المصادر:

  1. El Poder Sanador de la Respiración
  2. El poder sanador de la respiración
  3. El poder sanador de la respiración: ¿sabes respirar?
  4. Breathe. Exhale. Repeat: The Benefits of Controlled Breathing
  5. El poder sanador de la respiración
  6. Breathe. Exhale. Repeat: The Benefits of Controlled Breathing
  7. Yogic breathing when compared to attention control reduces the levels of pro-inflammatory biomarkers in saliva: a pilot randomized controlled trial
  8. Breathe. Exhale. Repeat: The Benefits of Controlled Breathing
  9. The physiological effects of slow breathing in the healthy human
  10. The Profound Power of Breathing
  11. El Poder Sanador de la Respiración
  12. The Profound Power of Breathing
  13. Breathwork: How To Tap Into The Incredible Power Of Breath
  14. El poder sanador de la respiración: ¿sabes respirar?
المصدر : الجزيرة