شعار قسم ميدان

"تأثير باتمان" و"ذبابة الحائط".. حيل نفسية تساعدك على التحكم في تفكيرك ومشاعرك

"يعتقدون أنني أختبئ في الظلال، ولكنني أنا الظلال".

(باتمان من فيلم "الرجل الوطواط 2022")

بروس واين، رجل الأعمال الثري الوسيم اللعوب، يتيم الأبوين، شخصية أنانية لا تكترث إلا لتلبية رغباتها والسعي وراء ملذات الحياة. ولكن عندما يُخيِّم الليل على مدينة "غوثام"، تنبثق من الظلال شخصية أخرى لرجل ملتحف بالسواد، يعمل على تطهير المدينة الفاسدة من المجرمين، مُعرِّضا حياته للخطر كل يوم من أجل سكانها الذي يجهلون مَن هو، وفي بعض الأحيان يتهمونه بالإجرام أيضا.

هذا الرجل لا يعاني من اضطراب في شخصيته، ولا يحاول أن يكون منافقا بأي حال، إنما ببساطة يرتدي في النهار "بدلة الفتى اللعوب"، بينما يتشح ليلا بالرداء الأسود المميز لشخصية "المُقتص". يستخدم "بروس واين" حيلة نفسية ذكية تُمكِّنه من تحقيق هدفه الحقيقي النابع من حبه لمدينته، دون أن يؤثر ذلك على صورته أمام الناس، فهل سمعت عن "تأثير باتمان" من قبل؟

فيلم الرجل الوطواط 2022 (مواقع التواصل)

ابتعد عن ذاتك

أشارت أبحاث سابقة على البالغين إلى أن "النأي عن الذات" (Self-distancing) يعمل على تخفيف حِدَّة المشاعر ويساعد على التحكم بها، بينما أفادت نتائج الدراسات المُجرَّبة على الأطفال بأن إستراتيجيات النأي عن الذات تساعد الأطفال على المثابرة على استكمال المهام المطلوبة منهم، رغم الصعاب ورغم وجود مشتتات خارجية. تُصنَّف هذه العملية ضمن إطار "الوظائف التنفيذية" (Executive functions) للمخ، التي تتضمَّن أيضا الذاكرة العاملة، وحل المشكلات، والتفكير المرن، والتحكم في الذات. الآن دعنا نتعمق قليلا في مفهوم "النأي عن الذات"، الذي يُعرَّف بأنه "قدرة الفرد على الانفصال عن ذاته والنظر إليها من بعيد كشخص محايد". (1).

هناك عدة مستويات لهذا الانفصال؛ المستوى الأول هو "الانغماس في الذات" (Self-immersion)، وفيه تكون المسافة بينك وبين ذاتك صفرا، أنت تخاطب نفسك بصيغة "أنا"، وتتوحَّد مع ذاتك أثناء أداء مهامك. المستوى الثاني هو "الشخص الثالث" (Third person)، هنا أنت ابتعدت عن ذاتك بمسافة كافية لتراها شخصا آخر، تتحدث عنه بصيغة "هو"، وتراقبه أثناء أداء المهام وتُقيِّم أداءه. أما عن المرحلة الثالثة، وهي الأقوى بين الثلاثة، فهي "النموذج" (Exemplar)، أنت لم تعد أنت من الأساس، أنت شخصية مختلفة كليا، تمتلك قدرات وصفات مختلفة عن ذاتك الأصلية، وتتحدث عن ذاتك بصفتك هذه الشخصية، ولتكن شخصية "باتمان"، أنت الآن فارس الظلام نفسه.

استخدام إستراتيجية النموذج عن طريق تقمُّص شخصية خيالية واكتساب قدراتها. (بيكسابي)

من هنا جاء مصطلح "تأثير باتمان"، وهي قدرتك على تقمُّص شخصية مختلفة عن ذاتك الأصلية، تعطيك قدرة أكبر على التحكم في الذات وإنجاز المهام الصعبة. اهتمت عالمتا النفس "رايتشل وايت" (Rachel White) و"ستيفاني كارلسون" (Stephanie Carlson) وآخرون بدراسة هذا التأثير في مرحلة حرجة من تكوين شخصية الطفل، وهي عمر ما قبل المدرسة. في هذه المرحلة، عادة ما تكون "المثابرة" (Perseverance) أحد المفاتيح المهمة للنجاح، بداية من مثابرة طفل صغير على محاولة نطق الكلمات حتى ينجح، إلى الطالب الذي يستذكر الفيزياء في الثانوية العامة رغم أنه لا يحبها، إلى الشاب المجتهد الذي يعمل ليل نهار على تطوير مشروعه الخاص.

المثابرة تتضمَّن في تعريفها "الاستمرار رغم الصعاب"، الاستمرار في عملك، في محاولاتك، في استذكارك حتى تنجح، رغم صعوبة المواد، ووجود مشتتات خارجية، وتأخُّر المكافأة التي ستنالها عن نجاحك. لدراسة مستويات المثابرة لدى الأطفال باستخدام إستراتيجيات النأي عن الذات المختلفة، اختيرت مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 3-5 سنوات لاختبار الوظائف التنفيذية للمخ، وقُسِّموا إلى 3 مجموعات، لكلٍّ منها مستوى مختلف من "النأي عن الذات"، ثم قُدِّمت لهم مجموعة من المهام مثل فرز البطاقات وتحديد اتجاه السمكة المختلفة لاختبار قدرتهم على إكمال هذه المهام حتى النهاية.

طُلب من المجموعة الأولى تقمُّص شخصياتهم الحقيقية، ومخاطبة أنفسهم بصيغة "أين يجب أن أضع هذه البطاقة؟" أثناء أداء المهام، بينما طُلب من المجموعة الثانية مخاطبة أنفسهم بصيغة "أين يجب أن يضع (اسم الطفل) هذه البطاقة؟"، كأنما هو شخص ثالث يراقب ما يحدث من بعيد. أما عن المجموعة الثالثة، فطُلب منها تقمص شخصية خيالية من أربع شخصيات عُرضت عليهم، من ضمنها شخصية باتمان، ومخاطبة أنفسهم بصيغة "أين يجب أن يضع باتمان هذه البطاقة؟". ولتعزيز تأثير الشخصية، أُعطي كل طفل رمزا يدل على الشخصية التي اختارها، مثل رداء الرجل الوطواط أو حقيبة "دورا المستكشفة".

عندما يتقمص الطفل شخصية بديلة، يصبح أكثر مثابرة على إتمام المهام حتى في وجود المشتتات المختلفة. (شترستوك)

نُشرت الدراسة في دورية "ديفيلوبمينتال ساينس" (Developmental Science)، وبالنظر إلى النتائج، نجد ملاحظتين شديدتَيْ الوضوح. الأولى، أن الأطفال ذوي السنوات الثلاث فشلوا في المثابرة على المهام المنوطة بهم، رغم استخدام إستراتيجيات النأي عن الذات، على عكس ذوي السنوات الخمس. يُرجِّح الباحثون بالدراسة أن هذا التأثير يرجع إلى عدم تطور "نظرية العقل" (Theory of mind) لدى الأطفال الأصغر، وهي عملية أساسية هدفها التفريق بين الذات ورغباتها وأفكارها، وبين الآخرين ورغباتهم وأفكارهم. الملاحظة الثانية، أن قدرة الطفل على المثابرة على المهام تزداد بازدياد المسافة بينه وبين نفسه، أي في حالة تقمُّص شخصية خيالية أو "ذات بديلة".

ماذا كان باتمان سيفعل؟

حسنا، ماذا لو أصبحت المهام أكثر تحديا ومللا؟ وماذا لو أضفنا بعض المشتتات إلى الوصفة؟ هذا ما قامت به العالِمتان في دراسة ثانية، نُشرت في دورية "تشايلد ديفيلوبمينت" (Child Development)، حيث اختيرت مجموعة جديدة من الأطفال بعمر 4-6 سنوات، وقُسِّموا إلى 3 مجموعات تستخدم كلٌّ منها إستراتيجية مختلفة للنأي عن الذات. استُبدلت بمهام فرز البطاقات مهمة مختلفة على الحاسوب، مع وجود مُشتِّت مُتمثِّل في لعبة على "الآي باد" يستطيع الطفل اللعب بها في أي وقت يشعر فيه بالملل من المهمة المنوط بها. ذُكِّر الأطفال باستمرار بطبيعة مستوى النأي عن الذات عن طريق رسائل مُسجَّلة على الحاسوب تقول: هل تعمل بجد؟ أو هل يعمل (اسم الطفل) بجد؟ أو هل يعمل "باتمان" بجد؟ (2).

هنا زادت صعوبة المهام على الأطفال بجعلِها أكثر مللا عن عمد، وبوضع المُشتِّت المُتمثِّل في الآي باد، ولكن هذا لم يمنع الأطفال في المستوى الثالث من النأي عن الذات، من المثابرة على مهامهم المملة، ومقاومة إغراء اللعبة. يبدو أن الأطفال الذين طُلب منهم التفكير في المهمة كما لو كانوا شخصا آخر -باتمان أو شخصية أخرى- كانوا الأقل عُرضة للانغماس في "الإشباع الفوري" (Immediate gratification)، وأكثر قدرة على الصبر والعمل على هدف طويل المدى نسبيا. ويمكننا من خلال "تجربة المارشميلو" الشهيرة أن ندرك أن الأطفال عادة ما يميلون إلى "الإشباع الفوري" على حساب الجائزة المتأخرة.

تعطينا هاتان التجربتان لمحة عن "تأثير باتمان" أو استخدام "النموذج" للنأي عن الذات، وتعزيز صفة "المثابرة" لدى الأطفال. من المهم هنا التركيز على اختيار الشخصية البديلة، فيجب أن تتمتع هذه الشخصية بالمقومات اللازمة للمثابرة على العمل والنجاح في المهام، فلا فائدة من تقمُّص شخصية خيالية شريرة أو كسولة. من المفترض أن تختار شخصية تُعوِّض النقص الكامن فيك، شخصية أكثر حزما، أو أكثر شجاعة أو أكثر قدرة على الإقناع. يمكنك استخدام هذه الحيلة لتشجيع طفلك على إنجاز مهامه وواجباته، ولكن ماذا عنك أنت؟

تدَّعي بعض الكتب والمقالات أنه يمكنك -كشخص بالغ- خلق "شخصية بديلة" (Alter ego) لتتولى عنك الاجتماعات المملة والمهام الصعبة، وتُحقِّق لك ما تعجز ذاتك الحالية عن تحقيقه في حياتك العملية. في كتابه "تأثير الذات البديلة: قوة الشخصيات السرية التي ستغير حياتك" (The Alter Ego Effect: The Power of Secret Identities to Transtorm your Life)، يأخذك "تود هيرمان" (Todd Herman)، مُقدِّم البرامج والمُتحدِّث العام، في رحلة تفصيلية لكيفية خلق الذات البديلة التي ستحقق من خلالها النجاح في حياتك، ضاربا أمثلة عدة من مشاهير التلفاز والفن الذين استخدموا الإستراتيجية نفسها وأدَّت إلى نجاحهم الساحق في حياتهم العملية.

كتاب تأثير الذات البديلة: قوة الشخصيات السرية التي ستغير حياتك. (مواقع التواصل)

ولكن لا توجد بعد دراسات رصينة على البالغين تقول بإمكانية استخدام الذات البديلة لتخطي المواقف الصعبة. على الرغم مما قد تلاقيه الفكرة من قبول وحماسة، فإن المقالات والكتب المنشورة بهذا الصدد تظل محض تجارب وآراء شخصية لا تستند إلى دليل علمي. ولكن هناك دراسات عن تأثير "النأي عن الذات" في البالغين، لزيادة التحكم في المشاعر والسلوك، والحد من الغضب، وتعطينا أدلة أكثر ثبوتا أن إستراتيجية مثل "الشخص الثالث" أو "ذبابة الحائط" تنجح في الحد من التوتر وتهدئة المشاعر المضطربة والميول العنيفة.

ذبابة الحائط

وجدت إحدى هذه الدراسات أن النأي عن الذات في المواقف المؤجِّجة للمشاعر، سواء كانت مشاعر إيجابية أو سلبية، لا يؤدي فقط إلى الحد من قوة هذه المشاعر، ولكن أيضا الحد من مدتها. قد لا يبدو هذا مشجعا في حالة المشاعر الإيجابية، فنحن بالتأكيد نرغب بالشعور بالسعادة بشكل أكبر ولفترة أطول، ولكن في حالة المشاعر السلبية، كالحزن الشديد، والخوف أو القلق، تصبح هذه الإستراتيجية فعالة للغاية في التغلب على صعوبات الحياة اليومية. إن شعرت بالقلق لمدة أقل كل يوم فستستطيع ممارسة حياتك بشكل أفضل (3).

وفي دراسة أخرى، اختُبِرَت قدرة مجموعة من الرياضيين على التحكم في الغضب والعنف في مواقف مصطنعة في المعمل، للمقارنة بين سلوكهم في حالة الانغماس في الذات (Self-immersion) وفي حالة النأي عن الذات (Self-distancing). وجدت الدراسة، التي نُشرت في دورية "فرونتيرز إن سيكولوجي" (Frontiers in Psychology)، أن النأي عن الذات ودراسة الموقف من الخارج بإمكانه تقليل الغضب والسلوك العنيف للرياضيين، مقارنة بالانغماس في الذات (4).

يساعد النأي عن الذات الرياضيين على تقليل الغضب والسلوك العنيف في المواقف المستفزة.

للاستفادة من "النأي عن الذات" للتحكم في مشاعرك في الأوقات العصيبة يمكنك تجربة بعض الإستراتيجيات التالية: تخيل أنك تخضع لامتحان مهم في المستقبل، وهذا الامتحان سيُحدِّد مصيرك المهني بالكامل، أنت الآن تشعر بالتوتر والخوف من احتمالية الفشل. الآن تخيل أنك مجرد ذبابة تقف على الحائط في هدوء وتراقب الموقف بلا مبالاة، كأنما تشاهد شخصا آخر لا يعنيك يخضع للامتحان. هذه العين الخارجية التي تراقب الموقف تخلق مسافة مناسبة بينك وبين الحدث، مما يعمل على تهدئة مشاعرك، والحد من قلقك بشأن هذا الامتحان الذي لم يأتِ بعد (5).

ماذا لو تعرَّضت لموقف محرج أو مثير للغضب في الحاضر؟ زميلك في العمل سخر منك أمام الجميع، مما جعلك أضحوكة في المكتب. أنت الآن تشعر بالغضب وتُفكِّر برد الإهانة لصاحبها أو ربما باتخاذ رد فعل عنيف ضده. من المفيد هنا أن يكون النأي عن الذات جسديا قبل أن يكون نفسيا، فمغادرة الغرفة على سبيل المثال تخلق مسافة فعلية بينك وبين الموقف، وتمنحك فرصة للتفكير فيه كشخص ثالث غير متورِّط. تخيل الآن أنك زائر من خارج المكتب جاء للتو وشاهد الموقف، كيف كنت ستُحلِّل الموقف؟ وما رأيك الآن في الدافع وراء إهانة زميلك لك؟ وما رد الفعل المتحضِّر الذي يمكن أن تتخذه عندما تعود؟ (6)

اجترار الأحزان والمشاعر السلبية عند تذكُّر مواقف مؤلمة من الماضي مثال على الانغماس في الذات والتوحُّد معها. لو كنت تعاني من هذه المشكلة يمكنك أيضا استخدام النأي عن الذات للحد من فوران المشاعر المصاحب لتذكُّر الأحداث الأليمة، فبدلا من تذكُّر الأحداث كأنما حدثت لك، حاول أن تجعل من نفسك صديقا موضوعيا ينظر إلى الذكريات بحيادية. ليس الهدف هنا تغيير الذكريات أو محوها، بل السيطرة على المشاعر المضطربة المصاحبة لها، صديقك الافتراضي لم يكن متورِّطا في هذه الذكريات بالتالي لن يشعر بالمشاعر المتصاعدة ذاتها، تماما كما لو كان صديقك الحقيقي سيتصرَّف إذا ما سردت عليه ذكرياتك (7).

يعتَبِر عالم النفس الأميركي الشهير "آرون بيك" (Aaron Beck)، وهو أحد مؤسسي علم النفس المعرفي، أن القدرة على النأي عن الذات شرط أساسي لنجاح العلاج المعرفي، وأن نجاح العلاج على المدى الطويل يعتمد على النجاح في تعليم المرضى كيفية النأي عن الذات بمفردهم دون مساعدة. لذا، حتى لو لم تستطع خلق شخصية بديلة كليا كما فعل "بروس واين"، فيمكنك على الأقل أن تسأل نفسك عندما تواجه موقفا عصيبا: ماذا كان (اسمك) سيفعل؟ أو أن تتقمص شخصية الذبابة وتحلق إلى سقف الحجرة وتتأمل الموقف من بعيد. بقليل من المران والممارسة يمكنك إتقان هذه الحيلة، والوصول إلى تفكير أكثر عقلانية، ومشاعر أكثر استقرارا.

__________________________________________________________

المصادر:

  1. What would Batman do? Self‐distancing improves executive function in young children
  2. The “Batman Effect”: Improving Perseverance in Young Children
  3. The relationship between self-distancing and the duration of negative and positive emotional experiences in daily life
  4. Frontiers | Self-Distancing as a Strategy to Regulate Affect and Aggressive Behavior in Athletes
  5. Focusing on the future from afar: Self-distancing from future stressors facilitates adaptive coping.
  6. Regulating Emotion Through Distancing:A Taxonomy, Neurocognitive Model, and Supporting Meta-Analysis
  7. Self-Distancing: Theory, Research, and Current Directions – ScienceDirect
المصدر : الجزيرة