شعار قسم ميدان

رمضان في المغرب.. أنشودة غنية للحواس

"سيدنا رمضان"، هذا هو اللقب الذي يستخدمه أهل المغرب العربي للإشارة إلى الشهر الكريم، وهو لقب يحمل دلالاته حول تلك العلاقة الخاصة بين أهل المغرب وشهر رمضان ومدى قداسته عندهم. في الواقع، يغدو السير في شوارع المغرب الرمضانية متعة وأنشودة للحواس، تتسلل إلى أذنيك في كل شارع عبارة التهنئة المغربية الشهيرة "عواشر مبروكة"، ويقصد بها عواشر شهر الصوم الثلاث؛ عشر‭ ‬الرحمة،‭ ‬وعشر‭ ‬المغفرة،‭ ‬وعشر‭ ‬العتق‭ ‬من‭ ‬النار‭.‬

إلى جانب ذلك، تمتزج أصوات التهليل بروائح التوابل، وتداعب أنفك رائحة حساء الحريرة المتصاعدة من نوافذ البيوت، وتتزين الشوارع ليس فقط بالزينة والأضواء، بل أيضا بسكانها الذين يستعدون لاستقبال شهر رمضان بالملابس التقليدية، حيث تتراجع الملابس المعاصرة وتُفسِح المكان طوال أيام الشهر لبهجة ورهافة الملابس التقليدية التي يحرص الجميع على ارتدائها رجالا ونساء.

أصول متنوعة وروافد غنية

يستعرض الدكتور علي فهمي خشيم في كتابه "الكلام على مائدة الطعام" الصادر عام 1988 في بنغازي عددا من المفردات المرتبطة بالطعام والمطبخ في لغات مختلفة، ويكشف عن عدد من الروابط الغريبة بينها. فعلى سبيل المثال، ربط بين لفظة "كوخ" العربية وكلمة "cook" الإنجليزية، حيث كانت المطابخ تُبنى في أكواخ خارج البيوت اتقاء للسخام الناتج عن نيرانها المشتعلة.

وفي المطبخ يوجد "الفرن" وهو بالإيطالية "forno"، وفيه أيضا "جرة الماء" وهي في الإنجليزية "jar" وفي الإسبانية "Jarra"، والباستا الإيطالية كذلك يتوافق لفظها مع لفظ "بسيطة" العربي، كناية عن بسط العجين وترقيقه، و"الشوكة" بالإنجليزية "fork" قريبة من الجذر العربي "فرق" لكونها ذات أصابع مُفرَّقة.

ولا غرابة في هذه التشابهات، وهي لا تقتصر فقط على الألفاظ، لكنها تمتد أيضا إلى الأطعمة، إذ يُعَدُّ المطبخ وأطعمته من أقوى وأوضح مظاهر التأثير الثقافي المتبادل، حيث تحفظ وصفات الطعام المتوارثة من جيل إلى جيل ما يمر بالأمم من تقلبات، وفي روائح الأطباق يسكن التاريخ بهزائمه وانتصاراته.

في كتابها "المطبخ المغربي" (Moroccan cuisine) تصف بولا وولفيرت سر عظمة المطبخ المغربي بكونه يجمع بين وفرة المكونات، وتنوع التأثيرات الثقافية، وعظمة الحضارة، حيث تأثر بالعديد من الحضارات، سواء الأمازيغية أو المطبخ العربي الأندلسي، وكذلك وصفات الموريسكيين العائدين من إسبانيا، ووصفات العرب الذين غادروا بغداد في العصر العباسي إلى المغرب، مما يجعل المطبخ المغربي اليوم واحدا من أكثر المطابخ العالمية عراقة وغنى.

يعود تاريخ الكثير من طرق الطهي في المغرب إلى أكثر من 20 قرنا من الزمان، حيث عرف السكان الأوائل للمغرب العربي استخدام طرق طهي مثل الطاجين، كما استخدموا مكونات مثل الكسكس والحمص والفاصوليا، التي لا تزال حتى يومنا هذا ضمن المكونات الرئيسية للعديد من الأطباق المغربية الشهيرة.

كما حمل العرب بعد استقرارهم في المغرب التوابل التي جلبوها من فتوحات بلاد الصين والهند، وأدخلوا المكسرات والفواكه المجففة إلى أطباق اللحوم، وهو التأثير المُستقى في الأصل من طرق الطبخ في بلاد فارس. ومع الموريسكيين الذين خرجوا من إسبانيا إلى المغرب، عرفت أطباق المطبخ المغربي مكونات جديدة كزيت الزيتون والموالح. (1) ولا عجب أن التوابل من أهم أبطال الشهر الفضيل في المغرب، حيث يتسابق المغاربة على شراء التوابل قبل بداية الشهر الكريم.

"حين قام فاسكو داجاما برحلته الشهيرة ودار حول رأس الزوابع الذي سمَّاه رأس الرجاء الصالح، عاد بأطنان من الفلفل والقرفة والزنجبيل والفلفل الأحمر والفانيليا والمجوهرات".. (البهارات.. اللقاء الحار بين الحضارات، علي النويشي، مجلة الدوحة عدد 54)

تتنوع أطباق الإفطار على المائدة المغربية بين المالح والحلو، ويلتف جميع أفراد العائلة حول المائدة العامرة بكل ما لذ وطاب بانتظار صوت "الزواكة" المدوي لإعلان الإفطار. ويبدأ الإفطار كعادة العديد من المسلمين في جميع أنحاء العالم بالتمر والحليب، ويفُضِّل البعض الاكتفاء بهما إفطارا خفيفا قبل التوجه إلى الصلاة والعودة مرة أخرى لاستئناف الطعام بعد صلاة التراويح.

الأحساء والمعجنات

يُعَدُّ حساء الحريرة المغربي بطلا أساسيا على موائد الإفطار المغربية في رمضان، حيث تفوح الشوارع في المغرب بروائح الحساء المميز المكوَّن من الطماطم والبصل والبقوليات كالحمص والعدس والشعيرية وقطع اللحم مع أعشاب كالبقدونس والكرفس. كما أن طبق الحريرة هو بطل الأغنية الشعبية التي يحتفل بها المغاربة بليلة قدوم الشهر الكريم، وتقول كلمات الأغنية: "تيريرا تيريرا وغدا الحريرة".

وإلى جانب الحريرة تُعَدُّ حسوة بلبولة أيضا من أنواع الحساء الشهيرة، وتُصنع من الشعير والحليب، وهي من الوجبات التي تُقدَّم على كلٍّ من مائدتَيْ الإفطار والسحور. وغالبا ما يكون الطاجين هو الوجبة الرئيسية على المائدة، ويُطهى في وعاء الطاجين، وهو وعاء مجوف من الفخار دائري الشكل، مع غطاء على شكل مخروط بفتحة علوية لإخراج البخار، ويختلط فيه الطعمان الحلو والمالح، ومن أشهر أنواعه طاجين لحم الضأن مع الزبيب واللوز، وطاجين الدجاج مع الزيتون والليمون أو مع البرقوق.

كما تشتهر المائدة المغربية في رمضان بعدد كبير من المعجنات، من بين أشهرها "البريوات"، وهي واحدة من أشهر الفطائر المغربية التي تُصنع من رقائق عجينة البسطيلة وتُحشى بحشوات مختلفة، مثل حشوات السبانخ أو الجبن أو الدجاج. أما المسمن أو الرغايف فتُصنع من عجينة تشبه الخبز، حيث تُفرَد وتُطوى على شكل مربع قبل قليها.

على الجانب الآخر تلتقي بالملوي، وهو نوع آخر من الرغايف تتكوَّن عجينته من مزيج من الدقيق الأبيض ودقيق السميد، وتُفرد على شكل دوائر وتُطهى حتى يصبح لونها ذهبيا. (2)

وللمشروبات والحلويات نصيب

أتاي (شاي مغربي)

ويحظى الشاي مع النعناع بشعبية كبيرة في المغرب، ويعتبره الكثير من المغاربة مشروبا أساسيا بعد يوم طويل من الصيام، ويُعرف باسم "أتاي"، وهو من المشروبات الأساسية في البيت المغربي طوال العام، وفي رمضان خاصة.

ومن بين أشهر المشروبات الرمضانية في المغرب أيضا حليب اللوز، وهو عبارة عن مزيج من اللوز المطحون والسكر المطهو مع الماء مع القليل من ماء زهر البرتقال، وبعد أن يغلي المزيج معا يُصفَّى ويبرد وتُوضع عليه رشة قرفة قبل تقديمه. بالإضافة إلى النسخة المغربية من عصير قمر الدين شرق الأوسطي الشهير، وهي مزيج عصير البرتقال والمشمش المجفف، كما يُضيف إليه البعض الزبادي أيضا. (3)

وفي رمضان تحلو أطباق الحلوى، ومن بين أشهر الحلويات التقليدية المغربية "الشباكية" أو "المخرقة" التي تصنع من الدقيق والعسل والسمسم وماء الزهر. وكذلك حلوى "السفوف" والمعروفة باسم "سلو" أو "أسلو" بالأمازيغية، التي تتكوَّن من طحين محمص ولوز وسمسم وشمر، وهو الطبق الذي أشار إليه الجغرافي الشهير الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وكتب عنه قائلا: "الطعام المسمَّى بالبربرية آسلوا، وهو أنهم يأخذون الحنطة فيقلونها قليا معتدلا، ثم يدقونها حتى تعود جريشا، ثم يمزجون العسل بمثله سمنا ويعجنون به تلك الحنطة على النار، ويضعونه في مزاود لهم فيأتي طعاما شهيا، وذلك أن الإنسان منهم إذا أخذ من هذا الطعام ملء كفه وأكله وشرب عليه اللبن، ثم مشى بقية يومه ذلك لم يشتهِ طعاما إلى الليل".

الأطفال وتخياط النهار

من بين أشهر العادات المغربية التقليدية في رمضان عادة تسمى "تخياط النهار"، وهي العادة التي تُستخدم لتشجيع الأطفال على صيام شهر رمضان، حيث يصوم الطفل نصف اليوم ويفطر، ثم يصوم نصف اليوم التالي، وبخياطة أو "تخياط" نصفَيْ اليومين بحسب اللهجة الدارجة المغربية يعتبر الطفل قد صام يوما كاملا، وذلك تخفيفا عليه مشقة الصوم.

تحتفي الأُسَر المغربية احتفاء كبيرا بصيام الأطفال، حيث تُقدِّم للأطفال الهدايا من الملابس التقليدية، الجلباب للفتى والقفطان للفتاة، كما تخضب اليد اليمنى للأطفال بالحناء، وتزين رؤوس الفتيات بالتاج التقليدي، ويرتدين ملابس المناسبات التقليدية مثل التكشيطة والقفطان المطرز والصابرة والشقة. كما يرتدي الفتيان الطربوش الأحمر على رؤوسهم، مع زي تقليدي يسمى السوسدي، والبلغة الفاسية في أقدامهم. وتُحمل الفتيات على ما يُسمى "العمارية"، وهو هودج يشبه هودج العروس، أما الفتيان فيركبون على حصان مسرج.

يقودنا ذلك إلى الأزياء الرمضانية. من بين أشهر التقاليد المغربية في رمضان حرص الجميع من الرجال والنساء على ارتداء الأزياء التقليدية، حيث تتوارى الملابس العصرية، وتحل محلها الجبادور والتشامير والدراعيات والكندورات. كما تقتني النساء الجلابيب التقليدية، البسيطة منها للنهارات، والمرصعة لدعوات الإفطار وللزيارات، فتزدهر مبيعات الملابس التقليدية بشكل كبير في رمضان عند الخياطين التقليديين، وإن كانوا يواجهون منافسة شرسة أمام مبيعات الملابس التقليدية الجاهزة، لكنَّ الكثيرين ما زالوا محافظين على عادة شراء الملابس من الخياطين. (4)

النفار

"النفار" هو إحدى أهم الشخصيات الرمضانية في المغرب، وهو مَن يُعرف في مصر بالمسحراتي وفي دول عربية أخرى بـ"أبو طبيلة". أما في المغرب فيُعرف بالنفار نظرا لاستخدامه آلة نفخ نحاسية طويلة إلى جانب الطبلة، يجوب النفار الشوارع والأزقة في عتمة الليل وقبيل الفجر لإيقاظ النائمين للسحور، ويردد النفار منشدا: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ربي وحده، لا شريك له هو الوحيد سبحانه"، ثم ينفخ بآلته أربع مرات.

وعلى الرغم من أن تسمية "النفار" هي الأكثر شيوعا، فإن له تسميات أخرى بحسب الآلة التي يستخدمها، فالنفار هو الذي ينفخ آلة النفير، وهي عبارة عن مزمار طويل يتجاوز طوله مترا، ضيق من جهة النفخ ويتسع تدريجيا إلى الأسفل.

ويُذكر أن آلة النفير تعود إلى الأندلس، وقد انتقلت منها إلى المغرب في نحو عام 725 هجرية، خلال فترة حكم السلطان أبو عنان بن أبي الحسن، الذي شيَّد ثلاثة أبراج بمدينة فاس للبواقين، أي أصحاب البوق، الذين كانوا يستخدمون هذه الآلة للتنبيه. (5) ومن التسميات الأخرى له "الغياط"، وهو الذي ينفخ آلة "الغيطة"، وهي آلة نفخ أصغر حجما من النفير، شبيهة بالناي، مع عدة ثقوب على جانبها وتنتهي ببوق يشبه شكل الجرس، ومن أشهر مدن صناعتها وزان. وهناك أيضا اسم "الطبال"، وهو الاسم الذي يُعرف به أصحاب المهنة في دول أخرى أيضا، ويستخدم طبلة يُشَدُّ عليها رق من الجلد معلقة على كتفه بحزام. (6)

الزواكة من الاستعمار إلى رمضان

"دَادَا دَادَا مِّيمْتِي.. كُبِّي لِيَّا حْرِيرْتِي.. الزَّواكَة زَوْكاَتْ.. مْرَتْ العَرْبِي سَوْكَاتْ".

يُعَدُّ صوت "الزواكة" المدوي في وقت الإفطار واحدا من أهم التقاليد المغربية المتوارثة، التي يدوي صوتها يوميا بوصفها أحد أهم معالم شهر رمضان في المغرب، وهي آلة نفخ كهربائية ظهرت في الفترة الاستعمارية حيث استخدمتها السلطات الفرنسية في زمن الحرب العالمية الأولى صفارة إنذار، وفي زمن الاستعمار كان المغاربة يدققون عليها ساعاتهم في منتصف يوم الخميس.

انتهت الحروب ورحل الاستعمار وبقيت الزواكة جزءا أصيلا من شهر رمضان في المغرب، فعبر إطلاقها يُعلَن عن حلول الشهر الكريم، وعن موعد الإمساك والإفطار، وتتكوَّن الزواكة من ثمانية مكبرات صوت متراصة على نحو دائري في جميع الجهات، مع محرك يعمل بالكهرباء ومولد احتياطي.

بعد رمضان، يأتي عيد الفطر أو "عيد رمضان" كما يُطلَق عليه في المغرب، حيث يتجمع أفراد العائلة حول المائدة بعد عودتهم من صلاة العيد لتناول الأطباق التقليدية مثل المقروط، وهي واحدة من أكثر أنواع الحلوى شعبية في المغرب خلال فترة العيد، وهي عبارة عن عجينة مصنوعة من دقيق السميد المحلى بزهر البرتقال، ومحشوة بعجينة التمر، تُقلى وتغمس في العسل. أما المحنشة فهي مصنوعة من اللوز المغموس بالعسل، ويأتي اسمها من شكلها الدائري الملتوي مثل "الحنش" الذي يعني الثعبان بالدارجة المغربية.

هذا ويرتدي الجميع رجالا ونساء وأطفالا ملابسهم التقليدية المجهَّزة خصوصا للعيد، لتصبح كل أيام رمضان والعيد فرصة لاستعادة الأجواء التقليدية المغربية المميزة.

___________________________________________________________

المصادر:

  1. The Origins of Moroccan Food
  2. The Art of Moroccan Cuisine A Culture of Eating, Drinking, and Being Hospitable
  3. Interesting Ramadan traditions from all around the world
  4. المصدر السابق
  5. النفار تراث رمضاني مهدد بالانقراض
  6. سيدنا رمضان بالمغرب تقاليد وطقوس ينقلها جيل إلى آخر
المصدر : الجزيرة