شعار قسم ميدان

في عيد الأم.. هل أضحت الأمومة مثالية أكثر من اللازم؟

 

"وأصبحت أُمًّا، ككل النساء

مقدسة صرت

طاهرة، مثل تمثال مريم

والشعر لا يرتمي بين أحضان قديسة في المساء!

وأصبحت أُمًّا

وما عاد يملك قلبي رفاهية الاحتراق

ودفء التمرد

والنرجسية

والاشتهاء".

(هند خالد)

القداسة، والمثالية، والتضحية، والقدرة على احتمال المعاناة، كلها مفردات شكَّلت صورة "مثالية" لأمومة تُكرِّسها ضغوط المجتمع من حولنا. وبينما تبدو هذه الصفات تكريما وتشريفا للأم وتقديسا لها، ولذلك نُكرِّر الحديث عنها في كل عيد أم، بل في كل وقت، فإنها في الواقع ربما تؤصِّل لأمومة مثالية مُفترَضة، تضغط على كاهل النساء من مختلف الفئات والظروف لتحقيق معايير مستحيلة.

تقول هناء. م. (اسم مستعار) لـ "ميدان": "لا أعتقد أني كنت أتصرف على طبيعتي أبدا في علاقتي بأطفالي، كنت دائما أستمع إلى نصائح الآخرين، سواء كانوا من أقاربي أو صديقاتي، أو حتى مواقع الإنترنت التي تُقدِّم نصائح للأمهات. واليوم وابني يقترب من مرحلة المراهقة، حين أسترجع اختياراتي، أفكر دائما في اختيارات أخرى أقرب إلى تفكيري، تجنَّبتها خوفا من آراء الآخرين".

تدخل أغلب النساء إلى مرحلة الأمومة بأفكار سابقة حول صورة مثالية يتعيَّن تحقيقها، وهي صورة مُجمَّعة من نثار ضغوط المجتمع، وما نشاهده في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتوقعات العائلة والأصدقاء، مما يُصعِّب عليهن استكشاف أفكارهن الخاصة حول الأمومة، ويضعهن تحت وطأة مشاعر القلق والذنب، في سعي لا ينتهي نحو صورة الأمومة المتخيَّلة، التي ليست بالضرورة قابلة للتحقيق.

أمومة بلا آباء

عادة ما تُقدَّم تربية الأطفال باعتبارها مسؤولية الأمهات في المقام الأول، فيما يُستبعَد الآباء خارج الصورة تماما، وهو تصوُّر ساهم في تعزيزه منهج فرويد في التحليل النفسي، وتبعته كل الكتب والدوريات والمقالات المختصة بالتربية الموجَّهة في المقام الأول للأمهات دون الآباء. روَّجت معظم هذه المنتجات لتصوُّر خاطئ حول قدرة النساء الفطرية على رعاية الأطفال، وهي قدرة يفتقر إليها الآباء في المقابل، غير أن هذا التصوُّر ربما لا يكون دقيقا تماما. في قبائل آكا على سبيل المثال، التي يعيش أفرادها في جنوب غرب أفريقيا الوسطى وشمال جمهورية الكونغو، يقوم الآباء بالدور الأساسي في رعاية الأطفال، ويتواصلون مع أطفالهم جسديا بنسبة أكثر بـ47% من الآباء في المجتمعات الأخرى.

لا يقتصر الأثر السلبي لاستبعاد الأب من رعاية الأطفال على الأمهات فقط، بل يمتد إلى الآباء والأطفال على حدٍّ سواء، حيث يُعزِّز تصوُّرات لا أساس لها من الصحة حول كون رعاية الأطفال مهارات خاصة بالنساء لا يمكن للرجال تعلُّمها، وهو ما يزيح الآباء أكثر نحو الهامش، ويؤكِّد ثانوية وجود الأب في حياة أبنائه ورعايتهم اليومية. (1)

ومن ناحية أخرى، فإن هذا التصوُّر يحجب تحديات عميقة يواجهها الآباء. فالمجتمع الذي يُلقي بعبء رعاية الطفل كاملا على المرأة، يحرم الأب من المشاركة بدوره، حتى إن رغب في ذلك. على سبيل المثال، كم من الآباء يستطيعون الحصول على إجازة لرعاية طفل مريض أو حديث الولادة؟ طبقا لتقرير نشرته اليونيسف، يعيش ثلثا أطفال العالم الذين تقل أعمارهم عن سنة واحدة، أي ما يقارب 90 مليون رضيع، في بلدان لا يحق فيها لآبائهم بمقتضى القانون التمتع بيوم واحد من إجازة الأبوة مدفوعة الأجر.

بدأت بعض الدول مؤخرا في إقرار هذا الحق، حيث وافق مجلس الشيوخ في مصر خلال الشهر الماضي فبراير/شباط 2022 على منح إجازة أبوة للعامل عندما يرزق بطفل مدتها يوم واحد. بينما يكفل قانون العمل في المملكة العربية السعودية إجازة أبوة لمدة ثلاثة أيام براتب كامل، وهي المدة نفسها التي يحصل عليها الموظف طبقا لقوانين العمل في الإمارات العربية أيضا. أما في فنلندا فتمتد إجازة الأبوة إلى ما يقرب من سبعة أشهر، على قدم المساواة مع إجازة الأمومة، وذلك وفق قرار حكومي صدر في فبراير/شباط 2020 .

تنفرد اليابان بالمركز الأول في هذه القائمة، حيث تُتيح للعاملين إجازة أبوة مدتها 30 أسبوعا تقريبا، مُقسَّمة على سنوات عمر الطفل الأولى، لكن اللافت للنظر أن عددا قليلا جدا من الآباء في اليابان يختار الاستفادة من تلك الإجازة حيث يعتبرها البعض وصمة اجتماعية. (2) وليس الآباء اليابانيون وحدهم مَن يعتبرون العناية بالطفل مهمة مقصورة على النساء، ففي العديد من دول العالم، وبالنسبة إلى الكثير من الآباء، فإن خيار أخذ إجازة لرعاية طفل مريض أمر غير مطروح، حيث ينظر إلى رعاية الطفل باعتبارها مهمة خاصة بالأم.

أمومة مثالية.. غير واقعية

تقول هالة. ص. (اسم مستعار) لـ "ميدان": "على مدار 11 عاما، منذ وُلدت ابنتي الأولى، لم يمر علي يوم واحد شعرت فيه بالرضا الكامل عن نفسي. هناك دائما في كل يوم أمر يشعرني بالفشل، كل خيار اخترته جاء مُغلَّفا بالشعور بالذنب. حين اخترت الرضاعة الطبيعية عانت ابنتي من نقص وزنها مما أشعرني بالتقصير، واجهت اتهامات أمي وحماتي بأني لا آكل بما يكفي، وبأني المسؤولة عن عدم كفاية حليب ثديي وجودته بما يكفي للصغيرة المسكينة، وهو ما دفعني إلى اتخاذ قرار إرضاع ابني الثاني حليب الأطفال الصناعي. لكن القرار لم يُرحني كما توقعت، فكلما عانى الصغير من عدوى، أو تأخر في اكتساب مهارة ما، كنت أُرجِع السبب لاختياري أن أرضعه صناعيا وحرمانه من المناعة التي يوفرها له حليب الأم".

أظهرت العديد من الأبحاث الحديثة أن وجهة نظر المجتمعات تجاه صورة الأمومة المثالية تضع ضغوطا إضافية على النساء وترتبط بمستويات أعلى من الشعور بالذنب والتوتر.

بحسب منظمة الصحة العالمية، تعاني نحو 10% من النساء حول العالم من الاكتئاب أثناء فترة الحمل، لتصل النسبة إلى 13% بعد الولادة، وفي الدول النامية ترتفع النِّسَب إلى 16% خلال فترة الحمل وتصل إلى 20% بعد الولادة، بينما ترتفع النسبة في تقارير أخرى لتصل إلى نحو 42% من النساء. (3)

وقد أظهرت العديد من الأبحاث الحديثة أن وجهة نظر المجتمعات تجاه صورة الأمومة المثالية تضع ضغوطا إضافية على النساء وترتبط بمستويات أعلى من الشعور بالذنب والتوتر، وهو ما تتبَّعته ورقة بحثية نُشرت في "the journal Frontiers in Psychology" عن طريق استطلاع شمل عينة من 169 أُمًّا، وخلصت النتائج إلى وجود رابط قوي بين الشعور بالضغط تجاه الأمومة "المثالية" والشعور بالإرهاق الأبوي (parental burnout) وزيادة معدلات القلق والتوتر. كما وجدت أن هناك تأثيرا مباشرا على الطموح المهني للنساء، فقد عانت النساء اللاتي شعرن بمستويات أعلى من الضغط من نقص التوازن بين العمل والأسرة، وهو ما ارتبط مباشرة بانخفاض طموحاتهن المهنية. (4)

إلى جانب ذلك، أظهرت الدراسات أن الضغوط الناتجة عن رغبة الأمهات في الارتقاء للمعايير المثالية للأمومة ارتبطت بزيادة شعورهن بالذنب، وانخفاض معتقدات الكفاءة الذاتية، وارتفاع مستويات التوتر، كما كشفت أن توقعات الأداء المرتفعة من البيئة المحيطة أثارت مخاوف الأمهات الشديدة من الفشل، وقلقهن المفرط تجاه الأخطاء، ما دفع الأمهات إلى التركيز على حماية هويتهن في مواجهة هذا التهديد، بدلا من التركيز على كيفية تحقيق النتائج المرجوَّة وتحسين حياتهن وحياة أطفالهن. (5)

يظهر ذلك أيضا في ما تفعله بعض النساء من تقييد لدور الأب في المشاركة في رعاية الأسرة. فبينما يُكرِّس المجتمع صورة المرأة باعتبارها الوحيدة القادرة على إدارة المنزل ورعاية الأطفال، تسعى بعض النساء نحو الغرق في هذه الصورة، وتقييد مشاركة الأب في رعاية الأطفال، ووضع معايير مرتفعة تعوقه عن المشاركة، والاستماتة في احتكار أداء هذه المهام بأنفسهن، وكأن مشاركة الأب في رعاية الأطفال تُقلِّل من قيمة هوياتهن الاجتماعية بوصفهن أمهات، وهو نموذج يُطلَق عليه "حارسة بوابة الأمومة" (Maternal Gatekeeping).(6)

المزيد من الضغوط

أضف إلى ذلك مشكلة أخرى ربما لا يدركها الكثيرون، تقول أمل. أ (اسم مستعار) لـ "ميدان": "تسخر أمي من معاناتي دائما وتردِّد عبارة: كلنا أنجبنا وربينا ولم نفتح أفواهنا بالشكوى. تتهمني وبنات جيلي بأننا مدللات، لكن أمي تتجاهل أنها لم تربني وحدها. أتذكر أني كبرت في بيت العائلة الكبير في قريتنا، وتشاركت في تربيتي بقية نساء العائلة، جدتي وخالاتي وعماتي والجارات أيضا. أما اليوم فأنا أعيش في شبه عزلة، أزور أمي مرة كل أسبوعين. وعندما أرغب في معرفة معلومة ما، فإنني أسأل عنها غوغل (محرك البحث)".

حسنا، لا يقتصر الأمر على غياب الزوج/الأب واستبعاده من رعاية الطفل فقط، حيث تعاني العديد من الأمهات الشابات من غياب دعم الأسر الممتدة، والشكل المتماسك القديم للمجتمع، خاصة في المدن الكبيرة التي تنفرد فيها كل أسرة بأعبائها الفردية، وهو ما يُلقي بالمزيد على الأم الجديدة، ويتركها فريسة للوحدة في مواجهة هوية جديدة، لا قِبَل لها باستكشافها بمفردها، وإنما تستمد ملامحها من الصور البراقة لأمومة مثالية خيالية بعيدة عن الواقع.

وكأن الظلال المُلقاة على صورة الأم المثالية ليست كافية، ففي ظل رواج مفاهيم العودة إلى الطبيعة والحفاظ على البيئة خلال السنوات الماضية، ظهرت بعض الاتجاهات التي تضع المزيد من الأعباء على فكرة الأمومة، ومن بينها على سبيل المثال "الولادة المؤلمة" التي تشمل التخلي عن استخدام الحقن المخدرة مثل الإبيديورال (Epidural). في العديد من البلدان اليوم، تُعَدُّ الولادة المؤلمة وسامَ شرفٍ وتاجا لصورة الأمومة المقدسة، وهو ما يدفع المزيد من الأمهات إلى التماشي مع هذه الصورة، حتى وإن كان ذلك يعني المزيد من الألم.

يروج البعض مثلا لتصوُّر خاطئ عن أن الأمومة كانت أكثر "مثالية" قبل أن تحصل النساء بشكل واسع على حقوقها في العمل والتعليم، لكن التاريخ والإحصائيات يكشفان عن خطأ ذلك الافتراض.

يمتد الأمر إلى توجُّهات أو "ترندات" أخرى مثل الرضاعة الطبيعية الممتدة لأكثر من ثلاث سنوات، والنوم المشترك لفترة طويلة، واستخدام الحفاضات القماشية القابلة للغسل، وغيرها من التوجُّهات التي تجعل حياة الأم بأكملها تدور في دائرة مغلقة تتعلق برعاية الطفل، دون حتى أن تشعر بالرضا عن نجاحها في ذلك. (7)

يمتد ذلك إلى كل شيء، حيث يروج البعض مثلا لتصوُّر خاطئ عن أن الأمومة كانت أكثر "مثالية" قبل أن تحصل النساء بشكل واسع على حقوقها في العمل والتعليم، لكن التاريخ والإحصائيات يكشفان عن خطأ ذلك الافتراض. ووفقا لدراسة نُشرت في جامعة كاليفورنيا، تقضي الأمهات حاليا وقتا أطول مع أطفالهن مما اعتدن فعله قبل أكثر من نصف قرن.

وجدت الدراسة التي ركَّزت على آباء وأمهات تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 65 عاما أن الأمهات في عام 1965 أمضين 54 دقيقة يوميا في المتوسط ​​في أنشطة رعاية الأطفال، في حين أن متوسط الزمن الذي تقضيه ​​الأمهات في عام 2012 في رعاية أطفالهن كان ضِعْف ذلك بمعدل 104 دقيقة يوميا، وأمضت الأمهات الحاصلات على تعليم جامعي ما يُقدَّر بـ 123 دقيقة يوميا في رعاية الأطفال، مقارنة بـ 94 دقيقة تقضيها الأمهات الأقل تعليما.

حسنا، بمجرد أن تعرف الأم بحدوث الحمل تدخل في دائرة ماراثون لا ينتهي للفوز بلقب "الأم المثالية"، لتحقيق توقعات المجتمع، وتوقعاتها الشخصية التي تعكس كل ما نشأت عليه من مفاهيم. تبدأ في اتباع نظام غذاء صحي وتراقب كل ما يدخل جوفها من طعام أو شراب خلال الحمل، وتشرع في تشغيل الموسيقى للجنين بمجرد تكوُّن حاسة السمع. وبعد الولادة، تولي الأم اهتمامها الكامل لطفلها، ولا تمل من اللعب معه لساعات، تتحمَّل ساعات البكاء والكلمات المتكررة والإلحاح غير المنطقي دون أن تفقد أعصابها أبدا.

تنتقل في رحلات مكوكية ما بين التمارين الرياضية والدورات التعليمية، وتفاضل بين التعليم المنزلي والمدارس الدولية، وتنهمك بأكملها في سعي للوصول نحو مثالية مستحيلة، في عالم من المنافسة الخاضعة لأحكام الآخرين. آن الأوان لبذل جهد حقيقي لتخليص الأمهات من أسر تلك الصورة، لمصلحة الأم والأطفال والمُجتمع جميعا.

__________________________________________________________

المصادر:

  1. Selling the Myth of the Ideal Mother
  2. تمتلك اليابان أفضل نظام لإجازة الأبوة. لكن من يستخدمه؟
  3. Nearly half of new mothers with mental health problems don’t get diagnosed or treated
  4. Feeling Pressure to Be a Perfect Mother Relates to Parental Burnout and Career Ambitions
  5. Maternal guilt
  6. rethinking maternal gatekeepeng
  7. Parent trap: why the cult of the perfect mother has to end
المصدر : الجزيرة