شعار قسم ميدان

لماذا لا تعد متابعة مباريات كرة القدم مضيعة للوقت؟

SYDNEY, AUSTRALIA - DECEMBER 4: Supporters of Australia's national football team react as they watch the public viewing of the FIFA World Cup Qatar 2022 match between Australia and Argentina at Darling Harbour on December 4, 2022 in Sydney, Australia. Australia faced Argentina in a knock-out stage match in the World Cup, after they defeated Denmark to gain entry into the round of 16. (Photo by Roni Bintang/Getty Images)

مقدمة للترجمة:

يرى الكثيرون في متابعة وتشجيع كرة القدم، والفرق الرياضية عموما، مضيعة كبيرة للوقت. لطالما انتشرت تلك الفكرة قديما حتى بين المفكرين والفلاسفة، لكن عبده الناقوري، الباحث في جامعة ووترلو والكاتب بمنصة "سايكولوجي توداي"، يجمع دلائل بحثية حديثة تُشير إلى أن الأمر يقف تماما على النقيض من ذلك، وأن هناك بالفعل فوائد نفسية جمة لهذا السلوك، لكنه مثل أي شيء آخر لا يخلو من السلبيات.

 

نص الترجمة:

في يناير/كانون الثاني عام 2020، تمخض الجو الراكد عن صاعقة تقتلع الأعصاب من جذورها عندما تحطمت طائرة هليكوبتر فوق مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأميركية، ما أسفر عن مقتل جميع ركابها، وكان من بينهم نجم كرة السلة الأميركي كوبي براينت الذي اهتز لوفاته العالم كله. زحف الحزن مهيبا قاسيا على الجميع وأولهم مشجعو فريقه الذين انسحقوا تحت وطأة الخبر، وجفتْ حيوية أرواحهم بتلقي كلٍّ منهم لطمة داهمة في اليوم الذي تحطمت فيه الطائرة، في حين تدفق الآلاف إلى شوارع لوس أنجلوس مكلومي الفؤاد تعبيرا عن تضامنهم. انتفضت الشوارع بمشاعر متضاربة، وامتلأت بلوحات جدارية عن كوبي براينت في كلٍّ من نيويورك ونابولي. وفي ذكراه، شُيِّدتْ منحوتات رملية في كاليفورنيا والهند.

 

في خضم ذلك كله، قد يتساءل البعض: أليس هذا الجو المُفعم بالبلبلة، الصاخب بالأصوات والمشاعر المتضاربة، قد يكون مُبالغا فيه بعض الشيء بالنسبة لمجرد وفاة لاعب كرة سلة؟ ألا يُفصح ذلك كله عن ثقافة اقتحمها هوس شديد بالرياضة؟ يرى عالم الاجتماع الرياضي غاري سميث أن مشاهدة الرياضة تُثير تنهدات الأسى في أعماق صدور الكثيرين باعتبارها مضيعة مُحزنة وخطيرة للوقت حيث يقول: "أكثر هؤلاء المستائين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية أو نخبة المجتمع التي تعتبر التشجيع الرياضي ثقافة دون المستوى، لأنها مُخصَّصة للجمهور، وهذا ما يجعلها تفتقر إلى الأصالة والصقل. وترى هذه النخبة أن زيارة معرض فني أو الذهاب إلى الأوبرا أو حضور حفل موسيقي سيكون أفضل من مشاهدة مباراة لكرة القدم".

 

في مثال ساحر آخر على هذه النخبوية، أعلن عالم الاجتماع جورج إليوت هوارد في أوائل القرن العشرين أن التشجيع الرياضي "مثال فريد على الانحراف العقلي، وعادة سخيفة تنطوي على جوانب عبثية وغير أخلاقية، وتُعَدُّ سيئة من كل النواحي". لكن وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة غالوب عام 2015 (وهي شركة تحليلات واستشارات أميركية)، فإن أكثر من 60% من الأميركيين والبشر حول العالم الذين يعتبرون أنفسهم من عشاق الرياضة لا يتفقون مع أفكار هوارد . ولحُسن الحظ، بدأ علماء النفس وخبراء الاقتصاد في اختبار أثر التشجيع الرياضي على البشر، والمثير للانتباه أن الأدلة سحقت كل أصابع الاتهام الأخلاقية التي تحوم حول الموضوع، إذ اتضح أن كونك من مشجعي الرياضة قادر على أن يُنعش وجدانك ويبعث فيك قدرا كبيرا من البهجة والسلام النفسي.

 

خلق أواصر بيننا وبين الآخرين

DOHA, QATAR - DECEMBER 03: Australia fans show their support prior to the FIFA World Cup Qatar 2022 Round of 16 match between Argentina and Australia at Ahmad Bin Ali Stadium on December 03, 2022 in Doha, Qatar. (Photo by Robert Cianflone/Getty Images for Football Australia)
تخلق الرياضة نوعا من التآلف بين البشر يُجبرنا على ألا ننأى بأنفسنا عن الآخرين، وأقرب مثال على ذلك هو استعدادنا لأن نتجاذب أطراف الحديث عن المباراة مع أحد الغرباء (غيتي)

في كتابهما المنشور مؤخرا بعنوان: "عشاق الرياضة: التأثير النفسي والاجتماعي وراء ظاهرة التشجيع الرياضي"، استطاع كلٌّ من دانيال وان وجيفري دي جيمس، الأستاذان بجامعة موراي وجامعة ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة، توثيق الأدلة المتزايدة للفوائد التي ينطوي عليها التشجيع الرياضي. وهما يؤكدان إن ارتباطنا بفرق رياضية مُفضلة نُغدِق عليها عواطفنا يُشكِّل نقاط ثِقل إدراكية تعطي معنى لحياتنا. قد تتساءل في بعض الأحيان كيف لشيء يبدو تافها على غرار اشتعال شهيتك باستمرار لمشاهدة المباريات أن يُساهِم في تحسين صحتك النفسية، لكن ما لا تفطن إليه أن جزءا من الإجابة يكمن في قدرة الرياضة دائما على إبقاء آصرة بيننا وبين الآخرين.

 

تخلق الرياضة نوعا من التآلف بين البشر يُجبرنا على ألا ننأى بأنفسنا عن الآخرين، وأقرب مثال على ذلك هو استعدادنا لأن نتجاذب أطراف الحديث عن المباراة مع أحد الغرباء في المقهى. كما أن متابعة المباريات تُعيد إحياء أُلفة البيت بالتجمعات العائلية التي تخلق في نفوسنا جوا مُحبَّبا، فننخرط في ذلك الدفء الأسري، كما أنها أيضا وسيلة لإعادة تشييد الجسور بينك وبين صديق قديم عن طريق مراسلته وإخباره عن فريقك الذي -في سبيل طموحه- لم يكف عن المحاولة، وها هو أخيرا يُقدِّم أداء جيدا. ثمة فكرة أساسية تقوم عليها الرياضة، وهي أنها تحشد الناس حول قضية مُشتركة، فيخلق ذلك إحساسا بالانتماء.

 

في دراسة نُشرت عام 2016 بمجلة "ذا جورنال أوف سبورت مانچمينت" (the Journal of Sport Management) توصل كلٌّ من الدكتور بوب هيري وماثيو كاتز إلى التبعات النفسية التي خلَّفها إنشاء فريق جديد لكرة القدم في إحدى الجامعات وتأثيره على الطلاب. أظهرت الدراسة أن وجود الفريق ساعد الطلاب على اكتساب درجة من الحميمية الصادقة بينهم، وغذّى فيهم إحساسا أكبر بالهُوية الجماعية على مدى ثلاث سنوات. وجود فريق جديد خَلق فرصة لإقامة حفلات قبل المباريات، لتبتلع الطلاب حومة من الحماس، وتتسرب إلى قلوبهم عواطف متأججة بعدما يمتلئ الحرم الجامعي بقمصان الفريق. كل تلك المشاعر التي طُبعتْ بعمق على وجدانهم جعلت لوجودهم معنى، وبدلّت وحشة أيامهم بالأُنس جرّاء شعورهم بأنهم باتوا الآن جزءا من شيء أكبر يتمخض عنه شعور بالتكاتف والائتلاف.

 

توحيد الشعب والشعور بالروح الوطنية

DOHA, QATAR - DECEMBER 01: Morocco fans celebrate in Souq Waqif after getting through to the Round of 16 during the FIFA World Cup Qatar 2022 at on December 01, 2022 in Doha, Qatar. (Photo by Christopher Lee/Getty Images)
صحيح أننا نعيش مشغولين بالآمال الكبار، لكن قلوبنا تستطيع أيضا أن تتنسم الحياة لبعض الوقت عن طريق مشاهدة وتشجيع الفرق الرياضية، وبالأخص في النهائيات، التي تتمثل لنا كنافذة مفتوحة نُطلِق منها حريتنا في ساعات الضيق. (غيتي)

في أعقاب الحرب الأهلية الأميركية، كانت محاولة خلق مجموعة من مشجعي الرياضة هي الأداة التي ستلعب دورا في توحيد الشعب، وتَطلَّع حينها الزعماء الوطنيون إلى توحيد دولة مُمزقة عن طريق لعبة البيسبول باعتبارها هواية وطنية تجد جذورها في روح المواطنين، وقادرة على لم شمل دولة تكتنفها أحوال تدعو إلى اليأس. وهذا ما لاحظه طالب الدكتوراه بجامعة ييل "زاكاري براون"، الذي اكتشف أن لعبة البيسبول حينها كانت اهتماما مشتركا قادرا على توحيد الشمال والجنوب. انسحقت الحدود الاجتماعية والطبقية أمام هذه اللعبة، ووفرت الأخيرة واحة ينعم فيها الجميع بالمساواة، تلاشت الفروقات بين الضباط والجنود في اللعبة، ومُنحت الأولوية حينها للمهارات الرياضية لا للمكانة الاجتماعية.

 

على الرغم من أن الرجل الأبيض حاز بالطبع وقتها على بعض الامتيازات، فإن الحقيقة التي لم يكن لأحد أن يُنكرها هي أن الرياضة قادت المشجعين نحو طريقة حياة عززت فيهم شعورا بالوحدة الوطنية. وذلك ما تؤكده بعض الدراسات، منها دراسة أُجريت على أكثر من 2000 مشارك ألماني، أفاد أكثر من 66.6% منهم بمدى شعورهم بالسعادة والفخر الوطني عندما فاز اللاعبون الألمان بميداليات في الألعاب الأولمبية أو بطولة العالم. المُثير للدهشة أن هذا الإحساس لم يقتصر على طبقة معينة، بل حفر أثره في صدور الناس على اختلاف طبقاتهم، بما فيهم النساء ذوات التعليم المتدني والدخل المنخفض والمهاجرون الذين كانوا أشد فئات المجتمع حماسا. وفي دراسة أخرى استمرت لمدة عامين على المواطنين الهولنديين، تبيَّن في النهاية أيضا أن مشاعر الفخر الوطني والانتماء تزداد كلما أظهر اللاعبون الهولنديون أداء جيدا.

 

صحيح أننا نعيش مشغولين بالآمال الكبار، لكن قلوبنا تستطيع أيضا أن تتنسم الحياة لبعض الوقت عن طريق مشاهدة وتشجيع الفرق الرياضية، وبالأخص في النهائيات، التي تتمثل لنا كنافذة مفتوحة نُطلِق منها حريتنا في ساعات الضيق. إذا نزلت إلى الشوارع وقتها، فستجد نفسك تتجول في جنبات عالم حافل بالغناء والرقص العفوي والصراخ، وتنسجم تماما مع الغرباء، وكأن الناس بلغوا بهذه السعادة أقصى ما يتمنون. وعلى الرغم من أن لحظات كهذه لا نشهدها إلا بعد انتهاء حرب، أو الإطاحة بنظام سياسي، فإن الرياضة قادرة على منحنا لحظات فاتنة يصعب تفسيرها ووصفها، بل ويمكن أن تضاهي سعادتنا بانتهاء حرب ما.

Soccer Football - FIFA World Cup Qatar 2022 - Fans in Buenos Aires watch Argentina v Australia - Buenos Aires, Argentina - December 3, 2022 Argentina fans celebrate after the match REUTERS/Agustin Marcarian
(رويترز)

لكن كأي شيء في الحياة له إيجابياته وسلبياته، لا تخلو مشاهدة الرياضة أيضا من جوانب سلبية، كاندلاع أعمال الشغب من وقت إلى آخر، أو مُبالغة الناس أحيانا في تعلُّقهم بالفرق واللاعبين لدرجة الهوس، لذا تسوء الأمور في بعض الأحيان. ورغم ذلك، ما زالت الرياضة تُقدِّم على الأقل وسيلة أكثر سلاسة لإحياء الأواصر بين البشر، وهي بديل أقل تدميرا من الأحزاب السياسية أو التطرف الديني. وبعيدا عن الأهداف السامية المُتمثلة في الوحدة أو الانتماء، يمكن للرياضة أن تكون في حد ذاتها وسيلة تجعل إطلاق المُتعة ممكنا. فأثناء جائحة كورونا، عندما لم يتسنَّ للجمهور حضور المباريات في الملعب، باتت القلوب مع الوقت ثقيلة، والأفق مُتجهِّم، وسرعان ما اجتاح الناس شعور بافتقاد المباريات. لكن بمجرد أن عادت الأمور إلى مستقرها، خامر الجمهور إحساس بأن الملاعب باتت مصدر ملهاة لهم وترويح عن نفوسهم.

 

لماذا إذن يرى الكثير من الناس أن الرياضة مضيعة للوقت؟ لماذا تبدو بالنسبة إليهم أقل قيمة من حضور معرض فني أو الذهاب إلى دار الأوبرا أو الاستماع إلى حفل موسيقي؟ هل مُتعة مشاهدة فريقك المُفضل أقل أهمية من استماعك إلى مطرب ماهر يتمتع بطبقة صوت متميزة؟ قد تكون حجة البعض أن الفن أو الأدب هما في الأصل قوة نشعل بها شمعة الإلهام، ووقود مهم للانخراط الكامل في الحياة بطريقة تعجز الرياضة عن توفيرها. غير أن الأخيرة قدمت لنا نماذج كثيرة منها كوبي براينت الذي ألهم الملايين طوال مسيرته الرياضية، ونسج موته نقابا من اليأس والحزن حول مشجعيه، وودّعوه بقلوب حزينة، فقد كان أثره متجذرا في الملايين لسبب واحد، وهو قدرته في النهاية على جلب الفرح والمعنى لحياتهم عن طريق الرياضة.

——————————————————

هذا المقال مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية