شعار قسم ميدان

إيلون ماسك يقيل موظفيه برسالة.. هكذا جعل التواصل الإلكتروني سوق العمل أكثر قسوة

خلال أحداث فيلم "You’ve Got Mail"، الذي أُنتج عام 1998، من بطولة "توم هانكس" و"ميغ رايان"؛ كانت نغمة تنبيه الرسائل الإلكترونية تحمل للبطلين الكثير من الراحة، لأنهما يعرفان أنهما سيقرآن كلمات مؤنسة رائقة من المرسل. ولكن على عكس ما أظهرته مشاهد الفيلم الرومانسي، قد تحمل نغمة تنبيه الرسائل الإلكترونية في الحياة الواقعية خبرا مفاجئا سيئا لم تتوقعه. هذا ما حدث لموظفي شركة تويتر خلال الشهر الجاري.

موظف يعمل منذ سنوات في مكان ما، في طريقه اليومي للعمل يسمع من هاتفه تنبيها ينبئه باستلام رسالة بريد إلكتروني، يُمرر عينيه سريعا على الرسالة الصادمة التي تخبره أن الشركة التي يعمل فيها تمر بـ"عملية صعبة متمثلة في تقليص القوى العاملة العالمية، وهو ما سيؤثر على عدد من الأفراد الذين قدموا مساهمات قيمة في الشركة"، وأن عليه أن يتفقد بريده الإلكتروني مجددا في وقت لاحق محدد ليعرف إذا ما كان سيستمر في عمله أم أنه سيتم فصله.

كان هذا هو ما حدث بالفعل مع موظفي تويتر بعد سيطرة الملياردير إيلون ماسك على الموقع، وفقا لما نشرته واشنطن بوست. بعد استلام البريد الإلكتروني، فقَدَ بعض العمال بالفعل وصولهم إلى الأنظمة الداخلية مثل خدمة البريد الإلكتروني وتطبيق سلاك لتبادل الرسائل، قال أحد العاملين في الشركة للصحيفة الأميركية، إنه خلال الساعات التالية لاستلام الرسالة بدأت أعداد الموظفين تتضاءل في قنوات سلاك، الناس كانوا يسقطون مثل الذباب(1).

تخيل أن تنتهي سنوات من حياتك وعملك الدؤوب لصالح مكان ما برسالة إلكترونية جافة ومباشرة. أنت لن ترى نظرة ممتنة في عين مديرك على ما بذلته من جهود، لن تسمع نبرة الصوت الآسفة التي تحاول أن تخفف عنك حدة القرار وتخبرك أنه لا أحد كان يريد هذا الأمر لكنه اضطراري رغما عن الجميع، لا يوجد هنا أي اتصال إنساني ولا تحصل حتى على حقك من مشاعر الامتنان والأسف من مكان عملك بعد سنوات من الجهد، لا يوجد سوى تواصل إلكتروني، ولغة جافة تخبرك بمعلومات وإجراءات محددة ينبغي القيام بها.

بيئات عمل قاسية

يمكن اعتبار أن التواصل الإلكتروني قد أسهم -بشكل ما- في زيادة قسوة أسواق العمل المختلفة، لا يقتصر الأمر على الإقالة عبر الفضاء الإلكتروني فقط، فقسوة التواصل الإلكتروني فرضت نفسها وأحكمت قبضتها حتى على خطوات دورة العمل ذاتها، بعدما غيرت الطريقة التي تتواصل بها الشركات مع الموظفين والعملاء والموردين.

ومؤخرا، أدى انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى تسريع هذا التحول الضخم في التواصل نحو نقطة اللاعودة. خلال فترة الوباء، أعادت العديد من المنظمات تصور أنظمة الاتصال الخاصة بها مع موظفيها، واستبدلتها لصالح العمل المرن من المنزل بشكل كلي أو جزئي. أصبحت الاتصالات الرقمية هي القوة الرائدة في طريقة العمل الجديدة هذه.

(شترستوك)

يشمل تعريف الاتصال الإلكتروني في العمل جميع أشكال التواصل عبر الإنترنت الخاصة بمنظمة أو شركة ما، بدءا باستخدام الرسائل الإلكترونية، ووصولا إلى نقل المعلومات عبر الوسائط الرقمية(2). بعد أن أصبح التواصل الإلكتروني سائدا في كثير من المؤسسات والشركات، أصبح بالتبعية هناك المزيد من التعامل مع أدوات مؤتمرات الفيديو مثل "زووم (Zoom)"، وقنوات المراسلة مثل "سلاك (Slack)" أو "واتسآب (WhatsApp)"، هذا يعني أيضا حدوث تحول في ثقافة الاتصال والتواصل بين مكان العمل والموظفين به.

يضمن التواصل الجيد في مكان العمل حصول الموظفين على المعلومات التي يحتاجون إليها لتحقيق أداء جيد ومتميز، وبناء بيئة عمل إيجابية، والقضاء على أوجه القصور المحتملة. يجب أن ينقل الاتصال الفعال المعلومات بدقة، مع الحفاظ على العلاقات البشرية أو تحسينها. في المقابل، يكون لسوء التواصل عواقب شديدةِ السلبية على العمل، خلال العام الجاري وجدت دراسة استقصائية أجرتها شركة "Expert Market" أن 28% من الموظفين ذكروا ضعف التواصل سببا لعدم تمكنهم من إنهاء المشاريع في الوقت المحدد(3).

صندوق الوارد الذي يغير حياتنا

حسنا، كان للبريد الإلكتروني تحديدا تأثير عميق على المجتمعات من خلال تغيير كيفية تواصل البشر. لقد قلّل كثيرا من استخدام البريد التقليدي، حيث خلصت دراسة أجريت عام 2013 إلى أن البريد الإلكتروني قد حقق استبدالا بنسبة 92٪ للرسائل المكتوبة بوصفها وسيلة للاتصال الشخصي(4). يمكن بملاحظة بسيطة للواقع من حولك الآن أن تعرف أن الأمر قد لا يقتصر على البريد التقليدي، فقد أصبح البريد الإلكتروني يحل محل الزيارات الاجتماعية والمكالمات الهاتفية أيضا.

(شترستوك)

في العمل، تستخدم الشركات والمؤسسات الكبيرة أنظمة البريد الإلكتروني باعتبارها حلقة اتصال مهمة بين الإدارة والموظفين وبين الموظفين وبعضهم البعض، لا يحتاج مديرك للمجيء إلى مكتبك أو استدعائك أو حتى محادثتك هاتفيا لكي يطلب منك مهمة ما، كل ما عليه الآن هو أن يرسل إليك رسالة مكتوبة عبر البريد الإلكتروني، تحمل عنوان "عاجل" (Urgent). صحيح أنه يمكن الآن تلقي رسائل العمل عبر تطبيقات الدردشة المختلفة المتاحة على الهواتف الذكية، لكن لا يزال البريد الإلكتروني هو الشكل الأكثر انتشارا للتواصل الإلكتروني داخل المنظمات، وقد أعطى الاستخدام المتزايد للأجهزة المحمولة في الأعمال تجربة البريد الإلكتروني بعدا جديدا(5).

بفضل البريد الإلكتروني، بات بإمكان للموظفين التفاعل والتعاون دون الحاجة إلى إجراء محادثة وجها لوجه، هذا الأمر ليس إيجابيا بدرجة تامة، فوفقا لورقة بحثية نشرتها "Cyber ​​Psychology"، غالبا ما يؤدي انعدام التواصل المباشر إلى حدوث سوء فهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالفكاهة أو السخرية، وهو ما قد يقلل من الفعالية في الاتصال(5). رغم أنه من أهم مزايا التواصل الإلكتروني هي السرعة في إنجاز المهام والأعمال، فإن الاتصال السريع ليس بالضرورة اتصالا جيدا، حيث يؤدي الإفراط في استخدام البريد الإلكتروني في الاتصال إلى العديد من الخسائر. يمكن لشركة تضم 100 موظف أن تتوقع خسارة ما يقرب من 450 ألف دولار سنويا أو أكثر بسبب الأخطاء الفادحة في البريد الإلكتروني وعدم الكفاءة وسوء الفهم.

تُعدّ المهارات الكتابية الضعيفة إحدى أكبر مشكلات البريد الإلكتروني. وجدت دراسة حديثة أجرتها اللجنة الوطنية للكتابة أن الشركات الأميركية تنفق ما يصل إلى 3.1 مليارات دولار سنويا لمعالجة أوجه القصور الكتابية لموظفيها. تشكل أوجه القصور هذه الغموض في بيان المطلوب، والمعلومات غير الكاملة والمعلومات الزائدة عن الحد، كذلك من أبرز الأخطاء أن يكون البريد مكتوبا بنبرة قاسية أو متطلبة (6).

من ناحية أخرى، يعتبر إرسال الإدارات لعشرات الرسائل عبر البريد الإلكتروني مشكلة متنامية للعديد من العمال. أحيانا يكون الموظفون غارقين في متابعة رسائل البريد الإلكتروني؛ ما قد يضطرهم إلى تجاهل واجبات وظيفية أخرى مهمة. على الجانب الآخر، فإن المديرين الذين يقضون الكثير من الوقت في قراءة رسائل البريد الإلكتروني من الشركاء والموردين والعاملين والعملاء، والرد عليها، يكون لديهم وقت أقل لتدريب مرؤوسيهم وتحفيزهم. لكن تكاليف البريد الإلكتروني تقع في النهاية بشكل غير متناسب على المتلقي الذي يتعين عليه التعامل مع كميات مفرطة من الرسائل والطلبات في أسرع وقت ممكن(5).

القليل من التواصل والمزيد من التوتر

(شترستوك)

ربما كان التواصل في مكان العمل مصدرا للتوتر والقلق بالنسبة إلى الموظفين والعمال حتى قبل فترة طويلة من العصر الرقمي. تخيل مديرك يخرج من مكتبه ويأتي إليك ليخبرك أن تلحق به في مكتبه، أو يتصل بك للحصول على تقرير حالة عن مشروع معين، هذه الأنواع من المواقف تولد دائما ضغوطا وشعورا بالقلق والتوتر. قد تعتقد أن التواصل الإلكتروني خفف من حدة هذا الأمر لأنه لم يعد مطلوبا أن يكون التواصل مباشرا، ولم يعد لزاما عليك أن تتحكم في انفعالات وجهك ونبرة صوتك ولغة جسدك إذا سمعت من مديرك ما يزعجك، لأن كل ما سيصل إليه من رد فعلك، في حال التواصل الإلكتروني، هو بضع كلمات سيقرؤها من خلف شاشته. لكن الأمر ليس إيجابيا تماما، فمع التحول إلى التكنولوجيا الجديدة لتسهيل المحادثات، أصبح الاتصال أسهل وأسرع، لكن فعاليته قلت بشكل ملحوظ.

لم يقلّ التواصل فقط، بل زاد التوتر أيضا، وذلك بعد أن انهارت الحدود بين حياتنا المهنية والخاصة، لم يعد يقتصر تواصل الموظف مع المدير أو صاحب العمل على أوقات العمل الرسمية، قد يكون الموظف يتناول وجبة العشاء أو يضع أطفاله في السرير بينما يتلقى رسالة عمل من شركته؛ الأمر الذي يخلق شعورا بالحاجة إلى العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تجعل سرعة الاتصالات الرقمية الموظفين يشعرون بأن كل رسالة يتلقونها تتطلب استجابة فورية؛ الأمر الذي يخلق بدوره المزيد من الضغط. وجد الباحثون أنه عندما يتلقى الموظفون بريدا إلكترونيا بعد ساعات العمل، فإنهم يميلون إلى المبالغة في تقدير السرعة التي يتوقع بها المرسل ردا. عُرفت هذه الظاهرة باسم "تحيز إلحاح البريد الإلكتروني"، وقد رُبِطت بانخفاض الشعور بالرفاهية وارتفاع مستويات الإجهاد الوظيفي(7).

(شترستوك)

أيضا هناك مستوى إضافي من القلق يتمثل في تلك النقاط الثلاث الصغيرة التي تشير إلى أن الشخص المقابل لك يكتب رسالة لك في الوقت الراهن، عندما تظهر هذه النقاط بجوار اسم رئيسك في العمل، فإنها تمنحك وقتا لتخيل وتحليل ما قد يقوله بشكل مفرط، ولأنهم يعرفون أنك متصل بالإنترنت، فهناك ضغط للرد في أسرع وقت ممكن، حتى لو كنت تفعل أمرا آخر.

يمكن القول إن التواصل الإلكتروني قد تمكن من خلق طبقة جديدة كاملة من التعقيد في التعامل خلال العمل، فبدلا من التواصل المباشر الذي يتيح شرح المعنى المقصود وإيصاله بسلاسة أكبر ويسمح بطرح التساؤلات والحصول على إجابة مباشرة وسريعة عنها، فإن الأمر يتحول إلى سلسلة طويلة من الرسائل على منصات التواصل المهنية. (8).

رسائل صباحية تصرخ بوجهك!

لنزيدك من الشعر بيتا. تخيل أنك تستيقظ صباحا على رسالة بريد إلكتروني في صندوق الوارد الخاص بك كُتِبت بالكامل بأحرف كبيرة، تثير هذه الرسالة حواسك، وتجعلك تنتبه أسرع بكثير من فنجان القهوة الذي ترتشفه. باستخدام مفتاح "Caps Lock" ووضع علامة تعجب في النهاية، يكون زميلك أو مديرك في العمل قد فعل ما يعادل الصراخ في وجهك أثناء التواصل المباشر.

هذه الرسائل الإلكترونية "الصارخة" آخذة في الارتفاع بشكل كبير في بيئات العمل المختلفة (9). خلال دراسة أُجريت عام 2009، قال أكثر من 90% من المهنيين الذين شملتهم الدراسة إنهم تعرضوا لمبادلات بريد إلكتروني سيئة وربما مهينة في العمل. خلال الدراسة نفسها، جرى البحث في تأثير الفظاظة الإلكترونية في أماكن العمل على الرضا الوظيفي للموظف والالتزام التنظيمي ونية ترك العمل. أظهرت نتائج الاستطلاع أن الفظاظة الإلكترونية كانت مرتبطة سلبا برضا الموظفين الوظيفي والالتزام التنظيمي، وكان الموظفون الذين عانوا من الفظاظة الإلكترونية أيضا أكثر عرضة لترك وظائفهم أو الانخراط في سلوك سلبي ضد مؤسستهم(10).

أظهرت الدراسات كذلك أن التعامل مع رسائل البريد الإلكتروني الفظة في العمل يمكن أن يخلق ضغوطا طويلة الأمد ويؤثر على رفاهية المستلم. في تجربة محاكاة، واجه المشاركون الذين تلقوا مثل هذه الرسائل من رئيسهم المزيد من المشاعر السلبية، ووجدوا أنه من الصعب الاستمرار في المشاركة في مهام العمل والإجابة عن الأسئلة بشكل صحيح. خلال الدراسة، أكمل 84 مشاركا سلسلة من مهام الرياضيات أثناء التفاعل مع مشرف غير داعم عبر البريد الإلكتروني. جُمعت البيانات حول الطاقة والحالة المزاجية والقدرة على أداء المهام والمشاركة. أشارت النتائج إلى أن المشاركين أبلغوا عن مستويات أعلى من التأثير السلبي ومستويات أقل من الطاقة بعد العمل مع المشرف غير الداعم، مقارنة بالمجموعة التي قامت بالأمور السابقة ذاتها بينما كانت تتلقى بريدا إلكترونيا من مشرف داعم. بالإضافة إلى ذلك، كان أداء المشاركين الذين تلقوا بريدا سلبيا أسوأ بكثير في مهام الرياضيات(11).

يمكن أن ينتقل التوتر المرتبط بفظاظة البريد الإلكتروني إلى الحياة الأسرية أيضا، حيث تتحمل أسرة الموظف العبء الأكبر من الإجهاد الناجم عن فظاظة البريد الإلكتروني. أشارت دراسة أجريت على الأزواج إلى أن الموظفين نقلوا ما يتعرضون له من الضغوط لشريكهم خلال عطلة نهاية الأسبوع. (12)

وأخيرا، دعونا نشير إلى أن فظاظة التعامل بالبريد الإلكتروني لا تعني فقط الإهانة الواضحة الصريحة، لكنها تشمل أيضا تجاهلك من الطرف الآخر. تشير دراسة خاصة في هذا الصدد أن هناك شكلين متمايزين من رسائل البريد الإلكتروني غير المهذبة: الشكل الأول هو الملاحظات المهينة أو الوقاحة النشطة، وهي رسائل ذات طبيعة عدوانية معلنة. النوع الثاني هو التجاهل أو المعاملة الصامتة، والتي يعتبرها البعض وقاحة سلبية، وهي بدورها تترك الناس عالقين ويكافحون مع أفكارهم السلبية وحالات عدم اليقين (13).

__________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة