شعار قسم ميدان

إليك تفسير الأحلام الغريبة التي تعرف وأنت داخلها أنك تحلم!

خارج مقهى باريسي متوسط، على كرسيين من الخشب الذي يبدو من النظرة الأولى مريحا، يجلس السيد كوب مع فتاة تُدعى أريادين ليطلب منها أن تنضم إلى فريق عمل يهتم بالدخول إلى أحلام الناس واجتثاث المعلومات منها، يقول كوب إن الأحلام تبدو حقيقية تماما ونحن داخلها، وإننا لا نعرف أنها ليست كذلك إلا حينما نستيقظ، لكن هناك مفارقة، فنحن لا نتذكَّر أبدا كيفية دخولنا إلى الحلم، فقط نجد أنفسنا في منتصفه، هنا يسألها: "كيف جئنا أنا وأنتِ إلى هنا؟ يا أريادين! أين أنتِ الآن؟!".

 

كان هذا مشهدا من فيلم "إنسيبشن" (Inception) للمخرج الشهير كريستوفر نولان، تُدرك أريادين بعد هذا السؤال أنها داخل حلم، أما كوب فهو يعرف ذلك منذ البداية، فقد كان يعيش في تلك الحالة الخاصة جدا من الأحلام التي تسمى "الحلم الصافي" (Lucid dream) التي نعرف ونحن داخلها أننا نحلم، وكان نولان ذكيا كفاية للفت الانتباه لها، فهو بالتأكيد يعرف أن واحدا على الأقل من كل اثنين في هذا العالم قد مرّوا بحلم شبيه من قبل، وأن 10% من الناس يمرون به مرة واحدة شهريا على الأقل.

 

مسائل رياضية تخرج من راديو السيارة

في فبراير/شباط من العام الماضي، أقدم فريق بحثي دولي على تجربة فريدة من نوعها(1)، حيث حاولت أربعة فِرَق مستقلة (في فرنسا وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة) التواصل مع 36 متطوعا أثناء نومهم، درَّب الباحثون أولا المشاركين على تذكُّر أحلامهم، ثم كيفية إدراك أنهم داخل الحلم وهم داخله بالفعل، ربما لا تعرف أن هناك تقنيات(2) تُحسِّن من قدراتك على تذكُّر أحلامك، وتجعلك تُدرك متى تكون بالفعل داخل حلم.

 

مثلا، يمكن أن تضع مفكِّرة إلى جوار سريرك كل يوم، وتُدوِّن فيها ما تتذكَّره مما حلمت به في الليلة السابقة، حتى لو لم تحلم شيئا، ستتفاجأ بعد فترة قصيرة أن هذه العملية حفَّزتك على التذكُّر وبدأت الأحلام بالانسياب على أوراق المفكرة يوما بعد يوم، طريقة أخرى هي أن تُخبر نفسك يوميا أنه سيكون لديك أحلام صافية الليلة، هذا النوع من الحديث الذاتي يرفع من فرص الأحلام الصافية.

 

يمكنك كذلك ضبط المنبه أو جعل شخص ما يوقظك بعد نحو خمس ساعات من الذهاب إلى الفراش. ونظرا لأنك استيقظت في منتصف دورة النوم، فإنك حينما تعود إلى النوم من المحتمل أن تدخل مرة أخرى في مرحلة الأحلام، ولكنك ستظل واعيا قليلا، ما يُحفِّز دخولك إلى حلم صافٍ.

 

لكن أغرب الطرق التي تُحفِّز الأحلام الصافية هي التحقُّق من الواقع، فقط درِّب نفسك يوميا تدريبا متكررا على التالي: اضغط على جانبَيْ أنفك وحاوِل التنفس، انظر بعيدا عن الكتاب الذي تقرأه ثم عُد مرة أخرى بنظرك إليه، انظر إلى الساعة على الحائط، حينما تُكرِّر شيئا ما على أرض الواقع فهناك احتمال كبير أن تُجرِّبه في الحلم، لكن في الحلم حينما تضغط أنفك ثم تحاول التنفس فستتنفَّس بالفعل، وحينما تُعيد النظر إلى الساعة فستجدها اختلفت تماما، وكذلك بالنسبة لصفحة الكتاب، هنا ستُدرك في منتصف الحلم أنك تحلم، لأن ذاكرتك عن تلك الأحداث في حالة اليقظة ستكون فعالة في حالة الحلم أيضا.

نوم حلم

حسنا، درَّبت الفِرَق البحثية المشاركين في التجربة كذلك على بعض الإشارات من أصوات وأضواء ونقر بالأصابع على أياديهم، ثم جُدولت جلسات للنوم في أوقات مختلفة، بعضها في الليل والبعض الآخر في الصباح الباكر، واستخدم كل فريق طريقة مختلفة للتواصل مع النائم، سواء باستخدام أصوات أو أضواء ساطعة أو نقرات، أُخبر النائمون أنهم دخلوا في حلم صافٍ، وعليهم أن يجيبوا عن الأسئلة التي ستُتلى عليهم الآن عن طريق تحريك عيونهم ووجوههم بطرق معينة.

 

أثناء نوم المشاركين راقب العلماء المؤشرات التي تؤكِّد أن المشاركين في التجارب نائمون، عن طريق خوذات خاصة ترصد علامات واضحة مثل نشاط الدماغ وحركة العين وتقلُّصات عضلات الوجه، وجميعها تؤكد حالة النوم. في تلك التجارب سأل الباحثون الحالمين أسئلة بسيطة تُجاب بنعم أو لا، مع مسائل حسابية بسيطة مثل ثمانية ناقص ستة، في بعض الحالات كانت الإجابة بحركات تناسب شفرة مورس.

 

طرح الباحثون 158 سؤالا على الحالمين(3)، أجابوا إجابة صحيحة عما نسبته 18.6% منها، وإجابة خاطئة عما نسبته 3.2% من الأسئلة، بينما جاءت 17.7% من الإجابات غير واضحة، وفي حالة الـ 60.8% الباقية من الأسئلة لم يحصل الباحثون على رد، ورغم أن نسبة الإجابات الصحيحة ليست كبيرة، فإنها جوهرية، أي إنها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الحالم تواصل مباشرة مع شخص بالخارج.

 

حينما استيقظ الحالمون وطُلب منهم وصف أحلامهم، تذكَّر البعض الأسئلة بالفعل، ظهرت بالنسبة له كجزء من الحلم، مثلا أبلغ أحد الحالمين عن مسائل رياضيات تخرج من راديو السيارة، وقال الآخر إنه كان في حفلة عندما سمع الباحث يقطع حلمه وكأنه راوٍ في فيلم، أحدهم كان في مستشفى وبدأت أضواؤه ترتعش بشفرات مورس ليدرك أن أحدهم من الخارج يتواصل معه، وللطرافة، كان هناك شخص يحلم أنه يقاتل العفاريت ثم اكتشف أنه يقتل عفريتا منهم مع كل ضغطة من إصبع الباحث على يديه خارج الحلم! وبالتالي فإن عملية قتل العفاريت تناسبت مع الإشارات الواردة من الخارج.

 

إنهم يتبعونني أينما ذهبت

حلم رجل خيال

أتت الإشارات الأولى لهذا النوع العجيب من الأحلام من كل مكان في تاريخنا القديم قبل آلاف السنوات، أشار إليها أرسطو سنة 350 قبل الميلاد حينما قال إن المرء عندما يكون نائما غالبا ما يختبر وجود شيء ما يخبره أن ما يمر خلاله الآن ليس حلما، لكن الغريب حقا أن سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي وصاحب الكتاب الأشهر "تفسير الأحلام"، بالكاد ذكر الأحلام الصافية في كتاباته.

 

أما الكاتبة الإنجليزية ماري أرنولد فورستر فكانت(4) ربما سببا في شهرة هذا النوع من الأحلام حينما كرَّست لها كتابا كاملا صدر سنة 1921 بعنوان "دراسات في الأحلام"، وقدَّمت خلاله أحد أكثر التوصيفات الإنجليزية الملونة تفصيلا للأحلام الصافية، تقول في وصف أحد أحلامها: "لقد نجحت في تعقُّب وجود مؤامرة معقدة وخطيرة ضد بلدنا، انقلب المتآمرون عليَّ لاكتشافهم مدى معرفتي بالأمر، في النهاية وجدت مأوى، لكنهم كانوا يقتربون منه. رجل أبيض الوجه يرتدي قبعة، تعقَّبني إلى المبنى حيث كنت مختبئة".

 

عند هذه النقطة من الحلم عادة ما يستيقظ الناس، لكن فورستر كانت خبيرة في الأحلام الصافية، في الواقع وصل الأمر بها إلى درجة شبيهة بما رأيناه في فيلم "إنسيبشن" (Inception)، لم تكن فقط تدرك تماما أنها نائمة، وأن كل شيء من حولها كان مجرد نسج من عقلها، بل كانت تُهندس أحلامها كما تحب، وطالما عشقت أن تنغمس في إثارة المطاردة من مكان إلى آخر، تارة في بيت مغلق، وتارة في حقل واسع، وتارة تطير هي شخصيا أو على الأقل تطفو عدة أمتار للأعلى عن عمد.

 

بناء على تجاربها الفريدة، اقترحت فورستر أن البشر لديهم نوعان من الوعي، الأول هو "الذات الأولية"، التي تسمح لنا بتحليل ظروفنا وتطبيق المنطق على ما نمر به، والثاني مشوش وغير منطقي، وهو يعمل حينما يتوقَّف الأول عن العمل (أثناء النوم)، ولكن في حالة الأحلام الصافية يمكن أن تستيقظ الذات الأولية جالبة معها الذكريات ومعرفة الحقائق وأساليب التفكير إلى جانب حالة الحلم نفسها، فنرى هذا المزيج البديع من الحلم الذي ندرك أنه حلم. لكن الأدوات الحديثة لعلم الأعصاب تجاوزت فورستر إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى السؤال عن طبيعة الوعي ذاته.

 

عشر ثوانٍ في الحلم

منبة نوم سرير

مضت بعد ذلك ستون عاما كاملة، قبل أن يُطوِّر ستيفن لابيرج، الأستاذ بجامعة ستانفورد، تقنيات يمكن أن تساعد الخاضعين للتجارب على الدخول عن عمد في أحلام صافية، وهنا تبيَّن(5) له أنه على عكس عادة الأحلام العادية، فإن إدراك الوقت أثناء العد في هذا النوع من الأحلام هو نفسه تقريبا أثناء اليقظة. في تجاربه عدَّ الحالمون 10 ثوانٍ في 10 ثوانٍ واقعية، التقط فريق لايبرج ذلك الأثر عبر إشارات مرتبة سابقا يمكن قياسها عن طريق أجهزة التخطيط الكهربي للمخ.

 

أثار ذلك اهتمام لابيرج حول طبيعة الأحلام الصافية، فهي -كما يمكن أن تلاحظ- تمتلك بعضا من ملامح الوعي، مثل إدراك الذات وبعض أنماط التفكير، مع إحساس أكبر بالقوة والإرادة، والقدرة على فصل الماضي عن الحاضر عن المستقبل الأبعد. في دراسة أخرى أجراها لابيرج وجد أن النصف المخي الأيمن كان أكثر نشاطا أثناء الغناء، وأن النصف المخي الأيسر كان أكثر نشاطا أثناء العد (في حالات النوم الصافي).

 

التقط جون ألان هوبسون، أستاذ الطب النفسي من جامعة هارفارد، تلك الفكرة طرفا لخيط جديد، حيث بحث تحديدا في نقطة إدراك أن المرء يحلم، التي افترض أنها حالة ذات جذور عصبية تتعلق بتنشيط منطقة من الدماغ تُدعى "قشرة الفص الجبهي الظهراني" (Dorsolateral prefrontal cortex)، وهي إحدى المناطق القليلة التي يُثبَّط نشاطها أثناء نوم حركة العين السريعة(6) (REM)، وهي رابع المراحل في دورة تتكرر كل 90-110 دقيقة أثناء نومنا، وفيها نحلم عادة.

 

هذه المنطقة من الدماغ هي جزء من شبكة أكبر تُسمى الشبكة الجبهية الأمامية (Frontoparietal network)، وجدت دراسات تالية أنها عادة ما تنشط في أصحاب الأحلام الصافية مقارنة بأصحاب الأحلام العادية، تشارك هذه الشبكة في الوظائف التنفيذية للدماغ، والمهام الموجَّهة نحو الهدف، والإدراك المبني على المعرفة، وعملية حل المشكلات المستندة إلى القواعد، إلى جانب الحفاظ بنشاط على المعلومات ومعالجتها واتخاذ القرارات.

 

دليل آخر على صحة تلك الفرضية يأتي من عالم الكيمياء الدوائية، حيث يمكن استخدام مادة الجالانتامين(7) لحث الناس على اختبار أحلام صافية، في إحدى التجارب سنة 2018 قُسِّم 121 شخصا إلى ثلاث مجموعات، الأولى تلقَّت دواء وهميا، والثانية تلقَّت 4 ملليغرامات من الجالانتامين، والثالثة تلقت 8 ملليغرامات من المادة نفسها.

 

جاءت النتائج لتقول إن 14% فقط من الذين تناولوا دواء وهميا تمكَّنوا من اختبار أحلام صافية، مقارنة بـ 27% ممن حصلوا على جرعة 4 ملليغرامات من الجالانتامين، و42% ممن أخذوا جرعة 8 ملليغرامات. حاليا يُستخدم الجالانتامين لعلاج مرض الزهايمر في الحالات المتوسطة، لكن بعض الأبحاث السابقة أظهرت أنه يمكن لهذا العقار أن يرفع من الإشارات العصبية في مناطق الشبكة الأمامية الجدارية.

 

الرجل الذي أوقف كابوسه

حلم نوم كابوس أرق

اهتمام الباحثين بالأحلام الصافية مُبرَّر لا شك، فهي حالة تقف على الحافة بين اليقظة واللا يقظة يمكن أن تمدنا بالكثير من المعرفة عن الوعي البشري، الذي هو أكبر أسرار العلوم العصبية إلى الآن. وللسبب ذاته، هناك ظواهر أخرى شبيهة تلقى اهتمام العلماء مثل "شلل النوم"، وهي حالة يكون الشخص خلالها واعيا ولكن غير قادر على التحرُّك أو الكلام، و"الاستيقاظ الكاذب"، وهي الحالة التي تظن فيها أنك استيقظت من الحلم لكنك فقط في حلم آخر.

 

لكن إلى جانب هذا البحث الجوهري عن تركيبتنا المعقدة، يأمل فريق آخر من الباحثين أن تساعد الأحلام الصافية على علاج بعض المشكلات الطبية(8)، فمثلا يمكن لأولئك الذين يعانون من الكوابيس أن يستفيدوا من تمرينات تعطيهم القدرة على إدراك أنهم يحلمون بالفعل، ببساطة لأن ذلك قد يُخفِّف من الأثر السلبي للكوابيس على الإنسان.

 

أظهرت عدة دراسات أن العلاج بالأحلام الواضحة كان ناجحا في تقليل تكرار الكوابيس، لكن النتائج في هذا السياق لا تزال غير مؤكدة إلى الآن، فالدراسات قليلة والنتائج ليست كافية، كما أن دراسات الأحلام بطبيعتها معقدة جدا. على جانب آخر وجدت بعض الدراسات أن الأحلام الصافية قد ترتبط(9) بحالات من القلق والاكتئاب والسلوك العنيف في بعض الأحيان، وظواهر أخرى مثل "شلل النوم"، لكننا لا نعرف سببا بعد لهذا الترابط، حيث لا يعني هذا بالضرورة أن الحلام الصافية سبب لهذه الأمور، بل ربما تكون نتيجة لها.

نوم أرق حلم

كذلك الأمر بالنسبة لنطاق آخر آخذٌ في التنامي مؤخرا، حيث تُشير بعض الكتابات إلى أن الأحلام الصافية قد تحث على الإبداع، حيث يمكن أن يتعلم الحالمون ذوو الخبرة أن يفكروا في مسائل عملية محددة أو أن يبحثوا عن الإلهام أو عن إجابات لأسئلة محيرة في تخصصاتهم.

 

في هذا السياق، عادة ما يستشهد البعض بأوغست كيكوله، عالم الكيمياء الألماني واسع الشهرة الذي اكتشف التركيب الكيميائي لأشهر حلقة في كل الكيمياء وهي "حلقة البنزين"، تقول الحكاية إنه كان حائرا في أمر الشكل الذي يمكن أن تترابط به ست ذرات كربون، وبينما هو نائم حلم بثعبان يلتف حول نفسه صانعا دائرة، ليأكل ذيله، استيقظ كيكوله واستخدم هذه الفكرة في حالة الكربون، فربط آخر ذرة بأول ذرة، ليصنع حلقة البنزين. لكن على الرغم من ذلك، لا توجد إلى الآن تأكيدات أن للأحلام علاقة بالإبداع وحل المشكلات، وما يرد عن هذا الأمر عادة ما يكون حكايات فردية.

 

في كل الأحوال، يبقى أن الأحلام الصافية هي واحدة من أغرب الظواهر الخاصة بالنفس البشرية، وأكثرها إدهاشا لنا كوننا بشرا عاديين، أو حتى باحثين يحاولون سبر أغوار الدماغ البشري من خلالها، لكنَّ عشاق هذه التجربة ومحترفيها، وهم ملايين حول العالم، لا يهتمون بالفوائد ولا بالأضرار بقدر ما يهتمون بتكرار التجربة ذاتها، وكأنهم دراويش مجذوبون لهذا الشعور الغريب بالتحكم في العالم، وكأنه كون مُصغَّر في مرآة وأنت الدكتور "سترَينج" الساحر العبقري القادر على تعديله كما يحلو لك، حرفيا كما يحلو لك!

—————————————————–

المصادر

  1. Scientists entered people’s dreams and got them ‘talking’
  2. How To Lucid Dream: 6 Techniques, Benefits, and Cautions
  3. Real-time dialogue between experimenters and dreamers during REM sleep
  4. A dream-traveller’s guide to the sleeping mind
  5. Lucid dreaming: An exploratory study of consciousness during sleep.
  6. The prefrontal cortex in sleep
  7. Can lucid dreaming help us understand consciousness?
  8. Lucid dreaming treatment for nightmares: a pilot study
  9. The science behind lucid dreaming
المصدر : الجزيرة