شعار قسم ميدان

دوافع الانتحار.. من الفراعنة إلى العصر الحديث

"إن روحي تظلمني، ولكني لا أستمع إليها، أحاول أن أجرَّ نفسي إلى الموت قبل أن يصل إليَّ الموت، سألقي بنفسي في النار لأموت حرقا بها، لكن روحي الغبية تمنعني، وتحول دون إقدام إنسان بائس على الموت".

(من بردية "حوار مصري يائس من الحياة مع روحه")

يعتقد علماء المصريات أن أقدم خطاب انتحار دُوِّن في تلك البردية، التي اكتشفها وترجمها عالم المصريات الألماني "أدولف إرمان" عام 1896م، وهي محفوظة بمتحف برلين، ولا يُعرَف على وجه التحديد الشخص الذي سرد يأسه من الحياة في تلك الرسالة، وهل انتحر بالفعل أم لا. وفي حين اعتقَد معظم علماء المصريات أن بردية "حوار يائس من الحياة" تعود إلى حقبة الدولة المصرية الوسطى بين عامَيْ 1991-1786 ق.م.، فإن "إرمان" ومؤرخ المصريات الأميركي "جيمس بريستِد" يعتقدان أنها كُتبت في وقت سابق على يَد كاتب سجَّل بنفسه حالة رجل مصري مجهول في نهاية حقبة الدولة المصرية القديمة، أي في الفترة بين عامَيْ 2181-1991 ق.م.، التي شهدت فيها مصر حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وتصف البردية، التي كُتبت بطريقة جمعت بين السرد الروائي والشِّعر، كيف يمكن للاضطرابات المجتمعية أن تدفع بالمرء إلى الخلاص من حياته والبحث عن مخرج منها، أو كما قال صاحب البردية:

"لمَن يمكنني التحدث اليوم؟

فكل الرفقاء صاروا أشرارا

أصدقاء اليوم لا يحبونني

لمَن يمكنني التحدث اليوم؟

امتلأت القلوب بالجشع

كل رجل ينهب بضائع وحاجيات زملائه

لقد اختفى الإنسان اللطيف الهادئ

لكن الرجل العنيف فقط هو الذي يمكنه السيطرة على الجميع

لمَن يمكنني أن أتحدث اليوم.. الخير غائب في كل مكان".(1)

 

يبدو إذن أن أحد المصريين القدماء حرص على كتابة خطاب انتحار، وهو رسالة لافتة إلى معاناة الشخص المُقدِم على الانتحار يهدف منها إلى جذب اهتمام الآخرين لما فعل، وهو تقليد لم ينقطع في أغلب حوادث الانتحار إلى يومنا هذا. فلطالما أصرَّ المُنتحِر على أن يُنهي حياته بطريقة مثيرة لنظر واهتمام الآخرين، أو الانتحار في مكان عام.

على كل حال، لم تكن العوامل الاجتماعية البنائية (البنيوية) مثل الاستقرار الاجتماعي والأزمات الاقتصادية وحدها هي التي استُخدِمت في علم الاجتماع لتفسير حوادث الانتحار، فثمَّة عوامل ذاتية أيضا دافعة إلى الانتحار، وهي لا تعني بالضرورة أن صاحبها مريض عقليا أو نفسيا. بيد أن هذه العوامل الذاتية رفضها عالم الاجتماع الأشهر "إيميل دوركايم"، الذي أكد تحيُّزه الحاسم للعامل البنائي.

تحفل نظريات علم الاجتماع باتجاهات عديدة لدراسة حالات الانتحار والتعرُّف على الخصائص الذاتية الصغيرة، والانتقال من البنية الاجتماعية إلى الفعل نفسه، ثم الربط بينهما، والاستماع إلى صوت الفاعلين. وبالبحث في الأدب المصري الحديث سنجد أن العديد من الأدباء تصدُّوا للكتابة عن الانتحار، منهم الأديب "مصطفى لطفي المنفلوطي"، أحد أبرز الأدباء المصريين في الربع الأول من القرن العشرين، ففي كتابه "النظرات" الصادر عام 1910، رأى المنفلوطي أن الانتحار "عادة مُستهجنةٌ رَمَتنا بها المدنية الغربية فيما رَمَتنا به من مفاسدها وآفاتها"، ومن ثم أدان الانتحار والمنتحرين قائلا: "لا عُذر لمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه من الهمِّ ونفسه من الأسى، ومهما ألمَّت به كوارث الدهر ونزلت به ضائقات العيش، فإن ما أقدم عليه أشدُّ مما فرَّ منه، وما خسره أضعاف ما كسبه".

في كتابه "النظرات" الصادر عام 1910، رأى المنفلوطي أن الانتحار "عادة مُستهجنةٌ رَمَتنا بها المدنية الغربية فيما رَمَتنا به من مفاسدها وآفاتها". (مواقع التواصل الاجتماعي)

والمنفلوطي إذ يُدين الانتحار، فهو يدين الحداثة الأوروبية ضِمنا، التي أثرت سلبا على القيم والروح الأصيلة للمجتمعات العربية والإسلامية في نظره. غير أنه برفضه تحليل موقف المنتحر ودراسته، رفض الاقتراب من ظاهرة اجتماعية تضرب بجذورها في التاريخ الاجتماعي، وليست قاصرة على مجتمع دون غيره، سواء كان مجتمعا حديثا أو تقليديا. ولذا، عمل الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" على فهم هذه القضية، فالانتحار في نظره واقعة موضوعية تحدث بغض النظر عن مواقفنا منها أو تقييمنا السلبي لها. وقد روى الرافعي قصة أثيرة عُرضت على "المُسيب بن رافع الأسدي"، أحد كبار المحدثين بالكوفة في القرن الأول الهجري، فعندما عُرض على "المُسيب" حال رجل أقبل على الانتحار، لم يتطرَّق إلى اتهامه بالكفر، بل قال عنه: "هذا مريض يحتاج العلاج لا الفُتيا".

بإمكاننا عرض بعض النماذج المتفرقة تاريخيا لحالات انتحار أخرى جرت في مصر بدوافع تبدو ذاتية أو نفسية. ففي مطلع الحرب العالمية الثانية، فرَّ ثمانية من اللاجئين اليهود الألمان من بلادهم، وأقدموا على الانتحار بتناول عقار سام بعد أن رفضت السلطات المصرية السماح لهم باللجوء إلى مصر. وتكشف تلك الحادثة ليس فقط أن مصر في الثلاثينيات والأربعينيات كانت البلد المُفضَّل لجنسيات وقوميات شتى، بل وتكشف أيضا أن المرء قد يقتل نفسه أو يجازف بحياته أملا في الفرار من وطنه نتيجة ظروف اقتصادية أو سياسية، وهو أمر يتجلى اليوم في قوارب الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من بلدان شمال أفريقيا باتجاه جنوب أوروبا. وقد وصف العديد من المراقبين محاولات الهجرة تلك بأنها محاولات انتحار جماعي. وقد أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين وفاة أكثر من 3,000 شخص أو فقدان أثرهم خلال عام 2021 أثناء محاولتهم عبور وسط وغرب البحر المتوسط والمحيط الأطلسي إلى أوروبا. (2)

من بين حوادث الانتحار الشهيرة التي حدثت في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين حادثة انتحار الشاب "ناجي بك ربيع" وكيل النيابة الذي أقدم على الانتحار بسلاح ناري في أغسطس/آب 1949، ونفَّذ انتحاره في فندق شهير تاركا رسالة قال فيها: "كنت أعتزم الانتحار منذ زمن، لكنني تحيَّنت المكان والزمان المناسبيْن، أوصيكم بتخصيص أربعمئة جنيه من ثروتي لتنفقوها في أعمال الخير صدقة على روحي، وألا ترتدوا ملابس الحداد حزنا على ابنكم". وكان واضحا من بقية الرسالة أن الرجل انتحر حزنا على خسارته علاقة عاطفية مع فتاة من حلوان بالقاهرة. وبعد شهرين، في أكتوبر/تشرين الأول 1949، أقدم المفتش في بوليس القاهرة الأميرالاي (العميد) "محمد بِك غريب" على الانتحار بإطلاق النار على نفسه، حزنا منه على هجر زوجته إثر خلاف أُسري لم تفلح معه محاولات الصلح. وقد ترك رسالة أوصى فيها بأسرته خيرا وختمها قائلا: "لقد أصابني المرض وجعلني في حالة أكره معها الحياة، وأرجو منكم ألا تخبروا حَرَمي بانتحاري، لأن حالتها الصحية لا تساعدها على تحمُّل هذه الصدمة".

تُمثِّل أروى نموذجا لانتحار الأدباء، وهي ظاهرة لطالما أثارت جدلا واسعا، فهُم أشخاص أكثر شهرة مقارنة بغيرهم ممن لا يعرفهم الناس. (مواقع التواصل الاجتماعي)

وفي ظهيرة 7 يونيو/حزيران 1997، أثارت الكاتبة "أروى صالح" تساؤلات وحيرة لم تتوقف عندما ألقت بنفسها من الطابق العاشر لتلقى مصرعها وهي في السادسة والأربعين من عمرها. وقد قدَّمت أروى في كتابها المهم "المُبتسَرون" تصوُّرا لما تنوي فعله: "تصوَّر أنا عجوزة أد ايه؟ عمري 34 سنة، يعني داخلة على الأربعين.. بافتكر حاجة بشعة سمعتها عن تقليد ياباني إن الناس لما تعجِّز بتاخد قليل من الزاد وتطلع على قمة جبل تستنى الموت فيه! غصب عني ابتديت أشوف فيها الفكرة، وابتدت تداعبني فكرة إني لما أوصل مرحلة معينة من العجز أنتحر". وتُمثِّل أروى نموذجا لانتحار الأدباء، وهي ظاهرة لطالما أثارت جدلا واسعا، فهُم أشخاص أكثر شهرة مقارنة بغيرهم ممن لا يعرفهم الناس، وغالبا ما تدور تفسيرات انتحارهم حول حالة الاكتئاب المسيطرة على بعضهم، التي قد يفهمها البعض بوصفها نتيجة لأزمات فكرية ألقت بهم في غياهب القلق وعدم اليقين. ولذا، لا يُمكن عزل حوادث انتحارهم عن أزمات مجتمعاتهم، بل قد يكون عجزهم عن التكامل مع المجتمع الذي يكتبون عنه سببا مهما في انتحارهم.

في 23 ديسمبر/كانون الأول 2021 أقدمت الفتاة "بسنت خالد" على الانتحار بتناول حبة الغلة السامة المتداولة في محافظات الوجه البحري والدلتا، التي يستخدمها القرويون مبيدا حشريا. وقد انتحرت بسنت بعد ابتزازها بمقاطع مزيفة ومُفبركة، حيث تركت رسالة لوالدتها تقول فيها: "ماما يا ريت تصدقيني، أنا مش البنت دي ودي صور متركبة والله العظيم.. أنا جالي اكتئاب بجد". تشي رسالة بسنت بأنها حاولت الخلاص من الوصم وما قد يجلبه من معاملة أسرية سيئة. وبحسب مسح "التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي مصر 2015″، الذي أجراه كلٌّ من المجلس القومي للمرأة والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن "أطفال 300 ألف أسرة يعانون من الكوابيس والخوف بسبب العنف المرتكب على يد الزوج سنويا"، (3) ومن ثم يلتقي هُنا السياق الذاتي والشخصي بالعام أو البنائي.

تفسير علم الاجتماع للانتحار

تثير كُل تلك الحكايات والخطابات محاولات لتفسير ظاهرة الانتحار، لا سيما حين يرتكبه أشخاص ليسوا فقراء أو مُهمَّشين أو مرضى نفسيين بالضرورة، وحين ينتحر بعضهم لأسباب قد يجدها البعض غير جديرة بأن يقتل الإنسان نفسه لأجلها. عند تلك النقطة بالتحديد يبرز المعنى الذاتي لفعل الانتحار، وجدوى وقيمة الاستمرار في الحياة لدى كل شخص أقدم على الانتحار، وإن كان علم الاجتماع يقول إن المتاعب الشخصية لا يمكن فصلها عن المشكلات العامة. فالمنتحر شخص عجز عن تحمُّل الضغوط الاجتماعية (البنائية)، التي ليست بالضرورة فقرا أو مرضا، بل قد تكون فشله في العلاقات الاجتماعية مثل الحب والزواج، أو خوفه من الوصم، كما أثبت عدد من الحالات التي وقعت في مصر مؤخرا.

يعرض لنا تاريخ دراسات الانتحار تجربة القانوني ورجل الاقتصاد الفرنسي "جاكس بُوشيه"، الذي سجَّل خلاصة تجاربه العملية في فترة إدارته أرشيف ومحفوظات شرطة مقاطعة باريس بين عامَيْ 1814-1827، في كتاب بعنوان "مذكرات من أرشيف شرطة باريس: دراسة في تاريخ الأخلاق والشرطة من لويس الرابع عشر وحتى الآن"، الذي نُشر عام 1838، أي بعد وفاة "بوشيه" بثماني سنوات. وفي عام 1846 نشر كارل ماركس مقالا عنه، ووفقا للمقتطفات التي عرضها ماركس فإن بُوشيه الذي سبق دوركايم بما يقارب السبعين عاما، رفض النظر إلى الانتحار بوصفه سلوكا معارضا للطبيعة الإنسانية، فالانتحار فعل متكرر ويحدث بوتيرة ملحوظة. ويعني ذلك أن بُوشيه تفرَّد في النظر إلى مسألة الانتحار على أنها ظاهرة اجتماعية يقوم بها أشخاص عقلاء، وليسوا مرضى عقليين بالضرورة. وهذا يقارب ما قرره دوركايم في دراسته الشهيرة "الانتحار" (1897) عندما قرَّر أن المنتحرين لا يتميزون أبدا عن الآخرين.

إذا كان الانتحار عند دوركايم يُهدِّد القيم السائدة ويُعرِّض النظام الاجتماعي إلى عدم الاستقرار، فإن بُوشيه نظر إليه بوصفه فعلا احتجاجيا ضد القيم الاجتماعية، وأن مسبباته هي المعاملة السيئة والقاسية. (شترستوك)

وقد عرض بُوشيه في مذكراته العديد من النماذج لمنتحرين من خلال تفسيره لسلوكهم الانتحاري وفق عوامل اجتماعية خالصة، ومن بين تلك النماذج حالة فتاة باريسية انتحرت بأن ألقت نفسها في نهر السين عام 1816، بسبب تعنيف والديها لها لتجاوزها في علاقتها بخطيبها. ويلوم بُوشيه في تلك الحادثة المجتمع البرجوزاي الثري بِرُمَّته، حيث خلق ذلك المجتمع لدى الأفراد رغبة عارمة في تعويض سلوكيات التبعية التي يخضعون لها، وذلك عبر ممارسة السلطة الأبوية الفظة تجاه أبنائهم. وهنا لم يحاول بُوشيه أن يفسر الانتحار بأنه سلوك فردي لفتاة تمر بظروف نفسية أو أسرية صعبة، بل أخذ بأيدينا تجاه رأس المشكلة، فالمجتمع في الأخير هو مَن يخلق أفعالنا وسلوكياتنا تجاه الآخرين، وهو الأمر ذاته الذي انطلق منه دوركايم فيما بعد.

رغم الاتفاق في المنطلقات، فإن ثمَّة تباينات ملحوظة بين الرجلين. فإذا كان الانتحار عند دوركايم فعلا يُهدِّد القيم السائدة ويُعرِّض النظام الاجتماعي إلى عدم الاستقرار، ويكمُن تفسيره في فشل عمليتَيْ الضبط والاندماج الاجتماعي، فإن بُوشيه نظر إلى الانتحار بوصفه فعلا احتجاجيا ضد القيم الاجتماعية السائدة، وأن مسبباته هي المعاملة السيئة والقاسية، وصور الظلم والمعاناة، وكذلك العقوبات الرمزية أو الوصم الذي يتعرض له البعض جرَّاء سلوكيات لا تتفق مع مَن يتولون أمورهم. وقد اعتبر دوركايم أن الدين محور للضبط الاجتماعي، وأنه يساهم في خفض وتجنُّب حدوث الانتحار، وأن الجماعة الدينية تستطيع الحدِّ من تلك الحالات عبر ضبطها للسلوكيات العامة وتجريمها للمعاني المُشجِّعة على الانتحار وإيذاء الذات. أما بُوشيه فرفض المعارضة الدينية للانتحار بحُجة أن الإقدام على الانتحار بحد ذاته احتجاج على الضوابط الدينية ومعاييرها التي تُجرِّم هذا الفعل، فتلك الضوابط والقائمون على رعايتها يُلزِمون الناس بالانضباط والولاء للمجتمع، دون أن يتفهَّموا حاجاتهم من ذلك المجتمع أو يتمكَّنوا من تلبيتها.

 

إذا كان الانتحار ظاهرة اجتماعية قائمة، فهل بإمكاننا أن نتوقع حدوثه أو نتحكم به لمنعه؟ إن طرح مسألة الميول الانتحارية يفترض أن ثمة أفرادا بعينهم أكثر عُرضة لارتكاب الانتحار، وأن هناك دوافع شخصية متأصلة لدى بعض الأفراد المصابين باضطرابات مُحدَّدة، ولكن مفهوم الميول الانتحارية ليس مُعتدا به في علم الاجتماع، الذي يقول إن الانتحار يُقدِم عليه أشخاص عاديون، ومن ثمَّ فإن السلوك الانتحاري في أغلبه غير متوقع إلا عبر الرسائل والإشارات المُسبَقة التي يقوم بها المُقبلون عليه، وهي رسائل لا تؤخذ بجدية في كثير من الأحيان. أما تقليص مُعدلات الانتحار فيُوجِب تغيير العوامل البنائية، مثل حماية المراهقين والبالغين من الوصم والتربية القاسية على سبيل المثال.

فتش عن الأسرة

إن الانتحار ظاهرة اجتماعية، لا ينفرد بها مجتمع إنساني دون غيره، ومن ثم فإن تفسير حدوثها وتزايد معدلاتها يجب أن يتم في ضوء الظروف الاجتماعية والسياق البنائي لمَن يُقدِمون على الانتحار، مثل الأسرة، والعمل، والعلاقة بالآخرين، والمواقف الضاغطة التي يتعرَّضون لها. وقد بلغ معدل الانتحار في مصر وفقا لأحدث إصدارات منظمة الصحة العالمية 3 حالات لكل 100 ألف مواطن. ورغم ذلك تُقر منظمة الصحة العالمية أن هذه الأرقام أقل من المتوسط العالمي، وأرجعت ذلك الانخفاض إلى التقاليد الاجتماعية والدينية، وكذلك عدم الإبلاغ عن حالات الانتحار باعتبارها انتحارا في بعض الأحيان.

إن ضبط مشكلة الانتحار والحدّ منها يُوجِب العمل داخل محيط الأسرة والعلاقات الاجتماعية المحيطة بها، فهي صانعة الدور الأكبر في إنتاج شخصية المنتحر. (شترستوك)

عموما، يمكن القول إن علاقة المرء بالأسرة ودوره وتنشئته فيها، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تتعرض لها الأسرة في مصر، قد تُفسِّر وتُحدِّد نسبة لا بأس بها من حالات الانتحار، وذلك نظرا لغلبة وسيطرة النظام الأسري على الحياة الاجتماعية. وإذا كان "لكل مجتمع في لحظة من تاريخه استعداد محدد للانتحار" كما قال دوركايم، فإن ذلك يُبيِّن أهمية التباينات القُطرية في توزيع معدلات الانتحار، التي يمكن تفسير ارتفاعها في ضوء ظروف كل مجتمع، وعلاقات التضامن والرعاية الاجتماعية فيه، وتطور الوصم فيه داخل الفئات الأكثر عُرضة لخطر الانتحار، مثل المراهقين من الذكور، والإناث في القرى والمناطق الشعبية، التي ثبت ارتفاع معدلات الانتحار فيها هربا من الوصم.

إن ضبط مشكلة الانتحار والحدّ منها يُوجِب العمل داخل محيط الأسرة والعلاقات الاجتماعية المحيطة بها، فهي صانعة الدور الأكبر في إنتاج شخصية المنتحر، والحلقة الوسيطة بين المواقف الضاغطة وتدهور الحالة المعنوية للمرء. وإذا كان العديد من رواد علم الاجتماع قد تصوَّروا أن الحد من ظاهرة الانتحار يتطلب تعميم وجود وفاعلية الروابط الاجتماعية التي تأخذ بيد الأفراد وتُشعرهم بالحماية والدعم، وهو أمر سبق ونادى به المفكر المسلم الشهير الفارابي (874-950). فقد أكَّد الفارابي أهمية الروابط الجمعية بقوله: "لا يمكن أن ينال الإنسان الكمال، الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه.. فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال"(4)، والكمال هنا ليس فقط متطلبات الضرورة الاقتصادية، لكنه يعني أيضا السواء النفسي والاجتماعي.

_______________

المصادر:

  1. James P. Allen, The Debate Between a Man and His Soul, A Masterpiece of Ancient Egyptian Literature, Culture and History of the Ancient Near East, Vol 44, 2011.
  2. https://1-a1072.azureedge.net/news/politics/2022/6/21/%D8%B1%D8%BA%D9%85-
  3. https://egypt.unfpa.org/sites/default/files/pub-pdf/%D9%85%D8%B3%D8%AD%20
  4. أبي نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق: عبدالحميد حمدان، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 2002، ص: 30.
المصدر : الجزيرة