شعار قسم ميدان

أندرو تيت ومالكوم إكس.. الطريق إلى الإسلام من اليسار ومن اليمين

يعرف كثيرون اليوم "أندرو تيت" الذي أثار الجدل بإعلانه اعتناق الإسلام مؤخرا. وفي حال أنك لا تعرف مَن هو "أندرو تيت"، فهو أحد أبطال لعبة الملاكمة (كيك بوكسينغ) ومليونير أميركي-بريطاني يبلغ من العمر 35 عاما، لكن شهرته الحقيقية تعود إلى المحتوى الذي قدَّمه بعد اعتزاله على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ حظيت مقاطعه على تطبيق "تيكتوك" بـ 11.6 مليار مشاهدة، كما أن لديه 4 ملايين متابع على "تويتر" و4.7 ملايين متابع على "إنستغرام". كل هذا كان قبل أن يستيقظ في يوم ليجد أن تويتر وفيسبوك وإنستغرام وتيكتوك ويوتيوب حظروا حساباته لأنه يُقدِّم محتوى كارِها للمرأة على حد قول المسؤولين في تلك المواقع.

لقد ذاع صيت "تيت" بالفعل قبل الحظر، فقد كان ثالث أكثر شخص بحث عنه مستخدمو غوغل عام 2022 بعد ترامب والملكة إليزابيث، لكنَّ الكثيرين تابعوه بسرية دون إعادة نشر محتواه نظرا لحساسية تناوله للمواضيع التي ناقشها، إذ تحدث عما اعتبره فساد الأفكار النسوية والليبرالية وأيديولوجيا الجماعات الداعمة للمثليين المعروفة بـ"مجتمع الميم" السائدة في الغرب، وأزمة الرجال في العالم الحديث مقابل الامتيازات الممنوحة للمرأة، وهي أفكار جعلته يشتهر بلقب "ملك الذكورية السامة". لكن بعد الحظر، سرعان ما تحوَّل كثيرون من مشاهدته سِرًّا إلى الحديث عنه علنًا، بين متعاطفين مع ما تعرَّض له نتيجة إبداء آرائه، ومَن يرونه خطرا مجتمعيا لا بد من إسكاته.

في الواقع حتى بعض المحسوبين على اليمين الغربي الذين تعاطفوا مع "تيت" كانوا يؤكدون أنه رغم اتفاقهم مع أغلب المحتوى الذي يقدمه والأفكار التي يطرحها، فإنهم يختلفون مع جزء من محتواه يمكن أن يُوصف فعلا بأنه كارِه/مناهض للنساء. وأمام هذا الاتهام، يُشدِّد "تيت" على أنه لا يكره النساء، وأن سجله خالٍ من أي عنف ضد المرأة، وأن وسائل الإعلام تقتطع من محتواه كي تُقدِّم صورة مغلوطة عنه عن عمد. ثم جاءت المفاجأة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين أعلن "أندرو تيت" اعتناقه الدين الإسلامي، مُحدِثا صخبا كبيرا على المستويين العالمي والإسلامي. وقد استقبل جمهوره في العالم الإسلامي الخبر باحتفاء كبير، حيث كان له عدد مُعتبر من المتابعين المسلمين قبل إسلامه.

في السطور القادمة، سنحاول فهم حكاية "تيت" بتفصيل أكبر، لا سيما بعد أن نقارنه بأميركي آخر أعلن إسلامه وذاع صيته في الماضي، هو "مالكوم إكس". ولعل تلك المقارنة تُثير حفيظة البعض، فمن الصعب للوهلة الأولى أن نجمع بين زعيم ساهم بنضاله وفكره في تغيير حياة الملايين من السود في بلاده، وصارت أفكاره أساسا فلسفيا متينا ينطلق منه محاربو العنصرية، وبين شخص اشتهر بآرائه المعادية للمرأة والداعمة للأيديولوجيا اليمينية الأميركية، فضلا عن دعمه لدونالد ترامب، ومقاطعه التي يتباهى فيها بعلاقاته النسائية وجسده، حتى إن البعض يرى إسلامه مجرد خطوة تكتيكية لكسب حلفاء أقوياء ثابتين داخل المشهد الأميركي في مواجهة المنظومة الثقافية التي تحاربه. بيد أننا لن نقارن "تيت" بمالكوم الذي نعرفه، بل بنسخة مالكوم الأصغر سِنًّا والأقل شهرة.

مالكوم.. من البلطجة إلى الإسلام

"في شبابي كانت السيرة الذاتية لمالكوم هي الوحيدة التي بدت وكأنها تُقدِّم شيئا مختلفا. رحلة أفعاله المتكررة في خلق ذاته كانت تخاطبني، تلك الروح الشعرية التي لا تعرف المجاملة، إصراره غير المزخرف على الاحترام، كلها وعدت بنظام جديد لا هوادة فيه، نظام يتشكَّل من خلال قوة الإرادة المطلقة".

(الرئيس الأميركي الأسبق "باراك أوباما" واصفا سيرة مالكوم إكس)

مالكوم إكس (مواقع التواصل الاجتماعي)

إن الصورة المستقرة لدينا عن مالكوم إكس هي النسخة الأخيرة منه، نسخة الفيلسوف الزاهد والزعيم المُفوَّه، لكننا ننسى أن هذا المفكر قبل سنوات من حضوره على المسرح السياسي، وحين بلغ من العمر 19 عاما فقط، كان تاجر مخدرات يقضي حياته في الملاهي الليلية بين بائعات الهوى والمقامرين، وقدَّم الخدمات الجنسية مقابل المال، وعُرِف بقوته الجسدية وبطشه في المشاجرات. وحين دخل مالكوم السجن وصفه زملاؤه بالشيطان بسبب كثرة استخدامه لألفاظ تحمل إساءات دينية، ومن ثمَّ فإن الزعيم والفيلسوف الشهير كان في شبابه أشبه بهؤلاء الشباب "الشبيحة" أو "البلطجية" الذين تراهم في الشوارع وتخاف من الاقتراب منهم.

ورغم ذلك، نبعت عبقرية مالكوم إكس من صدق مشاعره في كل مراحل حياته، وقدرته الدائمة على نقد ذاته وتحسينها، ذلك الصدق الذي لازمه منذ أن اعتقد بأن البيض سلالة شياطين بعيون زرقاء، وحتى إعلانه الصادق لجمهوره عن إيمانه بالأخوة التامة بين البيض والسود بعد رحلته للحج عام 1964. فقد كتب مالكوم من مكة: "كان هناك عشرات الآلاف من الحجاج من جميع أنحاء العالم. كانوا من جميع الألوان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة ذوي البشرة السوداء، لكننا جميعا تشاركنا الطقوس نفسها ولفَّتنا روح الأخوة، تلك الأخوة التي قادتني تجربتي في أميركا إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن أبدا أن توجد بين البيض والسود. قد تصدمكم هذه الكلمات مني، لكن ما رأيته في هذا الحج أجبرني على إعادة ترتيب الكثير من أنماط تفكيري السابقة، وتنحية بعض استنتاجاتي جانبا. لم يكن هذا صعبا بالنسبة لي، فلقد كنت دائما رجلا يحاول مواجهة الحقائق والحياة، ولطالما ظللت متفتح الذهن".

هذه النظرة لحياة مالكوم إكس باعتبارها مكوَّنة من مراحل متعددة وليست ذات جوهر ثابت ستساعدنا في تفحُّص أوجه الشبه الممكنة بين مالكوم الذي أعلن إسلامه في منتصف القرن العشرين و"أندرو" الذي أعلن إسلامه في أكتوبر/تشرين الأول 2022. أما الأمر الثاني الذي ينبغي النظر فيه لتكون المقارنة منطقية فهو معرفة طبيعة رسالة "أندرو تيت" قبل إشهار إسلامه. فنحن نعرف جيدا طبيعة رسالة مالكوم إكس التي جعلته مثار حنق ومراقبة المباحث الفيدرالية الأميركية (FBI) في خضم حركة مناهضة العنصرية ضد السود في الستينيات من القرن الماضي، ولكن ماذا عن رسالة "تيت" التي أفزعت التيار الليبرالي المُهَيمن على مساحة واسعة من الثقافة الأميركية الحالية، وجعلت شركات منصات التواصل الاجتماعي تتفق على حظره من الوصول إلى مشاهديه حول العالم؟

صعود "أندرو تيت".. ما لا يُحكَى عادة

(رويترز)

في عام 2017، خرجت للنور فضيحة المنتج الهوليودي "هارفي واينشتين"، الذي انكشف تحرُّشه بعشرات النساء، فانطلقت بعدها حملة نسوية تحت اسم "Me Too" أو "أنا أيضا" شكَّلت علامة اجتماعية فارقة خلال العقد الماضي، وتمحورت حول بوح ملايين النساء على مواقع التواصل الاجتماعي حول العالم بحوادث تعرُّضهن للتحرش أو الاعتداء من طرف الرجال، ومن ثمَّ أخذ الأمر بعد ذلك مسارا أكثر جذرية. ففي وسط مباركة اليسار الجديد والحركات النسوية، ظهرت أيديولوجيا جديدة اقتضت ضمنيا سحب حق من حقوق الإنسان بالنسبة للذكور المُتَّهمين، وهو الحق في ألا تُنتهك سمعة الإنسان ويُشهَّر به دون محاكمة عادلة، والحق في أن يظل الإنسان بريئا حتى تثبت إدانته. لقد أصبح مجرد اتهام رجل بالتحرش من طرف سيدة سببا ليفقد حصانته الإنسانية مباشرة ويصير مُعرَّضا للاغتيال المعنوي والخسائر المادية.

في الواقع يفقد الناس حقوقهم الإنسانية كل يوم حول العالم، لكن الجديد هذه المرة كان دعم بعض النشطاء واليساريين لهذا الانتهاك، وتصديقهم للنساء دون قيد أو شرط، في حين أن أي محاولة لمعارضة هذا التيار، والتأكيد أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته؛ قوبلت باتهامات من قبيل "كراهية النساء" أو أن قائل العبارة هو على الأرجح "مُعتدٍ" أيضا. سقط الكثير من الرجال فجأة في قبضة معاناة لا فكاك منها، المذنبون منهم والأبرياء على السواء. وقد نجح بعض الرجال في إثبات براءتهم من اتهامات التحرش أو الاعتداء الجنسي بعد فترات طويلة من الاغتيال المعنوي، وكان آخر القضايا وأكثرها متابعة قضية الممثل "جوني ديب" وزوجته السابقة "أمبر هيرد"، إذ حكمت محكمة هاليفاكس بولاية فرجينيا بإدانة الممثلة وتكليفها بدفع تعويض قدره 15 مليون دولار نتيجة قضية التشهير التي رفعها طليقها بعد أن ثبت عدم صحة ادعاءاتها.

لقد جعلت حملة "أنا أيضا" العديد من الرجال العاديين حول العالم وفي الغرب تحديدا يُعيدون قراءة واقعهم، وبدأ هؤلاء بالحديث على الفضاء الإلكتروني في مجموعات مغلقة، وتناقلوا خبراتهم السيئة في التعامل مع الجنس الآخر وما تعرضوا له من عنف وسخرية في حياتهم اليومية. وبدأ قطاع عريض من الذكور في الغرب تحديدا يشعرون باضطهاد ممنهج شارك فيه اليسار المتمركز حول المرأة وبعض صناع السياسات، والأهم أن قطاعا أوسع من الذكور بدأ يشعر بأنه غير مرئي ويفتقد للاعتراف بمشكلاته التي تراكمت في السياق الأميركي والغربي. ففي الولايات المتحدة، تُشير الإحصاءات إلى أن الرجال منذ عام 2000 أصبحوا أقل حظا في التخرج في المدرسة والجامعة مقارنة بنظرائهم من النساء، كما تقلَّصت حصتهم من القوة العاملة، وصاروا يُشكِّلون نحو ثلثي نِسَب المنتحرين نتيجة اليأس. ببساطة، تقول الإحصاءات إن الذكور في عصر ما بعد الصناعة لديهم مشكلات مثلهم مثل النساء، وإنهم ليسوا جميعا ذلك الذكر المُهيمن الذي تتحدث عنه النسوية.

فبينما تقول الغالبية العُظمى من التيارات النسوية إن الرجال لديهم امتيازات والنساء محرومات، ومن ثم علينا أن نُقدِّم الدعم للنساء حتى إذا تخطينا بعض الحقوق الأساسية للرجال مثلما فعلت بعض المشاركات في حملة "أنا أيضا"، ولذا بات العديد من الذكور في الغرب والعالم يعتقدون بأن الحقيقة هي أن أغلب الرجال يعيشون حياة ربما لا يتمنى الكثير أن يحيوها اليوم، وأن الرجال من أصحاب الامتيازات الذين تتحدث عنهم النسوية لا يُمثِّلون سوى 20% من الرجال حول العالم، في حين أن السواد الأعظم يعيش حياة تحفها المخاطر والضغوط.

في تلك اللحظة خرج "أندرو تيت" بخطاب وضع يده على الجرح عند رجال كثيرين. ويُقدِّم "أندرو تيت" نفسه باعتباره واحدا من 20% من الرجال أصحاب الامتيازات، فهو يتمتع بالجاذبية الجسدية وخفة الظل، فضلا عن كونه مليونيرا شابا وملاكما سابقا، لكنه يؤكد دائما في خطابه مشكلات مَن يصفهم بالأغلبية من الرجال الذين لا يتحدث أحد عن مشكلاتهم، فيتحدث عن أن معظمهم فقراء محرومون مُكبَّلون بضغوط النساء والمجتمع، ويشعرون بالحرمان العاطفي في ظل تركيز النساء المتزايد على القلة صاحبة القوة والنفوذ. ولذا يشدد "تيت" دائما على أن الرجل العادي في هذا العالم غير مرئي، في حين أن المرأة مهما كانت ظروفها صعبة تستطيع دائما أن تحصد الاعتراف.

بدأ "أندرو" يتحدث عن مشكلات الرجال اللا مرئية في العالم الحديث، مشكلات الوحدة والاغتراب وارتفاع متطلبات الجنس الآخر في شريكهن العاطفي، وتناول زوايا مسكوت عنها في أزمات الرجال لكن بطريقة أثارت الكثير من الجدل وعلامات الاستفهام حول خطابه. لكن النتيجة أن الكثير من الرجال العاديين حول العالم شعروا أن هذا الرجل يُعبِّر عما يخجلون من التعبير عنه، فهو رجل غني وجذاب يصعب أن يُطلِق عليه أنصار الحركة الثقافية الجديدة اتهامهم المعتاد بأنه مُعادٍ للمرأة بسبب حرمانه الجنسي مثلا، وهو يضع حججا تؤرق التيار الليبرالي والنسوي، ويُظهِر صوتا لطالما حُجب لسنوات.

 أندرو ومالكوم.. الشارع مدرسة الفِكر الأولى

وُلِد "مالكوم ليتل" -الاسم الذي عُرف به مالكوم إكس في صغره- ليعيش حياته المبكرة بوصفها مأساة متكاملة. (مواقع التواصل الاجتماعي)

وُلِد "مالكوم ليتل" -الاسم الذي عُرف به مالكوم إكس في صغره- ليعيش حياته المبكرة بوصفها مأساة متكاملة، مثله مثل ملايين السود في الولايات المتحدة الذين ذاقوا العنصرية في تلك الفترة. وفتح مالكوم عينيه على الحياة فوجد المتطرفين البيض قد حرقوا منزله وربطوا أباه على قضيب القطار فهرس جسده، لا لشيء إلا أن هذا الأب والقس المسيحي كان يخطب من أجل حقوق السود. تُركت الأسرة إذن بلا عائل سوى الأم التي قهرتها الأيام وتطورت أزمتها النفسية أثناء محاولتها التوفيق بين المنزل والعمل في خدمة البيوت، فانتهى بها الحال إلى مستشفى الأمراض النفسية. ونتيجة لذلك، تشرَّدت الأسرة مبكرا، فوجد مالكوم نفسه وقد سلَّمته الحكومة لأسرة بيضاء تنعته بـ"الزنجي" طوال اليوم. وفي المدرسة، ورغم حِدَّة ذكائه، حين أخبر مالكوم معلمه أن أمنيته أن يصبح محاميا، أخبره المعلم بأن "هذا حلم غير واقعي بالنسبة لزنجي". للمفارقة صار الطفل إحدى أهم الشخصيات في تاريخ السياسة الأميركية.

في زمن مالكوم إكس نُظِر إلى السواد باعتباره مرادفا للقبح، فحين قال الملاكم "محمد علي كلاي" عن نفسه إنه رجل وسيم قوبل بالسخرية، وهو أمر ركَّز عليه مالكوم كثيرا أثناء مقاومته للعنصرية، فقد كان جوهر رسالته "نحن لسنا قبيحين، بل أنتم عنصريون وهذا كل ما في الأمر". وبفضل فلسفة مالكوم عن حب الذات والتشديد على الجمال الكامن في السواد، صار الرجال الذين يشبهونه على صدارة صفحات مجلات الأزياء باعتبارهم رمزا للجاذبية. كان مالكوم نتاج معاناة مكثفة، وربما كانت أقوى نقاطه أنه رجل لا يخجل من إظهار ضعفه ومعاناته، أما أندرو على النقيض، فيجتهد دوما لإظهار نفسه رجلا خارقا لا يُقهَر ويتمتع بكل ما يتمناه الناس.

ومع ذلك، يتشابه مالكوم وأندرو في نقطة أساسية وهي أنهما تعلَّما الحجاج والمجادلة من حياتهما في الشارع، فكلاهما عاش في الشارع وخبر حياة النوادي الليلية وتجارة المخدرات، تلك الحياة الليلية التي تُمثِّل ظل المدينة الذي لا يعرف عنه المثقفون التقليديون كثيرا، تلك الحياة القاسية التي لا تحتاج إلى القوة فقط، وإنما إلى سرعة البديهة وخفة الظل والقدرة على تحقيق الانتصارات وبسط الهيمنة على الآخرين عن طريق اللغة قبل العنف.

لم يصبح مالكوم إكس فيلسوفا وزعيما لأنه كان الأكثر ثقافة وقراءة بين أقرانه. في الواقع لم يبدأ مالكوم القراءة المكثفة للتاريخ إلا بعد أن أسلم في السجن، لكن ما ميَّز مالكوم هو قدرته على ممارسة الفكر بشكله النقي؛ بمعنى هدم الأصنام داخل العقل وإعادة التفكير في السائد بجرأة. وقد استندت طريقة مالكوم في طرح أفكاره إلى قاعدتين، الأولى هي أنه طرح الحقائق التي فكَّر الناس فيها وخشوا أن يتحدثوا عنها صراحة، والثانية قدرته على صناعة الحجج في قالب المفارقات والكوميديا، إذ تركت حياة الجموح التي عاشها في شبابه والخبرات الحادة التي اختبرها في عالم الليل بصمات واضحة على مسيرته الفكرية والنضالية.

اكتسب "أندرو تيت" شهرته العالمية لأسباب مشابهة، أبرزها قدرته على الحجاج فيما يخجل الناس من المجادلة فيه علنًا، وبالنبرة نفسها القائمة على صناعة المفارقات وإعادة مساءلة المفاهيم السائدة (مثل الليبرالية والنسوية). ولا يبدو في مقاطع أندرو أنه واسع المعرفة أو الثقافة، لكن الواضح هو الذكاء النقدي والتفكيكي الذي يُذكِّرنا بنوعية الذكاء التي برع فيها مالكوم في ستينيات القرن العشرين وحشد بسببها ملايين السود في الولايات المتحدة. التشابه الواضح الآخر هو دور الشارع وحياة الليل في صقل الرجلين وما طبعته عليهما من راديكالية مُفرِطة. لقد عُرف مالكوم إكس في المراحل الأولى من عمله الفكري والنضالي بأنه الرجل الذي لا يقبل الحلول الوسط ويؤمن بالعنف، بل كثيرا ما قدَّمته الثقافة الأميركية حتى بعد استشهاده بوصفه نقيض "مارتن لوثر كينغ" المتسامح القادر على التفاوض، بل وكان مالكوم راديكاليا أيضا للمفارقة في تراجعه عن هذا المسار العنيف الذي اعتنقه في بداية حياته ومراجعته لأفكاره السابقة، وكيف لا وهو صاحب الروح الصادقة حتى لحظة استشهاده.

بين الانصياع للمنظومة والثورة عليها.. الاختلاف الجذري بين مالكوم وأندرو

بشكل مماثل لمالكوم ربما، مَثَّل "أندرو تيت" وشهرته بين الشباب صغار السن تهديدا كبيرا للأيديولوجيا الثقافية الجديدة السائدة في الغرب الآن، ومن ثم في حين قال الرجل بالفعل أشياء من المتفهَّم أن تُثير الغضب، فإن الكثير من المحتوى المكتوب عنه في وسائل الإعلام الغربية يتعمد لَي الحقائق في خطابه، على سبيل المثال ستجد مقالا يقول كاتبه إن أندرو صرح بأنه يعيش في رومانيا لأن قوانين البلاد أكثر تساهلا فيما يخص الاعتداء الجنسي، وبدلا من أن يصف الكاتب موقف "تيت" من تدمير حياة الذكور في الدول الغربية إذا ما اتهمتهم امرأة بالتحرش دون دليل، فضَّل الكاتب أن يكتب جملة توحي بأن الرجل أراد الذهاب إلى دولة يمكنه فيها ممارسة الاعتداء الجنسي دون خوف.

هذه الطريقة من الحيل تمارسها بعض الجرائد والمواقع الكبرى، إذ أصبح هذا تقليدا متبعا في الكتابة الغربية، إنه اقتناص أسوأ ما في محتوى الشخص المراد الهجوم عليه وإبرازه، ثم اختيار كلمة من القاموس الليبرالي يُنعت بها مع تكثيف الحملة عليه (وفي حالة أندرو كان الوصف هو "كارِه النساء"). وبدلا من مناظرة ما يُقدِّمه الخصم من حجج، صار الحل الأسهل انتقاء أضعف ما يقوله أو إعادة تأويل ما قاله بالفعل ومن ثم شيطنته. ومع ذلك فإن مشكلات خطاب "أندرو" قبل الإسلام لعلها أكثر عمقا بكثير من تلك المآخذ التي يرددها الإعلام الغربي.

يصب الإعلام الغربي الليبرالي غضبه على "أندرو" بتكرار تصريحين له على وجه الخصوص؛ الأول هو "أن النساء مِلكٌ للرجال"، والثاني هو "أن النساء يتحملن جزءا من المسؤولية حين يُغتَصبن". ويرد "أندرو" بأن هذه التصريحات مُجتزَأة، ففي الأول يقول إن النساء ينتمين إلى أزواجهن، وإن حديثه أتى في إطار شرح تاريخي لشكل الأسرة التقليدية في المسيحية، إذ تنتقل النساء من حماية الأب إلى حماية الزوج فيكون هو المسؤول عن رعايتهن، ومن ثم فإن مقصوده هو الحماية والرعاية وليس الملكية بمعناها الحرفي. أما التصريح الثاني فيقول "تيت" إنه قصد به أنه لا ينبغي للمجتمع التظاهر بأنه من الطبيعي أن تذهب فتاة لتسهر وتسكر في بيت شاب لا تعرفه فيغتصبها، ثم الادعاء بأنها لا تتحمل نصيبها من الخطأ.

نعود الآن إلى نقطة الاختلاف الأهم بين خطاب مالكوم وخطاب "أندرو" التي عادة ما تتجاهلها معظم منابر الإعلام الغربي. لقد كان العمود الأساسي في فكر مالكوم هو مسألة حب الذات السوداء. ففي خطاب تاريخي له قال مالكوم للسود: "مَن الذي علَّمك أن تكره شعرك؟ أن تكره لون بشرتك لدرجة استخدام مستحضرات التبييض؟ مَن الذي علَّمك أن تكره منخارك وشفتيك؟ مَن علَّمك أن تكره نفسك من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك؟ هل علَّمنا الرسول محمد الكراهية؟ لا بد أن تسأل نفسك مَن علَّمك أن تكره الصورة التي ركَّبك عليها الله". في الواقع شغلت هذه الفكرة حيزا أساسيا من فِكر مالكوم، وهي نقطة عمل عليها فيما بعد العديد من المفكرين، وأنتجت ثمارا واقعية مع القرن الحادي والعشرين، إذ باتت فكرة أن السواد مرادف للقبح أقل تأثيرا ورواجا بكثير مما كانت عليه من خمسين سنة مضت. ولاحظ هنا أن نقطة انطلاق مالكوم هي أن العالم لا يحبنا ويضطهدنا، لذا علينا قبل كل شيء أن نحب أنفسنا لا أن ننصاع لمعايير العالم.

على العكس من ذلك، خاطب "أندرو" قبل أن يُشهر إسلامه جمهوره من الذكور الذين يعتقد أيضا أنهم مظلومون في هذا العالم تماما كما اعتقد مالكوم في مظلومية السود، لكنه عوضا عن أن يقول لهم أَحِبّوا أنفسكم في عالم جعلكم غير مرئيين، قال لهم: عليكم أن تصبحوا أغنياء وأقوياء وتذهبوا إلى صالة الألعاب الرياضية وتبنوا عضلاتكم حتى تحبكم النساء. النساء تحب الرجال الأقوياء ضخام الجسد وذوي النفوذ وتحتقر الضعفاء، وهذا ما تُظهره الإحصاءات. وفي حواراته بعد أن حُظِر مباشرة من على مواقع التواصل الاجتماعي، تساءل "أندرو" في عجب كيف يقولون عنه كارِها للنساء وهو يقول للرجال أن يفعلوا ما تحبه النساء بالفعل، وأن يصيروا رجالا أقوياء وأغنياء: "أنا أريد أن أُلبِّي للمرأة رغباتها التي تُصرِّح بها دائما في اللحظات الحقيقية".

لقد انصب جُلُّ اهتمام "أندرو تيت" على دعوة الرجال للخروج عن الأفكار التي يرى أنها تستعبدهم وتُسلِّعهم، أو الخروج عن المصفوفة (الماتريكس) كما سمَّاها بنفسه، لكن خطابه في جوهره دعَّم الأفكار السائدة ضمنيا، فهو لا يدعو الرجال للثورة على العالم الذي يستعبدهم ويضع المعايير التي تخنقهم، وإنما دعاهم إلى أن يُتقنوا تلك المعايير ويخضعوا لها. ولربما تلك هي الحلقة الأضعف والنقطة الأخطر في خطاب "أندرو" قبل إسلامه، والمناقضة لفِكر مالكوم، وهي فكرة لم يُوجَّه لها النقد الكافي، إذ اكتفى الإعلام الغربي الذي أصيب بحالة ذعر من الرجل بنعته بأوصاف جاهزة مُعلَّبة دون تحليل جدي لخطابه ومشكلاته الحقيقية.

ليس خطاب "أندرو" ثوريا أو مناوئا للنظام الأيديولوجي القائم، وإنما هو التعبير الأكثر شراسة وصراحة عن هذا النظام ذاته. يقول "أندرو" صراحة إننا نعيش في عالم غربي متمركز حول المرأة في رأيه، ومن ثم فإن أهم ما يمكن أن يفعله الرجل في حياته هو أن ينال إعجابها، ولكي ينال إعجابها عليه أن يعتمد الجاذبية الجسدية والمالية سبيلا وحيدا لذلك. بيد أن "أندرو" في حواراته بعد الإسلام يُشدد كثيرا على أن ما سيجلب للرجال السعادة هو الحل الروحي والاقتراب من الله وليس ممارسة الجنس أو شراء السيارات الفارهة، فيما يبدو أنه نقلة تدريجية بدأت في أفكاره بعد أن اعتنق الإسلام، وقد تفتح له الباب لمراجعة بعض أفكاره القديمة الإشكالية، وأن يصل إلى إجابات أكثر رصانة وصدقا لأزمة الرجل الغربي المعاصر كما يشعر بها.

"أندرو تيت".. هل يسلك درب "مالكوم"؟

يُذكِّرنا ذكاء وحِدَّة وفكاهة أندرو في طرح أفكاره بلمحة من مالكوم في ظهوره الأول للجماهير الأميركية، كما أن التفاف الناس حول كاريزمته وذعر معارضيه من وجوده يُذكِّرنا بالالتفاف والذعر نفسه الذي صاحب صعود مالكوم، مع اختلاف القضايا التي حرَّكت الرجلين كما أوضحنا. وجدير بالذكر أن "أندرو تيت" في حواراته منذ إعلان إسلامه يؤكد أنه ما زال لديه الكثير ليتعلَّمه عن دينه الجديد، وأنه منفتح للتعلُّم والتغيير.

من جهة أخرى، يتفق الدعاة المسلمون في الولايات المتحدة وبريطانيا ممن التفوا حوله بعد إسلامه على أن "الإسلام يَجُب ما قبله"، وأن هناك نقاطا في فكره وممارساته تُعارِض الشريعة، ومن ثمَّ ينبغي مراجعتها وتغييرها من وجهة نظرهم، لا سيما أفكاره حول المرأة التي كانت محل انتقاد بعض الدعاة المسلمين في الولايات المتحدة حتى السلفيين منهم قبل إسلامه.

وحدها الأيام يمكنها أن تجيب عن سؤال ما إن كان "أندرو تيت" سيستمر في طور المؤثر الإلكتروني الذي يستهدف المشاهدات والنجاح وضم أفراد جدد إلى جامعته المثيرة للجدل "Hustlers University"، أم أنه سيُطوِّر مفاهيمه ومنظوراته والقضايا التي تشغله ويأخذ الدرب الصعب الذي سار عليه الشاب الأسمر يوما ما. في الأخير، كان بوسع المرء في زمن مالكوم إكس أن يُطوِّر أفكاره ويُصحِّح ذاته إذا ما امتلك الشجاعة والصدق، اللذين لم ينقصا مالكوم يوما، أما "أندرو تيت" فيعيش في عصر "الريتش" وعدد المشاهدات والمتابعات، وهو زمن لا يُعطي بالضرورة فرصة لنضج الأفكار بهدوء.

لقد استقبل العديد من المسلمين في العالمين الغربي والإسلامي إسلام "تيت" بالكثير من الترحيب، وعقد بعضهم الكثير من الآمال على المليونير المُفوَّه ليستخدم حضوره وشهرته في خدمة قضايا المسلمين العادلة مثل القضية الفلسطينية، لكن التحدي الأكبر أمام كل هذه الآمال هو أننا في زمن منصات التواصل الاجتماعي وليس زمن القضايا والأيديولوجيات الكبرى. إن الأيام القادمة ستُنبئنا ما إن كان أندرو على طريق مالكوم بالفعل، وسيُراجع "يمينيَّته" من أجل إسلامه، أم أن إسلامه سيصير مجرد أداة تطغى عليها وتوجِّهها نزعته اليمينية وثراؤه ومنصاته على وسائل التواصل الاجتماعي.

__________________________________

المصادر:

  1. Andrew Tate was brutally knocked out twice in kickboxing title fights
  2. Inside the violent, misogynistic world of TikTok’s new star, Andrew Tate
  3. Who is Andrew Tate? One of the most googled person in world
  4. The 100 Most Searched People on Google in 2022
  5. Andrew Tate vs Piers Morgan | The Full Interview
  6. The untold story of Malcolm X
  7. 7 Things You May Not Know About Malcolm X
  8. Letter From Mecca
  9. FBI involvement in cover-up of Malcolm X assassination produces more questions than answers
  10. Timeline of Malcolm X’s Life
  11. Of Boys and Men: Why the Modern Male Is Struggling, Why It Matters, and What to Do about It
  12. Malcolm X, the portrait of a free man.
  13. Andrew Tate & Tucker Carlson Aug 25 2022
  14. Why Andrew Tate Is Banned From Almost Every Social Media Platform
  15. Live Exclusive: Andrew Tate Discussion with Mohammed Hijab
  16. Malcolm X – "Who Taught You to Hate Yourself?"
  17. The History Of The FBI’s Secret ‘Enemies’ List
المصدر : الجزيرة