اثنا عشر عاما من العزلة.. السنوات الأخيرة للملا عمر

"إني جربتُ هذا الخراساني، وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدتُه حجرَ الأرض".

(زعيم الدعوة العباسية إبراهيم الإمام متحدثا عن قائدها العسكري أبي مسلم الخراساني)

كانت ليلةُ الرابع من ديسمبر/كانون الأول عام 2001 ليلة من ليالي قندهار الباردة. تقاطر الرجالُ الملتحون الملتفون في ملابسهم الفضفاضة وعمائمهم الضخمة السوداء، فدخل كلٌّ منهم بسلاحه واحتضنه، وجلسوا وسط الغرفة الواسعة المفروشة بالسجاد الملون. أسند كلٌّ منهم ظهره إلى الحائط منشغلا بتمشيط لحيته بيده، أو التحديق المتوتّر في الهواء انتظارا لدخول "أمير المؤمنين".

بعد دقائق من الانتظار والترقُّب، دخل الرجل الصموت ذو الحضور المهيب، فتقدَّم -في سكينة- إلى وسط المجلس وجلس واضعا سلاحه في حضنه، ورفع وجهه في وجوه الحاضرين الذين يعرف جيدا ما يدور في أذهانهم. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام والولايات المتحدة تقصف أفغانستان ليل نهار، وقد بدأ نظام "الإمارة الإسلامية" ينهار، في حين تبدو المقاومة أمرا عدميا عند كثير من القادة. لكنَّ الرجال الحاضرين يعرفون صلابة زعيمهم وقدرته الخارقة على العمل الهادئ في أحلك لحظات التوتر. بدأ الملا عمر بحمد الله، ثم سأل أصحابه عمّا يرونه فلم يُجبه أحد.

ساد صمت بطيء مليء بالدلالات. كان كل واحد من الرجال الأشداء الحاضرين لا يعرف بمَ يجيب. فهذه الولايات المتحدة مزمجرة غاضبة آتية بكل سلاحها وجبروتها، ومن ورائها تحالف دولي مدجَّج بالسلاح والغضب، وهم قادةُ حركة ضعيفة محاصَرة منذ وصلت إلى الحكم. وقد تزلزلتْ قناعات كثيرة مع الزلازل اليومية التي تُحدثها قنابل التحالف الدولي الارتجاجيّة في أطراف البلاد، لكن قناعة واحدة لم تتأثر لدى معظم قادة الطالبان، وهي اعتقادهم الراسخ بثبات قائدهم، وما لديه من مدد روحي وصلابة أخلاقية تجعله لا يولي كبيرَ اهتمام للجانب المادي إذا وثِق من صواب موقفه أخلاقيا.

بعد لحظات كثيفة تجرَّأ الزعيم القبلي "الملا نقيب" وتحدَّث بعاطفة عن ضرورة الاستسلام لإنقاذ الأرواح، محتجا بأن الولايات المتحدة تقصف الناسَ صباح مساء، ولا قدرةَ لأحد على قتالها، ثم اقترح أن يتنازل زعماء طالبان عن السلطة لقادة جهاديين وزعماءَ قبليين لتجنيب البلاد مزيدا من الدمار.

الملا نقيب (رويترز)
الملا نقيب (رويترز)

يقول عدد ممن حضروا الجلسة إن كلمة "نقيب" بدت لهم طوقَ نجاةٍ قد أُلقي إليهم، كما كانت تعبيرا عن خواطر معظم الحاضرين(1)، فليس ثمَّة منطقٌ لرفع السلاح الآن. بدا الملا عمر هادئا كعادته رغم الحديث العاطفي القوي المطالب بالاستسلام، ثم علَّق بكلمات قليلة على رأي الاستسلام فدفنه، مقترِحا لزومَ طريق الجهاد، متأثما من الاستسلام للغزاة المغتصبين، ثم بيَّن أن على المجاهدين أن يخرجوا إلى الجبال والقرى والصحاري إذا تمكَّن الأميركيون من دخول قندهار. تحدَّث عمر دون أن يعطي فرصة لأي طريق غير النزال. توترت الجلسة، وزاد من توترها أن القصف لمكان المجتمعين مُحتمَل في أي لحظة، فالولايات المتحدة تواصل غاراتها، وتجمع المعلومات عن أي اجتماع قد يحضره قادة طالبان. وكان على الجميع اتخاذ قرار مصيري في وقت قياسي وجو متوتر، يُخيم عليه الخوف من الطائرات الأميركية.

بعد نقاش، اقترح عضو القيادة العسكرية لطالبان الملا عبد الرزاق راكتي وآخرون أن تسمح طالبان لبعض قادة القبائل المقربين منها بالعمل مع الأميركيين، ليكونوا سندا للحركة لاحقا أثناء الجهاد. لكن الملا عمر تدخَّل رافضا الفكرة، وقال: كيف نسمح لرجالنا بالعمل مع المحتلين المعتدين؟ على الأميركيين أن يُعيِّنوا رجالهم الذين سيحاربهم المجتمع بعدُ.

بعد أخذٍ ورد، تبيَّن للملا عمر أن معظم الحاضرين يرجِّحون الاستسلام. طلب ورقة وقلما وكتب تفويضا بنقل صلاحياته لوزير دفاعه الملا عبيد الله، ثم وقف والتفت -قبل خروجه من الباب- سائلا رفاقه إذا ما كانوا يفهمون دلالة قرارهم. هزَّ الرجال رؤوسَهم بالإجابة واضعين أيديهم على صدورهم، وخرج الملا محمد عمر إلى ظلام قندهار وهو يسمع أصداء القصف الذي لا يكاد يتوقف عن العاصمة الروحية لخلافته. خرج معه قادة قليلون ممن يرون رأيه في استمرار الجهاد، من أبرزهم الملا عبد الرازق نفيسي.

أحمد والي كرزاي يتحدث، وهو شقيق الرئيس الأفغاني حامد كرزاي (في الصورة على اللافتة) في قندهار.
أحمد والي كرزاي يتحدث، وهو شقيق الرئيس الأفغاني حامد كرزاي (في الصورة على اللافتة) في قندهار.

ظل الملا عمر أياما في قندهار مشرفا على مقاتليه المشتبكين مع القوات البشتونية التي يقودها أحمد كرزاي وحامد كرزاي. لكنَّ الملا عبد الرازق نفيسي وآخرين قالوا للملا عمر إن الأميركيين سيبذلون قصارى جهدهم لاعتقاله، وإنه لا بقاء لروح الجهاد إذا اعتُقل "أمير المؤمنين" في هذه الظروف، فالحفاظ على حياته ضروري للحفاظ على جذوة الجهاد حية في الصدور.

وقد أخبرني مديرُ مكتبه يومَها سيد طيب آغا أنه ذهب إلى "أمير المؤمنين" حيث كان جالسا في المسجد لحظة قصف مطار قندهار، يقول: "جئتُه في المسجد بعد صلاة العشاء، وجلسنا نناقش ما علينا فعله لتأمينه. انصبَّ رأينا على أن يخرج للاختفاء، لكنه رفض، مقترِحا أن يظل في بيته مشرفا على الجهاد حتى الاستشهاد. وبعد أخذ ورد اقتنع بضرورة الخروج، لكنه اقترح أن يذهب إلى الجبال حيث توجد بيوت وأنفاق كنا قد أعددناها. اعترضنا أيضا على ذهابه للجبال لانكشافها أمام الأميركيين الذين يصورونها دوما، ثم اقترحنا أن يختفي في إحدى القرى، فوافق على ذلك وطلب من الجميع التفرق مثنى وفرادى"(2).

قبل سقوط قندهار بيوم واحد نهايةَ ديسمبر/كانون الأول 2001، خرج الملا عمر خفية مع مرافقَيْن واختفى عن أنظار العالم إلى الأبد، اختفى عن عيون الدنيا التي كانت تبحث عنه. فمنذ خروجه في سيارة تويوتا بيضاء صغيرة من الحواري الخلفية لقندهار؛ لم تلحظه عينُ مخبرٍ ولا التقطته عدسة قمرٍ اصطناعي.

الملا عمر
الملا عمر

تحرَّكت التويوتا البيضاء حاملة في كرسيها الخلفي واحدا من أهمّ المطلوبين في التاريخ السياسي المعاصر. سافر الرجل، ذو الواحد والأربعين عاما يومئذٍ، الذي رصدت الولايات المتحدة عشرة ملايين دولار لمَن يُدلي عنه بمعلومات، بصحبة رفاقه يومين كاملين حتى وصلوا ولاية زابل؛ مئتيْ كيلومتر شمال شرق قندهار. كانت الطريق مخيفة لكثرة الوشايات، وانتشار المؤيدين لحامد كرزاي، الرئيس الأفغاني المؤقت، أو الباحثين عمن يُباع للقوات الأميركية. في هذه الظروف دخل الملا ورفيقاه إلى مدينة "قلعة خلجي" أو "قلاتي غيلجي"، غير أنهم ما إن وصلوا المدينة حتى تعطَّل أحدُ إطارات سيارتهم. نزلوا لإصلاح الإطار فبدأ الفضوليون يتجمعون كعادة أهل المدن الداخلية في أفغانستان.

أصلحوا الإطار عجِلين مخافةَ أن ترقبهم عينٌ أو تسمع بهم أذن، وانطلقوا بعد نصف ساعة قاصدين قرية بمنطقة سُورَيْ. كان المرافق الرئيسي للملا عمر شابا متصوفا -وفقا للمنهج الطالباني الديوبندي- يُدعى عبد الجبار عمري. وصلوا إلى إحدى القرى وبقوا أياما بمنزل رجل يُدعى شير علي، ثم تحولوا إلى بيت شقيقة الملا عمر بقرية "شنكي"، حيث بقوا أياما في ضيافتها هي وزوجها مولوي عبد الرحمن. كانت الخطة الأمنية في هذه الفترة تقتضي دوام تغيير المسكن حتى تتضح الأمور ويُرتَّب منزل مستقر للملا عمر.

بقي الملا عمر أياما في بيت أخته، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى منزل مولوي أكرم داخل قرية شنكي. وبعد نحو أسبوع قرَّروا إخراجه من شنكي والتوجُّه إلى مدينة سوريْ، حيث استقبلهم عبد الكبير وأقاموا عنده نحو ثلاثة أسابيع. بعد ذلك كان الأخوان عبد الصمد وعبد الأحد ومعهما عبد الجبار عمري قد اختاروا المكان الذي سيتخذه الملا عمر سكنا دائما، والواقع في قرية تُدعى "خورا" داخل مقاطعة سوريْ(3).

المصدر : الجزيرة