شعار قسم ميدان

قاتلوا كالأسود بأسلحة جيدة.. لماذا خسر المماليك أمام نابليون في مصر؟

نابليون: الأهرامات ، 1798. معركة الأهرامات ، 21 يوليو 1798 ، بين الجيش الفرنسي بقيادة نابليون وقوات المماليك.
معركة إمبابة، 21 يوليو 1798، بين الجيش الفرنسي بقيادة نابليون وقوات المماليك. (شترستوك)

اللوحة التالية هي إحدى أشهر روائع الرسام الإسباني "فرانسيسكو دي غويا"، وقد رسمها عام 1814 تحت عنوان "هجوم المماليك"، مُخلِّدا بها ذكرى ثورة مدريد على الاحتلال الفرنسي في 2 مايو/أيار 1808. والمُدهش إلى جانب اسمها ما تظهره من هيئة فُرسان داكني البشرة بملابس أقرب للملابس العربية أو التركية القديمة، ويعود السبب في ذلك إلى أن الفرنسيين استعانوا في إخماد الثورة الإسبانية والتنكيل بالثوار بجنودهم المماليك، إذ شَرَع "نابليون بونابرت" في تجنيدهم داخل الجيش الفرنسي بعد أن حاربهم في إمبابة المصرية عام 1798، وذلك لما وجده فيهم من قوة استثنائية.

لوحة "هجوم المماليك للرسام الإسباني "فرانسيسكو دي غويا"
لوحة تحت عنوان "هجوم المماليك" للرسام الإسباني "فرانسيسكو دي غويا" عام 1814.  (مواقع التواصل)

إن لوحة مثل تلك تجعلنا نعيد النظر في تاريخنا العسكري، فالمُعتقد السائد حتى عند الكثير من المثقفين العرب هو أن اللحظة التي احتل فيها نابليون الديار المصرية كانت لحظة ضعف تام للجيوش الإسلامية، وأن المماليك حين حاربوا نابليون هُزِموا شرَّ هزيمة نظرا لفارق القوة والعتاد بينهم وبين الجيش الفرنسي المتطور. غير أن ذلك الاعتقاد الشائع لا يتطابق مع الوقائع التاريخية في جوانب كثيرة منه.

 

في الحقيقة، لقد أُعجب نابليون كثيرا بالفرسان المماليك وقوتهم وشجاعتهم أثناء حربه معهم في مصر. وبعد الحرب جنَّد المئات منهم في جيشه وفي حرسه الشخصي، وحاربوا معه في معارك حاسمة بعد ذلك في أوروبا. ولم يتوقف تأثيرهم على فرنسا، بل افتُتِن عدد من الجيوش الأوروبية بأدائهم العسكري بعدما رأوه من قتالهم مع نابليون، بما في ذلك الجيش البريطاني، وبدأوا في استنساخ أساليبهم القتالية وحتى أسلحتهم، بل وترك الفرسان المماليك آثارهم في المجتمع الأوروبي نفسه، فبدأ الأطفال والنساء يرتدون أزياء متأثرة بأزياء الفرسان المماليك. ولكن يبقى السؤال: إذا كان المماليك بهذه القوة، فلماذا خسروا أمام نابليون في مصر؟ ستحتاج منا الإجابة عن هذا السؤال إعادة قراءة حرب نابليون في مصر من جديد، بدون الافتراضات المُسبَقة عن ضعف المماليك المُدافعين عن مصر.

 

احتلال الإسكندرية.. قناصة مصرية كادت أن تقتل نابليون

نابليون نفسه كاد أن يُقتل بعد دخول المدينة، إذ حاول قناص مُسلِم قتله وأصاب حذاءه برصاصة.
كاد نابليون نفسه أن يُقتل بعد دخول مدينة الإسكندرية، إذ حاول قناص مُسلِم قتله وأصاب حذاءه برصاصة. (غيتي)

"ظننا أن المدينة استسلمت، وشدَّ ما أدهشنا أن ينهال علينا رصاص البنادق ونحن نمر أمام أحد المساجد".

أحد جنود الحملة الفرنسية في مذكراته

لعل المعركة التي نالت الكثير من الاهتمام فيما يخص الاحتلال العسكري الفرنسي لمصر هي معركة إمبابة، باعتبارها المعركة الكبرى التي انتصر فيها نابليون انتصاره النهائي وبسط سيطرته بعدها على البلاد. ومع ذلك، نحتاج إلى إعادة النظر في المعارك الصغيرة التي وقعت بين نابليون من جهة والمماليك والمتطوعين المصريين من جهة قبل الوصول إلى معركة إمبابة.

 

بعد وصوله إلى مشارف الإسكندرية في 30 يونيو/حزيران 1798 بحملة مُكوَّنة من 36 ألف جندي، حملتهم 300 سفينة واصطحبهم أسطول مُكوَّن من 55 سفينة ومدفعية؛ استطاع نابليون الاستيلاء بسرعة على المدينة. ولم توجد بالمدينة حينها قوة عسكرية نظامية سوى فِرقة إنكشارية بلغ عددها 500 مقاتل. وقد قُتِل أثناء اختراق الفرنسيين لأسوار المدينة 300 جندي فرنسي. وجدير بالذكر أن الجنرال "بابتيست كليبر"، الذي قتله سليمان الحلبي فيما بعد، أُصيب بطلق أثناء الهجوم على الإسكندرية، كما أن نابليون نفسه كاد أن يُقتل بعد دخول المدينة، إذ حاول قناص مُسلِم قتله وأصاب حذاءه برصاصة. وللمفارقة، حين عثر الفرنسيون حسب إحدى الروايات الفرنسية على القناص، وجدوا رجلا وامرأة مختبئَيْن، فقتلوهما.

 

كان الجنرال "ماري رينيه سافاري" الذي حضر الهجوم على الإسكندرية يسخر من جهل المصريين الواضح بعِلم المدفعية والتعامل الفعَّال مع أسلحتهم. ولم يكن بالإسكندرية أثناء الاحتلال الفرنسي غير 4 مدافع صالحة للعمل، وهو عدد قليل جدا بالإضافة إلى كمية قليلة من البارود لم تكفِ للتعامل مع الأعداد الغفيرة لجنود الحملة الفرنسية. ولكن على الجانب الآخر، فإن حضور المدافع المملوكية، وحقيقة إصابة كليبر وإصابة قائد عسكري آخر هو "مينو" ثم إطلاق النار على نابليون؛ تشي لنا بأن المشهد لم يكن كما صوَّرت بعض الروايات النمطية، وأن المصريين والمماليك لم يكونوا مجرد جحافل من حَمَلة السيوف البدائية في مواجهة بنادق وطلقات نارية لم يسمعوا بها من قبل. في الواقع، لم تكن أسلحة المماليك بدائية، وسيتضح لنا هذا الأمر أكثر حين نعرف أنباء المعركة الحاسمة في إمبابة.

 

بعد اقتحام الفرنسيين مدينة الإسكندرية، ذبحوا المدافعين عنها ممن اعتصموا في النهاية بأحد المساجد، وبحسب الجنرال "جوزيف بوير" فقد ذُبِح الرجال والنساء وكبار السن وحتى الأطفال لمدة أربع ساعات متواصلة. وبمجرد التأكد من السيطرة التامة على المدينة، أخذ نابليون رجاله في رحلة شاقة للغاية خلال الصيف دون راحة جنوبا إلى مدينة الجيزة كي يُتِم مهمته، ومن ثمَّ وقعت معركته الثانية في شبراخيت يوم 13 يوليو/تموز 1789 مع قوة صغيرة من المماليك بقيادة مراد بك الذي شغل منصبا مرموقا في البلاد، وهو المسؤول عن تنظيم رحلات الحج من مصر.

 

معركة شبراخيت.. الانتصار المنسي

إعادة قراءة المعركة بالتفصيل، جعلت بعض المؤرخين يعيدون النظر في إمكانية أن نُسمى ما حدث في شبراخيت انتصارا فرنسيا من الأساس
إعادة قراءة معركة شبراخيت بالتفصيل، جعلت بعض المؤرخين يعيدون النظر في إمكانية أن نُسمى ما حدث فيها انتصارا فرنسيا من الأساس. (مواقع التواصل)

إن الصورة السائدة عن معركة شبراخيت هي أنها أقرب إلى تجربة مُصغَّرة لمعركة إمبابة الكبرى، حيث انتصر فيها نابليون بسهولة على مجموعة صغيرة من المماليك، وانسحب بعدها المهزومون إلى عاصمتهم ليواجهوا الاحتلال بكل قوتهم في المعركة الحاسمة في القاهرة. لكن إعادة قراءة المعركة بالتفصيل جعلت بعض المؤرخين يُعيدون النظر في إمكانية أن نُسمي ما حدث في شبراخيت انتصارا فرنسيا من الأساس، وتحديدا إذا ما سلطنا الضوء على الجانب البحري للمعركة.

 

لقد توجه مراد بك، وهو رجل شديد الضخامة ذو لحية شقراء عُرِف بقوته البدنية، من أجل قتال الفرنسيين خارج القاهرة، واصطحب معه 4000 مملوك بالإضافة إلى الآلاف من البدو والفلاحين المصريين المتطوعين من أجل "الجهاد". وقد انطلق المصريون مُكبِّرين في وجه العدو بصيحات أفزعت الجنود الفرنسيين كما نقلوا فيما بعد في مذكراتهم. وهناك في شبراخيت اكتشف نابليون وجنوده أن المماليك يلبسون من الحُلي والثياب الفخمة والأحجار الكريمة النادرة ما يوحي بإمكانية الحصول على غنائم ثمينة في حال الانتصار عليهم.

 

حين التقى الجمعان تبيَّن أمر مهم، وهو أن المماليك أقوى بكثير من ناحية القدرات البدنية، فأبسط مقارنة فردية بين قائد المماليك العملاق مراد بك ونابليون من الناحية الجسدية توضِّح الفارق. وقد ذكر "إريك هوبزباوم"، أحد أهم مؤرخي القرن العشرين، أن الجنود الفرنسيين في تلك الفترة كانوا قصار القامة، ومع ذلك كانوا شديدي البأس واستطاعوا أن يتحمَّلوا جسديا ما لا يمكن لجنود اليوم تحمُّله، إذ ساروا أحيانا بعُدَّتهم دون توقف لمدة أسبوع. ولكن بعيدا عن ملحوظة هوبزباوم، يظل الفارق الجسدي بين المماليك والفرنسيين جليا، حتى إن الرسامين الفرنسيين الذين أرَّخوا لانتصار بونابرت في معركة إمبابة لم يَسعهم إلا أن يُظهِروا في لوحاتهم ذلك الفارق الجسدي، حيث رُسم المماليك الواقعون في الأسر بعد الهزيمة مفتولي العضلات وأمشق قواما من الفرنسيين.

لوحة للفنان الفرنسي "أنطوان جان غروس" رسمها لتصوير الانتصار الفرنسي في الجيزة
لوحة للفنان الفرنسي "أنطوان جان غروس" رسمها لتصوير الانتصار الفرنسي في الجيزة. (غيتي)

رغم تلك القوة الجسدية، فإن المماليك افتقروا تماما إلى العِلم والتنظيم العسكري الحديث (وهي الملحوظة نفسها التي ذكرناها فيما يخص مدافع الإسكندرية). لم يتعلَّق الأمر إذن باختلاف المُعِدات ومدى تطوُّر السلاح الفرنسي وتأخُّر نظيره المملوكي، بقدر ما تعلَّق بالقدرة على تنظيم الجيوش الكبيرة. فبينما تعامل المماليك ومعهم المصريون البسطاء المسلحون بالهراوات في الحرب بوصفها فَنًّا في التضحية وإظهار الشجاعة الفردية، تعامل الفرنسيون تحت قيادة نابليون مع الحرب بوصفها عِلما في المقام الأول، حيث الخطة هي الرُّكن الأهم. أما المماليك فعرفوا تكتيكا عسكريا واحدا هو تكتيك سلاح الفرسان.

 

لقد تحرَّك المماليك بدافع الحماس في ساحة القتال، إذ امتطى كلٌّ منهم صهوة حصانه وحمل سيفه ومسدساته، وكان نابليون قد قرأ لوقت طويل عن تكتيكات ساحات جنود المشاة التي استخدمها الروس والنمساويون أثناء حروبهم مع العثمانيين في المئة سنة السابقة لغزوه لمصر، فأنتج تصورات عسكرية جديدة لتنظيم قواته في ساحة القتال على نحو لم يستوعبه المماليك بأي حال. ويجادل بعض المؤرخين أن نابليون لم يصل لتلك الأفكار إلا من خلال التطور الذي سبقه في العسكرية الفرنسية، إذ صنع نابليون من قواته مستطيلات مُجوَّفة (تسمى أحيانا مُربَّعات نابليون) غطت مساحة 12500 متر مُربَّع، مع تسعة مدافع على كل زاوية، ما جعل حجم تنظيم وتركيز النيران مكثفا ودقيقا على نحو غير مسبوق.

 

وربما يسهل على البعض القول إن المماليك كانوا شديدي التخلف لأنهم لم يستطيعوا التعامل بسهولة مع خطط نابليون الجديدة، فكانوا ينطلقون على نحو غير منظم حتى تنهال عليهم نيران الفرنسيين بسهولة. ولكن الواقع أن ما حدث للمماليك أمام نابليون هو ما حدث مع أكبر الجيوش الأوروبية أمامه أيضا، لقد ظلت شفرة التطور الكبير في التخطيط العسكري الفرنسي صعبة الفهم بالنسبة لأكبر الجيوش في العالم، فحتى ذلك الوقت اعتادت الجيوش أن تتحرك كُتلة واحدة، وهو تماما ما فعله المماليك. أما ما طوَّره الجيش الفرنسي فهو القدرة على تقسيم الجيش إلى فيالق متعددة يتحكم بها القائد وكأنه يلعب الشطرنج عبر التخطيط المُحكَم والانضباط الصارم.

في هذا السياق، أرَّخ كولونيل فرنسي من الذين شاركوا في الحرب على مصر قائلا إن الفرنسيين سرعان ما أدركوا أن الرجال الذين حاربوهم تمتَّعوا بشجاعة لا تُضاهى، لكنهم لم يمتلكوا أي فكرة عن التحركات المشتركة والعمل الجماعي. وقد أوضح نابليون نفسه فيما بعد هذا الأمر، وقال إن مملوكا واحدا أقوى من جنديَّيْن فرنسيَّيْن، وإن 100 مملوك يكافئون 150 فرنسيا، بينما يمكن لـ300 فرنسي الانتصار على 300 مملوكي، في حين يخسر 1500 مملوكي بسهولة أمام 1000 جندي فرنسي. إن ما قاله نابليون هنا هو عين الحقيقة، فكلما زادت أعداد الجنود في الساحة باتت أهمية التنظيم أكبر بكثير من القدرات الفردية.

 

بالعودة إلى شبراخيت، وبينما انتصر نابليون في البرِّ، واضطر المماليك للتراجع مرة ثانية نحو القاهرة؛ جرى جزء آخر من المعركة في مياه النيل، وخسر فيه الأسطول الفرنسي خسائر فادحة. ففي مواجهة الأسطول العثماني الذي أداره بحّارة يونانيون استطاعوا أن ينصبوا للفرنسيين كَمينا ناجحا، كانت خسائر الفرنسيين أكبر من خسائر الأسطول العثماني المدعوم بالمدافع في شبراخيت والبنادق على جانبَيْ النهر.

 

كانت البحرية العثمانية عموما مكافئة من الناحية التكنولوجية لنظيرتها الفرنسية، وامتلكت في أساطيلها عددا أكبر من القوارب. وقد استطاع رواد الأسطول العثماني في تلك المعركة أن يستولوا على بعض السفن الفرنسية بالفعل، وذبحوا بعض طواقمها ولوَّحوا برؤوس القتلى للفرنسيين الآخرين، حيث خسر الفرنسيون 70 قتيلا في تلك المعركة البحرية. وتشير أغلب الروايات إلى أن انفجارا كبيرا حدث بعد ذلك بسبب اشتعال مخزن بارود تركي تسبَّب في هلع الأسطول العثماني، وأخرجه من القتال، وعاد بعده إلى أعلى النهر، خاصة مع خسارة المماليك برًّا وانسحابهم. ولكن هذه الرواية عن نهاية المعركة البحرية تثير حفيظة بعض المؤرخين، إذ إن بحارة على هذا القدر من الخبرة يصعب أن ينسحبوا من معركة بهذا الشكل لمجرد الهلع من صوت انفجار، خصوصا أن معركة شبراخيت شهدت الكثير من طلقات المدافع النارية. وقد كان المماليك على كل حال منذ أنباء قدوم نابليون إلى مصر يَشُكُّون على نحو عميق في رغبة العثمانيين بأن يواجهوا الفرنسيين مواجهة جادة.

 

معركة إمبابة.. الشجاعة تقتل

المشكلة الحقيقية التي تظهر في لوحات الغزو الفرنسي لمصر بوضوح، هي التنظيم الدقيق للجنود الفرنسيين، في حين تظهر حركة المماليك وهجومهم شديدة العشوائية.
المشكلة الحقيقية التي تظهر في لوحات الغزو الفرنسي لمصر بوضوح، هي التنظيم الدقيق للجنود الفرنسيين، في حين تظهر حركة المماليك وهجومهم شديدة العشوائية. (شترستوك)

"كنت بجوار العَلَم ورأيت بجانبي المماليك الجرحى وهم يحترقون ومع ذلك يحاولون بسيوفهم قطع أرجل جنودنا في الصفوف الأمامية. لم أرَ قط رجالا أكثر شجاعة وتصميما".

من مذكرات أحد الجنود الفرنسيين الذين شاركوا في الحرب

أثبتت خطة نابليون العسكرية على رقعة القتال البرية في شبراخيت نجاحا باهرا، ووقع المماليك في شباك حيله التكتيكية تماما، وبقيت خطوة أخيرة لنجاح الحملة، وهي الاستيلاء على القاهرة التي أعدَّ المماليك أكبر جيش مُمكن للدفاع عنها في معركة فاصلة. إنها معركة إمبابة أو معركة الأهرام كما يسميها الفرنسيون، التي نشبت في 21 يوليو/تموز 1798، وبعكس المعارك السابقة، كان الجيشان في هذه المعركة متكافئيْن إلى حدٍّ ما من ناحية عدد القوات. ويُقدِّر عدد من المصادر أن جنود جيش المماليك بلغ عددهم 40 ألف رجل، بينما تشير أغلب المصادر إلى أرقام أقل. وقد قُسِّم هؤلاء بين مماليك وجنود عرب وإنكشاريين أغلبهم من ألبانيا، بالإضافة إلى الآلاف من الفلاحين المصريين المُسلحين بهراوات بدائية (وكانوا عديمي الفائدة إلى حدٍّ بعيد).

 

حصَّن المماليك الضفة اليسرى من النيل في قرية إمبابة الواقعة بين نهر النيل وأهرامات الجيزة، وغطى الفرسان الصحراء من إمبابة إلى قرب الأهرامات، بينما بقيت قوات أخرى أقل تحت قيادة إبراهيم بك على الضفة اليمنى من النهر في بولاق ومعهم 18 ألف فلاح مصري، ويُعَدُّ قرار تقسيم القوات هذا أحد القرارات التي يتوقف عندها بعض المؤرخين العسكريين بالنقد. وقد استعمل نابليون في هذه المعركة من جديد تكتيك "المستطيلات" الذي استخدمه في شبراخيت، فنظَّم 6 صفوف من الجنود في العمق من الأمام والخلف، وثلاثة صفوف على كل جانب، بينما تركزت المدافع في الزوايا. وركز نابليون على تدريب التشكيلات على نحو يجعلها تُغيِّر أشكالها بمرونة كي تتمكَّن من رد الهجمات عليها إذا جاءتها من أي اتجاه بالكثافة والكفاءة نفسها.

 

دخل المماليك الحرب على خيولهم الأصيلة شديدة السرعة والجمال، التي أعجبت نابليون بشدة. وكانت عدة الفارس المملوكي هي بندقيته وزوجا من المسدسات ورماحا، فضلا عن الخناجر والسيوف المملوكية المصنوعة من الصلب الدمشقي. ومن المفارقات أن شجاعة المماليك لعبت دورا أساسيا في هزيمتهم، فلم تكن مدافعهم قادرة على الحركة، وفي الوقت نفسه اتجهوا بعدد كبير من قواتهم كي يهاجموا المَيْمَنة الفرنسية قبل أن تستقر مستطيلاتها. وفي أثناء هجوم المماليك، استقرت فيالق اليسار الفرنسية وبدأت تلتهمهم، حيث سمح نابليون للمماليك بالاقتراب ثم استقبلهم بنيرانه، ولم تُهدَر خرطوشة واحدة من الجنود الفرنسيين.

 

ومع ذلك، توجَّه المماليك بفدائية كبيرة وسط النيران، مُلقين بأنفسهم بين براثن الموت رغم عدم قدرتهم حتى على كسر الصف الأمامي من المستطيلات، وساعين "للشهادة" دون أن يدركوا أن هجومهم الذي لم يتوقف هذا هو عين ما أراده نابليون، الذي وصفهم فيما بعد بأنهم قاتلوا كالأسود. وبعد الفشل الذريع للهجوم المملوكي، بدأ نابليون في تغيير تشكيلات فيالقه على نحو مَرِن لم يكن معتادا في ذلك العصر. ولذا، لم يتمكن المدافعون عن الجيزة من إيجاد طريقة للتعامل مع هذا الجيش المرن الذي تحرَّك على نحو غير مفهوم بالنسبة لهم آنذاك، وحقَّق أهدافه بأقل الخسائر المُمكنة. وقد جلس جيش إبراهيم على الضفة الشرقية عاجزا عن فعل أي شيء فارق.

 

انتهت المعركة بعد سأم القِلة المتبقية من المماليك من سلسلة هجماتهم الفدائية عديمة الفائدة، وفرُّوا مع مراد بك وفلوله إلى الصعيد بفضل سرعة خيولهم رغم ملاحقة بعض الجنود الفرنسيين لهم. وقد أخذ إبراهيم بك وفلوله الطريق من الجيزة إلى سوريا، وتدفقت القوات الفرنسية في إمبابة وبشتيل تتبع المقاتلين المصريين والمماليك الذين حاولوا الهرب عن طريق السباحة في النيل، فقتلوهم بينما قضت التماسيح على بعضهم الآخر في مذبحة حكى عنها الجنود الفرنسيون في مذكراتهم ووصفوها بأنها كانت مرعبة. وقد قُتل من الجيش المدافع عن القاهرة في تلك الحرب ما تقدره بعض المصادر بـ10 آلاف قتيل بينهم 7 آلاف مملوك، بينما لم يفقد جيش نابليون إلا العشرات بالإضافة إلى مئات الجرحى. وفي الأيام التالية بدأت قوات نابليون تُخرِج جثث المماليك التي وقعت في النهر أثناء المعركة كي يبحثوا عن القطع الذهبية والمجوهرات الثمينة في ملابسهم الحريرية وأسلحتهم المُزيَّنة، ووجدوا بالفعل ما أرادوا.

معركة الأهرامات ، 21 يوليو 1798 - فرانسوا أندريه فنسنت
معركة إمبابة، للفنان الفرنسي "فرانسوا أندريه فنسنت". (مواقع التواصل)

حلَّل "فيليب زيليكو"، أستاذ التاريخ بجامعة فيرجينيا، لوحات الغزو الفرنسي لمصر، ولاحظ أن الجانبَيْن المتحاربَيْن امتلكا أسلحة نارية، فلم تكن المشكلة على الإطلاق في افتقاد طرف لهذا النوع من الأسلحة المتقدمة أو ذاك. غير أن المشكلة الحقيقية، التي تظهر في اللوحات بوضوح على حد قوله، هي التنظيم الدقيق للجنود الفرنسيين من خلال ساحات جنود المشاة ومستطيلات نابليون، في حين تظهر حركة المماليك وهجومهم شديدة العشوائية.

 

لقد قنعنا لسنوات عديدة بإجابات جاهزة ونمطية لمسألة الهزائم المتلاحقة التي مُنيَت بها الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة المُنصرمة، من قبيل التقدُّم والتخلُّف والاضمحلال والنهضة، لكن هذه الإجابات العامة أشبه بحجاب يحول بيننا وبين حقائق كثيرة ورؤى جديدة لفهم التاريخ، وهو حجاب يتفكَّك باستمرار أمام الرؤية العلمية ومناهج البحث التاريخي التي تُقرِّب الصورة الحقيقية والمُركَّبة لما حدث حين تكبَّدت عدة جيوش إسلامية هزائم متتالية في نهايات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وشهد العالم سيطرة كاسحة للجيوش الأوروبية امتدت إلى القرن العشرين، ومهدت للطريق للعالم بشكله الذي نعرفه اليوم.

—————————————————————————–

المصادر

  1. Lust for Glory: Napoleon’s Egypt Campaigns Helped With Invading Europe
  2. تشكيلات تاريخية: عن جيش نابليون
  3. ودخلت الخيل الأزهر
  4. Mameluke Scimitar Sword
  5. Mameluke Sword
  6. The Georgian Mameluks in Egypt
  7. Today in Middle Eastern history: the Battle of the Pyramids (1798)
  8. الحملة الفرنسية على مصر.. أول غزو للشرق الأوسط منذ الحروب الصليبية
  9. FRENCH INFANTRY SQUARES ANNIHILATE THE MAMLUK WARRIORS
  10. The Naval Component of the Battle of Shubra Khit
  11. NAPOLEONIC WARS: BATTLE OF THE PYRAMIDS
  12. Battle of the Pyramids (Battle of Embabeh)
  13. عصر الثورة: أوروبا (1789-1848)
المصدر : الجزيرة