شعار قسم ميدان

أبو المعالي الجويني.. إمام الحرمين الذي تحدى النازية قبل تسعة قرون من ظهورها

أبو المعالي الجويني
أبو المعالي الجويني. (مواقع التواصل)

لطالما شُغِل المسلمون بمسألة العدل والسلطان، ودأب علماؤهم على صياغة تقليد طويل من العلوم الشرعية المنبثقة عن الوحي والمشتبكة بأوضاع الناس منذ نزل الإسلام في مكة، بيد أن قلة هي التي انشغلت بمسائل لم تظهر آثارها جلية إلا في العصر الحديث، وأبرزها حالة الاستثناء، أو ما نعرفه عادة بمصطلح حالة الطوارئ، حيث يُعطَّل العمل بالقانون والدستور، وتتسع رقعة سلطان الدولة بشكل استثنائي بسبب حرب أو أزمة أو غير ذلك، وهي حالة شغلت فلاسفة القانون ومُنظِّري السياسة، بيد أنها شغلت فيما يبدو أحد أئمة الإسلام الكبار قبل حوالي ألف عام.

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط زعيم ألمانيا النازية "أدولف هتلر" أُسِّست محكمة نورمبرغ عام 1945 بغرض محاكمة مجرمي "الحرب النازية" التي شنتها ألمانيا على أوروبا والعالم، وقد استدعت المحكمة المفكر السياسي والقانوني الألماني الشهير "كارل شميت" للمثول أمامها عام 1947، إذ وجهت له المحكمة تهمة "التنظير للنازية وجرائمها"، لكن المحكمة لم تستطع إثبات اتهامها عليه، رغم أن شميت انتمى بالفعل للحزب النازي عام اعتلائه سدة الحكم في ألمانيا (1933)، وبقي منتميا له حتى عام 1936 حين انسحب من الحزب لأنه "لم يكن نازيا بشكل كافٍ" كما قال زعماء النازية حينذاك.(1)

 

تُسلِّط هذه الواقعة الضوء على ثغرات النظام القانوني الوضعي الذي لا يمكنه إثبات أي جرم إلا بعد ربطه بوقائع مادية ملموسة، وهو ما استطاع القانوني كارل شميت استغلاله لنفي التهم الموجهة إليه بكل سهولة، بل حوَّل شميت مرافعته عن نفسه إلى محاضرة حول علاقة الأفكار بالأفعال ومدى صعوبة الجزم في تلك القضية الفلسفية التي أفنى الفلاسفة أعمارهم فيها ولم يحسموها، وبذلك برَّأت المحكمة شميت بعد أن نجح في إيقاع المحكمة في شراك فخه الذي نصبه بعناية، فلا أحد من الحاضرين كان يعلم أن الأساس النظري للتهمة التي وجَّهتها المحكمة لشميت (أي علاقة الأفكار بالأفعال والقرارات) قضية فكر فيها شميت وكتب عنها طوال عشر سنوات سبقت صعود هتلر للحكم، وأن انتماء شميت للحزب النازي كان فرصة للرجل لتجريب ما كتب عنه عام 1922 في كتابه "اللاهوت السياسي"، الكتاب الذي طرح فيه نظريته حول "السيادة" وقرر فيه أن "السيد هو مَن يستطيع أن يتخذ قرارا بشأن حالة الطوارئ/الاستثناء"(2)، تلك الحالة "الاستثنائية" التي يمكن فيها لصاحب القرار أن يُعلِّق كل القوانين العقلانية بقراراته التي لا تعتمد على أي أساس منطقي أو عقلاني.

اللاهوت السياسي لكارل شميت
كتاب (اللاهوت السياسي) لـ"كارل شميت" (مواقع التواصل)

قبل كل تلك الأحداث بحوالي 9 قرون، عاد إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني" إلى مدينة "نيسابور (نيشابور)" بعد أن خرج منها هربا من الحبس والقتل، وقد توطدت علاقته بالسلطان السلجوقي "ألب أرسلان" ووزيره "نظام الملك الطوسي"، فوضع كتابه الأهم في السياسة الشرعية "غِياث الأمم في التِياث الظُّلَم"، وعلى غير العادة لم يكتفِ "الجويني" في كتابه ببحث مسألة "صفات الإمام الشرعي"، بل جاء كتابه نقدا حادا لكتاب "الأحكام السلطانية" الذي ألَّفه "أبو حسن الماوردي"، الذي جمعته علاقات سياسية بالدولة البويهية (الشيعية)(أ)، وهي دولة اصطدمت بها دولة السلاجقة حتى قضت عليها نهائيا عام 447 هجرية(3)، وقد طرح "الجويني" في كتابه معالجة فريدة من نوعها لمسألة "السيادة" التي اهتم بها كارل شميت، فخصص جزءا من كتابه لبيان وظيفة الحاكم، وكيفية التصرف في حالات الاستثناء، وكأنه يطرح ردا مسبقا للاتجاه الذي كتب عنه كارل شميت فيما بعد.

 

بينما اعتقد شميت بأن حالة الاستثناء تكشف عن جوهر السيادة وعن قصور الرؤية الليبرالية بأكملها، رأى "الجويني" الأمر بشكل معكوس، فبدلا من رؤية الاستثناء بوصفه تعبيرا عن السلطة التي تُعلِّق أي قوانين أو معايير عقلانية في حالة الطوارئ، استخدم الجويني تعريفه لحالات الاستثناء كي يُظهِر الكيفية التي تُحدِّد بها الشريعة نطاق السلطة وممارستها سعيا للوصول للعدل والعقلانية بين الناس(4)، لذا فإن ما دوَّنه هذا الإمام الأشعري في القرن الخامس الهجري يمكن اعتباره بمثابة تفكيك وحجة مناقضة لنظرية شميت التي مهدت لظهور هتلر واعتلاء الحزب النازي للسلطة في ألمانيا، كيف يرى الإمام الجويني إذن الطريقة الأمثل لبناء العدالة إذا كنا نعيش في حالة استثناء يغيب عنها العدالة والقانون؟ هذا ما تكشفه دراسة للباحث أحمد عبد المجيد بعنوان "بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية" نُشِرت ترجمتها في مركز نهوض، ونناقش هنا أهم أفكارها.

 

سيادة الشريعة في وجه الوجودية السياسية

عاش الإمام الجويني جل حياته في القرن الخامس الهجري، حين كانت الدولة العباسية في طور تدهورها وانحلالها الذي بدأ في القرن الرابع حين انفصل أكثر حكام الولايات عن بغداد ووجهوا سهامهم إلى الدولة العباسية، فظهرت الدولة الفاطمية بمصر ساعية لإقامة خلافة شيعية، كما ظهر الحمدانيون في حلب والموصل، والبويهيون الشيعة في فارس والعراق، وغيرهم، وكادت الدولة العباسية أن تندثر حتى ظهر السلاجقة السُّنَّة في منتصف القرن الخامس الهجري ودخلوا فارس وبغداد والشام، وقد عاصر الجويني في النصف الأول من القرن الخامس الصراعات السياسية بين السلاجقة والبويهيين، فتارة غلب البويهيون وحاولوا نشر التشيُّع، وتارة انتصر السلاجقة فأعادوا الأمور إلى نصابها، حتى استقرت الأمور للسلاجقة وجاء أول سلاطينهم "طُغرُلْبِك" السلجوقي السُّنِّي الحنفي، لكن وزيره "عميد المُلك الكُندُري" كان معتزليا رافضيا، وفي عهده وقعت الفتنة "الكُندُرية" التي أجبرت الإمام الجويني على الفرار من نيسابور.(5)

 

قبل ذلك كان المذهب الأشعري قد أُسِّس على يد "أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري"، وأصبح من أكثر المدارس الكلامية نفوذا وانتشارا طيلة أكثر من ألف عام، إذ سعى هذا المذهب لإيجاد موقف وسط بين مذهب المعتزلة ومذهب أهل الحديث (السلفي) الذي أسسه الإمام "أحمد بن حنبل"، ففي مسألة "صفات الله" مثلا جادل المعتزلة بأن العقل لا يمكن أن يتصور أن لله صفات، لذلك ذهبوا إلى تأويل صفات الله بوصفها معاني كلية، "بينما أكد أهل الحديث أنه لم يُنقَل عن النبي أي محاولة لتحديد العلاقة بين ذات الله وصفاته، فينبغي أن تؤخذ صفات الله بنصها" دون أي تأويل(6)، أما الأشعري فقد اتخذ موقفا وسطا، حيث قَبِل الحجة العقلانية للمعتزلة، ورفض أن تكون صفات الله زائدة على ذاته، غير أنه رفض التعامل معها على أنها معانٍ مجازية كما فعل المعتزلة.

حدَّد الجويني أن وظيفة "الإمام" هي حماية النظام السياسي الذي يمكن بداخله استيعاب المواقف والتفسيرات المختلفة
حدَّد الجويني أن وظيفة "الإمام" هي حماية النظام السياسي الذي يمكن بداخله استيعاب المواقف والتفسيرات المختلفة (مواقع التواصل)

وفقا للمذهب الأشعري "فإن الله يتعالى على نطاق المعرفة العقلانية وتصنيفاتها المرتبطة بحدود الزمان والمكان وكل ما هو متناهٍ، لذلك فأي أحكام بشأن العلاقة بين ذات الله وصفاته مجرد تكهنات محددة بمساحات المعرفة العقلانية"(6)، لكن هذا الموقف "الوسط" لم يكن مجرد رأي "مذهبي" أو "نظري"، بل فتح بابا من الجدل المستمر حتى يومنا هذا أساسه ما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري واتبعه فيه أبو المعالي الجويني حول حدود استخدام العقل، فقد اتفق كلاهما مع المعتزلة على أن للعقل دورا محوريا في البحث عن الحقيقة ومعرفة العالم، لكن استخدام العقل له حدود في فكر الرجلين، فما هي إذن؟

 

يتَّبِع المعتزلة في بناء حجتهم منطق البرهان العقلي، وينبني هذا النوع من التفكير البرهاني على عدد من الخطوات الاستدلالية المتوالية التي تبدأ بمعطى مثل "وجوب علة أولى للعالم"، وتنتهي إلى نتيجة محددة مثل "وحدة الله وعدم قابليته للتركيب"، في المقابل رأى الأشعري والجويني أن باب التأويل لا يمكن إيقافه، كما أن هذا البرهان العقلي اعتمد بالأساس على التجريد والتأمل(6)، لذا فمن غير الواقعي أن تكون هذه الطريقة أساس الاعتقاد، ومن ثَم التزم الأشاعرة الموقف الوسط، فاتفقوا مع المعتزلة على أن صفات الله ليست منفصلة عن ذاته، لكنهم رفضوا اعتبار هذه الصفات مجرد مجازات.(6)

 

يرى الدكتور أحمد عبد المجيد في ورقته "بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية" أن الإجابة التي قدَّمها الأشاعرة، وتنطوي على موقف غامض وتناقض ظاهري، تمثل في الوقت نفسه التزاما بحماية التعددية في التفسيرات العقلانية، إذ تؤكد هذه الإجابة أنه "يمكن أن تكون هناك تفسيرات عقلانية صحيحة بالقدر نفسه للمفهوم ذاته"، كما يدعو هذا الموقف إلى استخدام العقل، ولكنه يشدد على أهمية التحقق من هذا الاستخدام لتجنب الوقوع في المثالية المطلقة، وبحسب "عبد المجيد" يرسم هذا الموقف الإطار النظري لنظرية السيادة التي طرحها الجويني في كتابه، حيث حدد الجويني أن وظيفة "الإمام" هي حماية النظام السياسي الذي يمكن بداخله استيعاب المواقف والتفسيرات المختلفة، والتي يمكن أن يصل إليها علماء الفقه حول القضية نفسها في ضوء المنهجيات المختلفة التي يستخدمها كل مذهب من مذاهب الشريعة الإسلامية، وبذلك تضمن سيادة الشريعة قيام نظام يقبل بالتعددية العقلانية والفقهية ومن ثَم السياسية.(6)

 

ومن أجل "حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وهما الدوران الأساسيان اللذان حددهما الجويني للإمام، يجب على الإمام حماية العامة من الانزلاق إلى اتجاهات فكرية خاطئة أو حملهم على ما قد لا يستطيعون استيعابه، فقد انتقد الجويني موقف "المأمون" من بدعة "خلق القرآن" واضطهاد علماء السُّنَّة، حيث قال إن الدور الرئيس للإمام عنده هو "تأمين مجال يتيح لكل فاعل سياسي العيش وفقا لأحكام المنهجية الشرعية التي يرغب في تبنيها"، فلا يتمتع "الإمام" بسلطة مطلقة، بل يتوقف دوره على تأمين المجال العام للفاعلين السياسيين ذوي التوجهات العقلانية المختلفة(6)، وتختلف هذه الرؤية جوهريا عما طرحه شميت في النصف الأول من القرن العشرين، إذ قدَّم شميت في كتابه "اللاهوت السياسي" (الصادر عام 1922) رئيس الدولة بوصفه "ديكتاتورا ذا سلطات مطلقة" تُمكِّنه من إيقاف العمل بالقانون وتعطيل الدستور في حالة الطوارئ، ما يكشف عن حقيقة "السيادة" في الدولة الحديثة في نظره، فالسيادة ليست سيادة القانون أو المؤسسات، بل سيادة "الزعيم" وقراراته التي لا تستند إلى أي تبرير عقلاني في لحظات الطوارئ التي تُهدِّد نظام الدولة.(7)

 

وهكذا فإن سلطة اتخاذ القرار التي تكشف عن جوهر السيادة تعتمد وفق شميت على "بصيرة أرقى من بصيرة العقلانية البشرية العادية"، وهذه القدرة على إعلان حالة الطوارئ الاستثنائية إنما تحمل دلالة وجودية عُليا، "إذ يتحدَّى الزعيم معايير العقلانية بفضل وجوده المحض"، وقد بنى شميت أطروحته على ما عُرِف بـ"المذهب القراري (Decisionism)" المشتق من "فلسفات الأزمة" التي ظهرت في أوروبا منذ عصر "نيتشه"، وأشهر تلك الفلسفات هي "الفلسفة الوجودية" التي مكَّنت شميت من بناء أطروحته حول "حالة الاستثناء" فما تلك الفلسفة إذن؟ وكيف بنى عليها شميت أطروحته؟(7)

 

الاستثناء بين شميت والجويني

لم يكن انتماء شميت، المفكّر الفذّ وأحد أهم وألمع العقول القانونية الألمانية في القرن العشرين، إلى الحزب النازي حدثا عابرا أو مجرد حُمَّى وصولية وانتهازية أصابته، بل كان التقاء فكريا خالصا وجد فيه شميت تعبيرا عن مذهبه السياسي الذي ظل يبنيه لعقد من الزمان، فلم يرَ شميت في هتلر "ديكتاتورا مصابا بهوس السلطة"، بل تعبيرا عن منظومة من الأفكار سادت ألمانيا ووسط أوروبا طيلة قرون سابقة، وفق شميت جاء هتلر ليكون تجسيدا للروح الأوروبية بعد أن انكشف مدى هشاشة القيم الأخلاقية التي آمن بها الأوروبيون تحت تأثير الليبرالية.

 

بدأت هذه الأزمة التي احتلت جزءا كبيرا من الفكر الأوروبي الحديث في التبلور منذ عصر "نيتشه"، وأعاد الفيلسوف والمؤرخ الألماني "أوسفالد شبِنغلر" تقديمها لجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى في كتابه "تدهور الغرب"، إذ أكد في كتابه نظرة نيتشه التي تقول بأن "جميع القيم الغربية التقليدية: الدينية والأخلاقية والسياسية قد فقدت صحتها، ومن ثَم دعم الرأي القائل بأن جميع البدائل عن النظام العالمي الموروث لا بد لها أن تكون راديكالية حتى تصبح بدائل حقيقية"، وبذلك هَوَت جميع القيم في مقابل قيمة وحيدة، هي الحياة بحقيقتها الحيوانية ولذَّاتها الغريزية، ومن هنا ظهرت في أوروبا الفلسفة الوجودية بوصفها الفلسفة الأنجح في إضفاء صورة منطقية للحياة وقيمها وقراراتها التي ينبغي أن تنبع من العدم، دون اعتبار لمعايير أخلاقية أو ثقافية سائدة، وبذلك تتحقق الأصالة الوحيدة الممكنة للحياة.(7)

الفيلسوف والمؤرخ الألماني "أوسفالد شبِنغلر" تقديمها لجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى في كتابه "تدهور الغرب"
كتاب "تدهور الغرب" للفيلسوف والمؤرخ الألماني "أوسفالد شبِنغلر". (مواقع التواصل)

أصبح جوهر فلسفة الحياة قائما إذن على تلك القرارات اليومية التي لا تستند إلى أي مبرر عقلاني، فكيف يمكن أن تنتظم الحياة السياسية في تلك الحالة؟ حاول شميت في بناء أطروحته التوفيق بين مذهب "القرارية" المبني على الفلسفة الوجودية، والذي يعتمد على اتخاذ القرارات دون الاستناد إلى معايير اخلاقية أو قانونية أو ثقافية أو حتى عقلانية، وبين "فلسفة النظام العملية"، أي الالتزام بالحفاظ على النظام القائم مهما كانت العواقب(7)، ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذين الاتجاهين المتناقضين؟ للإجابة عن هذا السؤال وضع شميت أطروحته حول "اللاهوت السياسي" وحالة الاستثناء، فلا يمكن الخلاص من حالة الهشاشة والنفاق التي تتجلى في المؤسسات الليبرالية إلا بدولة "الزعيم المُخلِّص"، ذلك الزعيم الذي يستطيع أن يُعبِّر عن جوهر السيادة عبر حالة الاستثناء المعتمدة فقط على وجوده.

 

على النقيض أتت حالات الاستثناء عند الجويني تجسيدا، لا لإرادة الإمام المطلقة، بل في الحقيقة لغياب الإمام الذي اعتبر الجويني أن وظيفته حراسة نظام التعددية العقلانية والسياسية، وقد عالج الجويني في كتابه حالات الاستثناء التي يسببها غياب الإمام في مجتمع إسلامي متعدد، ففي الحالة الأولى يقع استثناء يوجب على الناس اتباع مجتهدي المذاهب بحيث يهدون الناس إلى العدالة، ولكن ماذا يحدث في حالة خلو المجتمع الإسلامي من المجتهدين؟ في تلك الحالة الثانية يذهب الجويني إلى ضرورة اعتماد الناس على أئمة المذاهب ممن لديهم قدرة الاطلاع على المراجع الكافية فيجدون بها ما يقدرون به على معالجة الواقع، أما الحالة الثالثة فهي حالة يغيب فيها حتى أئمة المذاهب وفقهاؤه، وفي تلك الحالة ينصح الجويني الناس باتباع مقاصد الشريعة إلى جانب استخدام القواعد الأساسية للاستنباط الفقهي، ثم يتناول الجويني الحالة الرابعة، حيث لا يوجد حتى إدراك عند الناس لأصول الشريعة، بل يغيب عنهم كل ما يتعلق بالفهم السليم للإسلام، ويقول الجويني إنه ينبغي على الناس في تلك الحالة استخدام حِسِّهم العقلاني للوصول إلى الحقيقة.(8)

 

بين سيادة الشريعة ومعجزة الاستثناء

"إني وضعت هذا الكتاب لأمر عظيم، فإني تخيلت انحلال الشريعة وانقراض حَمَلَتها، ورغبة الناس عن طلبها".

أبو المعالي الجويني

يذهب الباحث أحمد عبد المجيد في ورقته أن تلك الحالات الأربع للاستثناء التي وضعها الإمام الجويني وتشرح أطروحته حول السيادة تتقابل جذريا مع أطروحة شميت حول السيادة، وتتوافق مع الأسس المعرفية للمذهب الأشعري حول تعدد المعرفة العقلانية، فعلى عكس شميت الذي يرى الاستبداد الناتج عن حالة الاستثناء هو جوهر السيادة، يرى الجويني أن حالة الاستثناء تقع عندما يبرز حاكم سياسي لا يتصف بأوصاف الإمام أو "الراعي الشرعي" الذي يحمي مجتمع التعددية العقلانية، ثم تتوالى حالات الاستثناء بغياب تلك التعددية، حتى تغيب عن الناس الشريعة بشكل كلي.

 

وفي تلك الحالة التي تمثل حالة الاستثناء الأخيرة يكون على الأفراد أن يصلوا بعقولهم وحدسهم إلى العلة الأولى للوجود، أي وجود الله، أما على المستوى السياسي فينبغي على الفاعلين السياسيين أن يتفقوا على الحد الأدنى من القيم الضرورية من أجل الخير والعدل(8)، ومن هنا تبدأ إعادة بناء النظام التشريعي والسياسي إلى الأعلى من جديد، مرورا بكل حالة من حالات الاستثناء الأربع من الرابعة إلى الأولى.

 

ففي المستوى الثاني ينتقل المجتمع وفقا للجويني إلى وضع الحقائق والمعايير التي استقاها للنقاش والتفسير ومحاولات التطبيق، وهو مستوى يقابل حالة الاستثناء الثالثة التي تحدث عندما ينقرض العلماء والفقهاء وتبقى فقط مقاصد الشريعة، أما المستوى الثالث فهو الحالة التي سيحاول خلالها العلماء التعرف إلى الطرق المختلفة لتطبيق القيم عبر أحكام عملية، وهي مرحلة تتطلب وجود علماء يمكنهم إسقاط القواعد العامة عمليا على حوادث معينة، وهي حالة وجود فقهاء ناقلين مع انعدام المجتهدين (حالة الاستثناء الثانية)، "ومع استمرار هذه العملية لتطبيق التصورات العامة تنشأ الحاجة إلى وجود فئات من الأفراد لديهم القدرة على الخروج بتصورات تفسيرية جديدة في كل فترة تاريخية، وفي هذه الحالة يبرز المجتهدون" (حالة الاستثناء الأولى)، وعند اكتمال أركان النظام التشريعي والسياسي تظهر الحاجة إلى وجود "حاكم" يحرس هذا النظام ويحافظ على اتزانه، فتنتهي حالة الاستثناء، وبذلك يقرر عبد المجيد أن حالات الاستثناء التي ذكرها الجويني تمثل مراحل ممارسة العقل وفقا للمنهج الأشعري، وفي الوقت نفسه تمثل (بالمقلوب) مراحل بناء نظام سياسي تعددي تتحقق فيه سيادة الشريعة.

 

غير أن ما طرحه شميت يبدو ظاهريا خطوة متقدمة على "سيادة الشريعة" التي تحدَّث عنها الجويني، وفقا لشميت فإن "المفاهيم النظرية الحديثة المهمة للدولة كلها مفاهيم لاهوتية مُعَلمَنة، وذلك ليس فحسب بسبب تطورها التاريخي، حيث نُقِلت المفاهيم من اللاهوت إلى نظرية الدولة، ولكن أيضا بسبب بنيتها المنهجية، فالاستثناء في علم القانون مثل المعجزة في اللاهوت"(8)، ويرى شميت في حالة الاستثناء، التي يستطيع عبرها الزعيم أن يوقف العمل بالقانون فيكشف عن جوهر السيادة، أنها تعمل مثل المعجزة التي يتدخل بها الله ليوقف العمل بقانون الطبيعة عن طريق عمل خارق للطبيعة، ما يؤكد جوهر السيادة الإلهية.

أسس الجويني في جميع أعماله منهجا لتجديد النظر في الشريعة، والخروج من واقع رأى فيه انقراض العلم بالشريعة ومقاصدها
أسس الجويني في جميع أعماله منهجا لتجديد النظر في الشريعة، والخروج من واقع رأى فيه انقراض العلم بالشريعة ومقاصدها (مواقع التواصل)

لقد قدَّم الجويني وفقا للمذهب الأشعري نقدا حاذقا لتلك المقولة، وفنَّد به أطروحة شميت من جذورها قبل ظهور الأخيرة بقرون، فلا يمكن في رأي الجويني ادعاء شيء مؤكد بشأن الطبيعة، وحتى مبدأ السببية الذي يحكم قانون الطبيعة تناوله الأشاعرة (وأبرزهم الإمام أبو حامد الغزالي تلميذ الجويني)، وذهبوا إلى أن العلاقة السببية بين الحريق والقطن المحترق مثلا علاقة سببية مشروطة تستند إلى العادة المطردة، فتلازم النار مع الشيء المحترق ليس تلازما سببيا، ومن وجهة نظر الأشعري "لا يوجد قانون طبيعي، لأن الطبيعة احتمالية، كما هو الحال في ميكانيكا الكم الحديثة"، فالمعجزة مجرد انقطاع للعادة لما هو ممكن بالفعل، أي أن معجزة توقف النار عن الحرق مثلا ليست معجزة، وإنما هي مجرد احتمال آخر لوقوع النار لم تألفه العادة، لذلك فالمعجزة ليست تدخلا عنيفا في نظام العالم يوقف نظام الكون أو الطبيعة كما يقول شميت، بل أمرا مشابها للحجة العقلية التي يستطيع أي شخص عاقل الوصول إليها، أما وقوعها فيعتمد على السياق الذي يبدو فيه سريان العادة موافقا ومؤيدا للحجة، كما حدث مع الأنبياء.(8)

 

بناء على هذا المفهوم الجديد الذي طرحه الأشاعرة حول المعجزة لا توجد حجة عقلية قطعية، ولا يوجد حل سحري يمكنه أن يصلح النظام السياسي بالقوة أو يقيم العدالة عن طريق الانقلاب على القانون، ويستخدم الجويني هذا النهج ليؤكد أن "البشر القادرين على التفكير سيستخدمون عقولهم ويشرعون في نظر عقلاني من شأنه أن يقودهم إلى الاعتقاد في الله"، ما يقودهم بالضرورة لاستخدام عقولهم لفهم العلاقة بين الله وحياتهم، والنظر في حجج متضادة والتدقيق فيها باستخدام العقل والحدس معا، ثم الشك باستمرار حتى الوصول إلى مذهب يقدم طريقة تربط الإله بحياتهم دون الوقوع في دعاوى استبدادية ذات ميول إقصائية، وبالتالي الحفاظ على تعددية النظام بشكل دائم.(8)

 

هكذا رأى الجويني جوهر سيادة الشريعة، الذي تشرحه حالات الاستثناء ومفهوم المعجزة، بوصفه المقصد النهائي للشريعة، وقد شرح الجويني في عمله الأخير خلاصة فكره وخبرته الحياتية، والطرق الممكنة لاستخدام العقل وفقا للشريعة للوصول إلى نظام سياسي تعددي يقيم العدالة، ووضع الجويني في أطروحته تفنيدا لأطروحة كارل شميت التي تُنظِّر للاستبداد قبل قرون من ظهورها، كما أسس في جميع أعماله منهجا لتجديد النظر في الشريعة، والخروج من واقع رأى فيه انقراض العلم بالشريعة ومقاصدها (كما حدث في حياته)، وهو واقع ما انفك يتكرر مصداقا لنبوءته.

———————————————————

الهوامش:

  • 1- ظهر بني بُوَيْه في بلاد الدَيْلم شمال قزوين، واستولوا على بلاد فارس والجبال وهَمَذان، وشكَّلوا دولة بني بُوَيْه، ثم دخلوا بغداد في عهد الخليفة العباسي "المستكفي"، وأصبح لهم النفوذ والسلطة المطلقة، وامتد حكمهم في بغداد من سنة 334 هجرية إلى سنة 447 هجرية، حتى قضى عليهم السلاجقة، وكان البوَيهيون من أتباع المذهب الزيدي، وكانوا يخططون لإزالة الخلافة العباسية وإقامة خلافة علوية شيعية.

————————————————————————————

المصادر

  1. النازي المُحترَم.
  2. اللاهوت السياسي، كارل شميت، المركز العربي للأبحاث والدراسات.
  3. الإمام الجويني، الدكتور علي الزحيلي.
  4. بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية، أحمد عبد المجيد، ترجمة إيمان علاء الدين.
  5. الإمام الجويني، الدكتور علي الزحيلي.
  6. بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية، أحمد عبد المجيد، ترجمة إيمان علاء الدين.
  7. مقولات النقد الثقافي، ريتشارد وولين، ترجمة محمد العناني.
  8. بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية، أحمد عبد المجيد، ترجمة إيمان علاء الدين.
المصدر : الجزيرة