شعار قسم ميدان

زواج وطلاق وخُلع وفسخ.. كيف مارست المرأة المصرية حقوقها الشخصية قبل أربعمئة عام؟

زواج وطلاق وخُلع وفسخ.. كيف مارست المرأة المصرية حقوقها الشخصية قبل أربعمئة عام؟

لا يزال موضوع تاريخ المرأة وممارساتها اليومية والقانونية والشرعية في الأقطار العربية والإسلامية قبل الحداثة يستهوي جماهير القراء والباحثين على السواء؛ وذلك بغية معرفة كيف عاشت النساء في الشرق الأوسط على مر القرون التي وصفها عدد لا بأس به من المؤرخين بأنها عصور تخلُّف وانحطاط وهضم لحقوق المرأة، لا سيما في عصر مصر العثمانية (1517م-1805م).

 

ثمة أسئلة مهمة ومتنوعة بحاجة إلى الإجابة حين نتناول تاريخ المرأة في تلك العصور. كيف عاشت؟ وكيف تربَّت؟ وكيف تعلَّمت؟ وكيف تزوَّجت؟ وكيف عاملها زوجها؟ وكيف رآها القانون ومنظومة القضاء؟ وهل حُفظت حقوقها الإنسانية والآدمية في التعلُّم والتربية والزواج ورعاية الأسرة والذمة المالية المستقلة؟ أم هُضِمت تلك الحقوق ولم يكن لها شأن أمام مجتمع تركَّزت فيه القوة الفعلية بيد الرجال من حيث احتكار السلطة والسلاح والمال وغير ذلك؟

 

تلك أسئلة لا يمكن لنا أن نجيب عنها كلها؛ فثمَّة العشرات من الدراسات المعاصرة التي أماطت اللثام وكشفت غوامض تلك المرحلة المهمة على أيدي مؤرخين كبار سواء في العصور الإسلامية الوسيطة أو عصر الدولة العثمانية، والحق أن مصر التي كانت على الدوام واحدة من أهم ولايات الدولة العثمانية طيلة ثلاثة قرون حازت خلالها خصوصية تاريخية مهمة، لأنها كانت مقر دولة المماليك السابقة التي أسقطها العثمانيون وضمُّوا أقطارها من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة كمِّ الوثائق الضخم الذي سُجِّل منذ تلك الحقبة ولعبت فيه المحاكم الشرعية دورا فعَّالا في توثيق العقود والفصل بين المتنازعين في الحياة اليومية.

المرأة بعصر الدولة العثمانية

اعتمد المؤرخون المصريون على هذا الكنز من المعلومات التاريخية التي بسطت لنا الحياة الاجتماعية للمصريين في العصر العثماني، ودور القضاء والمحاكم في الأخطاط "الشوارع"، أو المحاكم الأكبر مثل محكمة القسمة العسكرية، أو محكمة الباب العالي، فضلا عن محاكم الأقاليم مثل الإسكندرية ودمياط وأسيوط وغيرها. هذا بالإضافة إلى المصادر التاريخية المهمة في تلك المرحلة مثل ما كتبه "أبو السرور البكري" و"الشبراوي" و"الجبرتي" وغيرهم في التأريخ لهذه المرحلة.

 

في ضوء ذلك، يمكن أن يكون موضوع حق المرأة في القضايا الشخصية مثل الزواج والطلاق والخُلع والفسخ، وانتصاف القضاء لها في ذلك العصر، موضوعا مهما وجاذبا بالنظر إلى وجود أمثلة متنوعة من الوثائق التي كشفت لنا هذا الجانب المثير واليومي في حياة المرأة المصرية الاجتماعية قبل أربعة قرون، وهو وضع يشبه وضع المرأة المسلمة في العراق والشام والجزيرة العربية وشمال أفريقيا في ظل الدولة العثمانية التي كانت تهتم بالتوثيق والأرشفة والتسجيل، بخلاف الدولة المملوكية التي كانت تُهمل هذه الجوانب.

 

أوضاع المرأة الاجتماعية ومسألة الزواج

المرأة المصرية

تخبرنا الوثائق أن أوضاع المرأة المصرية في العصر العثماني اختلفت باختلاف مكانتها الاجتماعية بين الغنى والفقر، وبين ساكنات المدن مثل القاهرة ودمياط والإسكندرية وساكنات الأرياف والصحاري، فضلا عن الاختلافات بين الوجه البحري والوجه القبلي. وقد كانت نساء الطبقة الغنية المترفة من زوجات وجواري كبار الأمراء والموظفين يعشن حياة مرفَّهة في ذلك العصر، كانت الجواري تقوم على خدمة سيداتهن، وكلما كثر عدد جواري المرأة ارتقت في سُلم المكانة الاجتماعية بين قريناتها. ومع ذلك لم يستطعن الخروج من المنزل إلا نادرا للذهاب إلى الحمامات العامة أو زيارة الأقارب في مواكب حافلة، كما كُنّ عُرضة للتقلب السريع، حيث كان مألوفا في حروب المماليك أن يستولي الغالب على أموال وسراري المغلوبين والمقتولين.

 

أما نساء الطبقات الاجتماعية الأفقر فكن في مساعدة زوجاتهن كتفا بكتف في البيت أو في الريف، لكن نلاحظ أن حقوق المرأة أمام القضاء كانت محفوظة، لا سيما مع دخول العثمانيين مصر، فقد اهتموا بالتوثيق والأرشفة، لا سيما عقود الزواج والطلاق وبقية المعاملات الأخرى في البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات اليومية والشرعية، ولهذا السبب وقع بين أيدينا آلاف من الوثائق التي تؤرخ لهذه المرحلة، وكان مما يلاحظ حفظ حق الزوجة منذ بداية الخطبة والزواج من خلال توثيق العقود وإلزامية ذلك في المحاكم الشرعية المختلفة لمختلف طبقات المجتمع المصري غنيا كان أم فقيرا، مدنيا كان أم عسكريا، حتى إن أهل الأرياف كانوا يأتون من بلدانهم لتوثيق عقود الزواج في القاهرة في بعض الأوقات.

 

على سبيل المثال، ورد في وثائق محكمة الصالحية النجمية التي كانت تقع في وسط القاهرة بشارع المعز، وبتاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1552م، ما نصه: "أصدق أحمد بن علي بن أحمد الحميدي من أهل ناحية المزلة بالفيوم مخطوبته المصونة غنايم البكر القاصر بنت محمد بن خالد بن التاجر المذكور الحميدي". وفي وثيقة زواج أخرى كان الأب وكيلا عن ولده في المحكمة ذاتها، وقد جاء من الشرقية ليسجل العقد، حيث كُتب: "أصدق الحاج شُعيب بن خضير بن إسماعيل من أهل منزل حاتم بالشرقية في ذمته عن ولده القاصر مخطوبة ولده آمنة البكر القاصر بنت الحاج إسماعيل الحجازي القرافي"، وذلك في 26 يناير/كانون الثاني من عام 1546م[1].

الزواج بعصر الدولة العثمانية

وفي مجتمع مصر العثمانية كان هناك فصل تام أو شبه تام بين الذكور والإناث، فلا يسمح للزوج برؤية زوجته قبل الدخول بها، وقد كان تعريف الخطبة يختلف طبقا للعادات والعُرف السائد، ففي الغالب كانت الخطوبة تتم من قِبل أهل الشاب دون أن يرى زوجة المستقبل، فقد كان تزويج الأبناء حقا مُطلقا يتمتع به أرباب العائلات، بل إن موافقة الأبناء أنفسهم قد لا تكون ضرورية إذا كانوا في مقتبل العمر، وعند رغبة شخص ما في الزواج تبدأ أمه أو إحدى قريباته بوصف الفتاة التي ترشِّحها للزواج منه بذكر أحوالها، وقد تستخدم "الخاطبة"، وهي امرأة عملها مساعدة الشباب على الزواج مقابل هدية أو أجر محدد، وعندما يتفق الطرفان يتم تحديد موعد الخطبة، وفيه يجتمع أهل العريس بمنزلهم حتى يتجمع الأهل والأقارب ويقدمون واجب العرفان والعادة، ثم ينطلقون إلى منزل العروس الذي يكون قد هُيئ لاستقبال الخاطب وأهله،[2] وهي العادة التي لا تزال موجودة في مصر حتى يومنا هذا.

 

ويُعَدُّ الحاكم "القاضي" وليا لمَن لا ولي له، ولا يزوج القاضي المرأة إلا بعد أن يتأكد من توافر شروط الزواج بها سواء كانت بكرا أم ثيّبا، وقد رأينا الكثير من الوثائق الدالة على هذه الحقيقة، فقد تزوج أبو النصر بن سعود بن عبد الله الأويسي بمخطوبته كارية المرأة بنت عبد الله، عتيقة بدرية بنت البوجاني، وقد "زوّجها له بذلك بإذنها ورضاها الحاكم (القاضي) الحنفي الزيني محمد بن المولى الحكم على مذهب الإمام أبي حنيفة بهذه المحكمة"، وهي المحكمة الصالحية النجمية في وسط القاهرة[3].

 

كان القاضي أيضا هو الولي في تزويج اليتيمات أو مجهولات النسب، وكانت مثل هذه الزيجات تلقى احتراما كبيرا في المجتمع المصري آنذاك، باعتبار أن الزوج الذي يقوم بالتزوج من يتيمة إنما يقوم بعمل من أعمال البر، وكانت نظرة المجتمع للقضاء نظرة احترام وتقدير. ومن الأمور اللافتة رصد العديد من الحالات التي قامت المرأة فيها بتزويج نفسها مباشرة، وكثيرا ما كانت تقبض المهر بنفسها من الزوج، لا سيما المرأة الثيب بخلاف البكر التي يجب أن يكون لها ولي من الأهل أو من القُضاة إن عُدم وجود أهل لها، فقد "تزوجت الحُرمة سرجية المرأة ابنة أحمد بن عبد الله بخاطبها سالم بن عبد الله الأسود بإيجاب نفسها وقبوله لنفسه على ذلك قبولا شرعيا"، وهي وثيقة سُجّلت بمحكمة الباب العالي وسط القاهرة بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 1581م. ونجد زواج الضباط والجنود العثمانيين مثل الانكشارية "الينكجرية" والسباهية وغيرهم خاضعا للقضاء المصري بمختلف مذاهبه في ذلك التوقيت.

 

فقد تزوج السيد الشريف علي بن السيد الشريف محمد الحسيني الينكجري "الانكشاري" -وهذا يوضح لنا بُعدا آخر تَمثَّل في انضمام الأشراف العرب إلى أهم فِرَق الجيش العثماني الانكشارية- بمخطوبته آمنة ابنة المرحوم أحمد السباهي بعدما "زوجت نفسها له تزويجا شرعيا"، طبقا لما أوردته سجلات محكمة القسمة العسكرية في القاهرة بتاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول 1592م. وفي السياق ذاته عادت المرأة زليخا ابنة شاويك بن عبد الله إلى عصمة مطلقها الطلقة الأولى الزيني عثمان ابن المرحوم الأمير جانبيك من طايفة الجراكسة، وقد "زوجته نفسها على ذلك"، وكان ذلك "بحضور والدتها الحُرمة شراه المرأة ابنة ناصر الدين محمد المنفلوطي واطلاعها عليه ورضاها الرضا الشرعي"، طبقا لما أوردته سجلات محكمة الباب العالي بالقاهرة بتاريخ 28 مايو/أيار 1552م.

 

طلاق وفسخ وخُلع

وإذا رأينا حق المرأة في توثيق زواجها بكرا كانت أم ثيبا، فإننا يمكن أن نرى حقوقها أيضا في الطلاق وتوثيقه، وتوجد مئات الوثائق الدالة على ذلك، وفيها يتم الإقرار بالدخول والإصابة وتقر المرأة بحصولها على حقوقها كافة، سواء بالقبض أو الإبراء، ففي إحدى الوثائق "بعد اعترافها بالدخول والإصابة وتصادقا على ذلك ثم أقر كلٌّ منهما الإقرار الشرعي في صحته وسلامته وطواعيته واختياره أنه لا يستحق قبل الآخر حقا مطلقا ولا استحقاقا ولا دعوى ولا طلب ولا فضة ولا نحاس ولا نفقة متجمدة". وهذا الإقرار الشرعي الذي يصوغه القاضي إنما دلَّ على تيقُّنه من أن المرأة قبضت كُل حقوقها وصداقها قبل إتمام التوثيق.

 

وفي بعض الأوقات تم إقرار نفقة الرضيع أو الحمل في وثيقة الطلاق نفسها، فقد "قرر (الزوج) على نفسه كل يوم نصف درهم فضة واحد في نظير حملها المشمولة به منه تقريرا شرعيا" كما نقرأ في إحدى الوثائق. وكان يحق للمرأة أن تطلب فسخ الزواج لسبب من أسبابه الشرعية، مثل عدم الكفاءة أو الغيبة الشرعية الطويلة للزوج، أو غيرها من الشروط التي بيَّنها الفقهاء في مدوناتهم.

 

ففي محكمة الإسكندرية الشرعية في العصر العثماني، نجد في أحد أحكام وثيقة فسخ الزواج: "أن زوجها المذكور غاب عن زوجته المذكورة مدة أربع سنوات تقدمت على تاريخه، وتركها بمحل طاعته المذكورة (بالثغر السكندري) هي وابنته منها القاصرة بلا نفقة ولا منفق شرعي، وأنه فقير لا مال له وليس له بالثغر مال ولا عقار، ولا أرسل لها شيئا تُنفقه على نفسها وابنتها، وأنها مُعتلّة وعجزت عن الكد والتعب وتخشى على نفسها العنت، وأخبرت الحاكم الشرعي المشار إليه أعلاه بأن عندها مَن يُخبر بصدق مقالتها لأجل وقوع الفسخ، فطلب منها بيّنة تشهد لها بذلك بعد أن صبَّرها وقوَّاها بما أعدّه الله تعالى للصابرين من الأجر والثواب"، ولكن لأن المرأة أصرَّت على الفسخ بسبب الضرر الواقع عليها، حكم لها القاضي بما أرادت بعدما ثبت لديه صحة البينة وأقوال الشهود.

بالمثل، استخدمت المرأة المصرية قبل الحداثة حقها في الخُلع، وهو حق كفلته لها الشريعة؛ فإذا كان الإسلام قد أعطى الرجل الحرية في طلاق الزوجة إذا كان كارها للحياة معها، فإنه أعطى المرأة الحرية في أن تطلب مفارقة زوجها متى كانت كارهة للحياة معه، في مقابل أن تدفع له ما كانت قد أخذته منه من مهر أو أن تدفع له ما يتفقان عليه من مال، ويكون الخلع بتراضي الزوج والزوجة، فإذا لم يتم التراضي رفعت المرأة شكواها إلى القاضي، وإذا اقتنع بوجهة نظر الزوجة فله أن يُلزم الزوج بالخلع قياسا على الحادثة التي وقعت بين الصحابي قيس بن ثابت وزوجته حين رفعا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما مقابل أن ترد الزوجة لزوجها الحديقة التي جعلها مهرا لها.

 

يؤكد الدكتور "عبد الرزاق عيسى" في كتابه "المرأة المصرية قبل الحداثة.. مختارات من وثائق العصر العثماني" أن هناك كمًّا هائلا من الوثائق التي اطّلع عليها، خاصة بقضايا الخُلع سواء بين المسلمات أو القبطيات اللاتي لجأن إلى القاضي المسلم لطلب الخلع قبل عدة قرون، وهو أحد أهم الحقوق التي تمتَّعت بها المرأة المصرية آنذاك. وغالبا ما لجأت النساء إلى القاضي الحنبلي الذي قدَّم مذهبه تيسيرات بخصوص قضايا الخلع؛ إذ لا يُعَدُّ الخُلع طلاقا عند الحنابلة، ففي محكمة مصر القديمة في العصر العثماني، نجد أن المرأة "شمس الدين بنت إبراهيم" طُلِب من "زوجها علي بن نصر الدين بن محمد الجارحي أن يخلعها خُلعا شرعيا عاريا من لفظ الطلاق ونيته على مذهب الإمام أحمد بن حنبل"، وقد حكم لها القاضي بذلك[4].

 

تُعدُّ العودة إلى الوثائق والاطلاع عليها العمود الأساسي الذي يستند إليه التاريخ بجميع أشكاله ومدارسه، وهذه الوثائق التي حفظتها لنا سجلات المحاكم الشرعية المدنية والعسكرية بالقاهرة والإسكندرية أثناء العصر العثماني منذ القرن السادس عشر الميلادي قبل أربعمئة عام تُبيِّن لنا الحقوق الشرعية والإنسانية التي تحصَّلت عليها المرأة المصرية قبل الحداثة، وخاصة في قضايا الخطبة والزواج والطلاق والفسخ، وحرية التقاضي، وتوثيق كل ذلك أمام الدولة، والدفاع عن نفسها وحقوقها الشرعية في هذه المسائل الشخصية الحساسة، بما يدحض الكثير من الدعاوى القائلة بمظلومية النساء وهضم حقوقهن في تلك العصور القديمة.

————————————————————–

المصادر

[1] دار الوثائق القومية المصري، سجلات محكمة الصالحية النجمية، سجل 443، مادة 248، وسجل 442 مادة 929.

[2] محمد سيد: الزواج في مصر العثمانية، ص30.

[3] المصدر السابق، ص39.

[4] المرأة المصرية قبل الحداثة، ص60.

المصدر : الجزيرة