شعار قسم ميدان

في مواجهة روسيا المسيحية.. لماذا ساعد يهود أوروبا الدولة العثمانية؟

في 26 يونيو/حزيران 2018، صرَّح مجلس الشؤون العامة للاتحاد الأوروبي قائلا: "إن المجلس يلاحظ أن تركيا تتحرَّك بعيدا عن سياسات الاتحاد الأوروبي، ومن ثمَّ فإن مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد قد توقَّفت فعليا". [1] وجاء هذا بعد سنوات من محاولة تركيا الانضمام إلى أوروبا بدءا من تسعينيات القرن العشرين، لكن علاقة تركيا بالقارة العجوز لم تكن دائما على هذه الحال، بل مثلها مثل كل العلاقات الدولية، لطالما تغيَّرت بتقلُّب المصالح السياسية والاقتصادية، وبتبدُّل الظروف التاريخية والاجتماعية.

ففي عام 1878، وبعد مؤتمر برلين الذي عقدته القوى الأوروبية في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر) مع الإمبراطورية الروسية لتسوية الحرب الروسية-التركية إثر انتصار روسيا القيصرية على غريمها العثماني، رجع رئيس الوزراء البريطاني حينها "بِنجامين دزرائيلي" (Benjamin Disraeli) إلى بريطانيا فخورا بالإنجاز السياسي الذي حقَّقه، وهو إنقاذ تركيا من تقسيمها إلى دويلات من طرف روسيا المُنتصِرة، حيث رأى في ذلك حفاظا على سلام أوروبا ومصالح بريطانيا في المنطقة. [2] وقد قال حينها السياسي البريطاني اللورد "بالمِرستون" (Lord Palmerstone) إن "سلامة واستقلال الإمبراطورية العثمانية ضروريَّان لاستمرار الهدوء والحرية، وتوازن القوى في باقي أوروبا".

غير أن الفصائل السياسية في بريطانيا لم تتفق يومها مع "دزرائيلي"، بل سرعان ما أفضى موقف بريطانيا من الحرب إلى نقاشات كثيرة حول أحقية رئيس الوزراء في قيادة البلاد، حيث رأى بعض السياسيين البريطانيين أن موقف بريطانيا في الحرب عار عليها، وأن الإمبراطورية البريطانية يجب ألا تقف مع "البرابرة الأجانب". وفي أثناء ذلك النقاش المُحتدِم، تعالت أصوات في الساحة السياسية تتهم "دزرائيلي" بوضع انتمائه اليهودي قبل انتمائه البريطاني، وهو اتهام مثير للانتباه من موقعنا اليوم، بيد أن العودة إلى تلك السنوات تجعله اتهاما منطقيا بالنظر إلى ما عُرِف عن اليهود آنذاك من تعاطف مع الدولة العثمانية. [3]

اليهود في نظر بعض الأوروبيين.. "طابور خامس للشرق الإسلامي"

بِنجامين دزرائيلي (مواقع التواصل)

يُعَدُّ "دزرائيلي" أول رئيس وزراء يهودي لبريطانيا، وهو الوحيد إلى يومنا هذا. وقد كان سياسيا من الحزب المحافظ البريطاني، وابنا لكاتب يهودي إيطالي، وأحد أوائل اليهود البريطانيين الذين انخرطوا في ممارسة السياسة في أروقة العاصمة "لندن"، ويعود ذلك إلى القانون الذي أُزيل سنة 1858 ونصَّ سابقا على منع اليهود من دخول البرلمان البريطاني. [4] وقد مَثَّل حُكْم "دزرائيلي" تجربة اجتماعية جديدة في بريطانيا نظرا ليهوديَّته وهو على رأس حكومة الملكة وثيقة الصلة بالكنيسة الأنغليكانية، وأتى وقوفه في صف الدولة العثمانية أثناء حربها مع الروس ليُضيف بُعدا جديدا لهذه التجربة.

اتُّهِم "دزرائيلي" أولا بأنه وقف إلى جانب تركيا نكاية في روسيا التي اضطهدت اليهود في تلك الفترة، وقيل حينئذ في ترديد للدعايات المُعادية لليهود في أوروبا وقتها إن اليهودي مهما انغرس في المجتمعات الغربية فسيبقى على ولائه للشرق. وقد يبدو هذا الاتهام الأخير غريبا في يومنا هذا، فمع بروز فكرة المشروع الاستيطاني والاحتلال الصهيوني لفلسطين في مطلع القرن العشرين، ومع تطوُّر تأثير المجتمعات اليهودية الغربية؛ باتت الهوية اليهودية اليوم وكأنها مرادف للهوية الغربية، لكن الحال لم يكن كذلك منذ قرن واحد فقط للمفارقة.

في نقاشه حول الحرب الروسية-التركية، قال عضو البرلمان البريطاني "توماس أوكونُّور" (Thomas O’Connor) إن "واحدة من الظواهر اللافتة في هذه الحرب هي ظاهرة التعاطف الفائق الذي أظهره اليهود مع السلطان التركي ضد القيصر الروسي. إن اليهود الذين يتحدَّثون بلغات مختلفة والمعزولين بشدة كلهم الآن متحدون في مشاعرهم تجاه هذا النزاع الروسي-التركي. على مدار عصور عديدة، في الماضي أكثر من الحاضر، وُجدت باستمرار طبقات كثيرة من اليهود متعاطفة مع المحمديِّين (المُحمَّدي كناية هُنا عن المُسلم، وهو مصطلح شائع في الأدبيات الأوروبية حتى قرن مضى)، إذ تكوَّنت هذه الصداقة لمجابهة العدو المشترك المسيحي، الذي هو عدو للمحمديِّ بقدر عداوته لليهودي. لقد كان اليهود أصدقاء المحمديِّين في الحروب الصليبية، وفي إسبانيا كان اليهود الحلفاء الدائمين للمورسكيِّين في مواجهتهم مع المسيحيين". [5]

لم تقتصر هذه الآراء على الطبقة السياسية وحدها، بل تبنَّاها كذلك مثقفون ومؤرِّخون مثل "جيمز أنطوني فرود" (J. A. Froude) و"إدوارد أغسطس فريمان" (E. A. Freeman) و"جولدوين سميث" (Goldwin Smith). بيد أن هوية "دزرائيلي" اليهودية لا تُفسِّر الدور الذي لعبته بريطانيا في هذه الحرب تفسيرا شاملا، حيث طبَّق سياساته في الدفاع عن تركيا ضد روسيا رجال إنجليز ومسيحيون في نهاية المطاف، وكان أحد الأهداف وقتها من مساعدة بريطانيا للخلافة العثمانية إستراتيجيا بحتا رغم الدعايات التي ركَّزت حصرا على وجود صلة بين يهوديَّة "دزرائيلي" وسياسته الخارجية، واستندت إلى المعروف والشائع عن قُرب اليهود من العثمانيين آنذاك، والنظرة السلبية التي حملها أوروبيون مسيحيون كُثُر لليهود في ذلك التوقيت.

"دزرائيلي" الذي فكَّر بالتطوُّع في الجيش العثماني

لقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بداية ضعف الخلافة العثمانية، ورأت القوى الأوروبية -وخاصة بريطانيا- أن هذا السقوط لربما يؤثر على الاستقرار الأوروبي، إذ إن تفكُّك دولة عظمى في أوروبا بحجم الدولة العثمانية يفتح الباب على مصراعيه لتوسُّع الدول المجاورة، ولانقسامات وحروب جديدة، وهو أمر لم يكُن في صالح بريطانيا التي رأت في استقرار أوروبا أهمَّ عوامل ازدهارها الاقتصادي. [6] ومن جهة أخرى، رأت بريطانيا أن الهجوم الروسي على تركيا سيفتح الطريق أمام موسكو لمنافستها اقتصاديا في البحر الأبيض المتوسط، وفي منافذها وطرقها نحو الهند. ولذا، كان ضروريا لبريطانيا مساعدة الدولة العثمانية عن طريق الدعم الاقتصادي والمفاوضات كي تخرج الأخيرة من هذه الحرب بأقل الخسائر، وهو ما نجح فيه "دزرائيلي".

من جهة أخرى، لم تكُن الاتهامات التي وجَّهها المعارضون السياسيون إلى "دزرائيلي" حول ولائه ليهوديته قبل وطنه بريطانيا وانتمائه إلى الشرق محض دعاية. فقد اهتم "دزرائيلي" بالفعل بالثقافة الشرقية والإسلامية وأحبَّها، وهو ما تكشفه لنا كتاباته. ففي إحدى رواياته، كتب "دزرائيلي" على لسان بطل الرواية قائلا: "لماذا لا ندرس الشرق؟ من المؤكد أننا في صفحات تاريخ الفرس والعرب يُمكن أن نكتشف منابع جديدة للعاطفة، وإرهاصات جديدة للخيال. فالفرس يعيشون الشعر، والعرب يمكنهم بعقولهم الحادة وبالدهاء كشف أسرار الطبيعة المُقدَّسة". ولم يكشف "دزرائيلي" عن حبِّه للشرق بكتاباته فحسب، بل وبأفعاله أيضا، حيث فكَّر في شبابه بالتطوُّع في الجيش العثماني، وهو ما يعكس نظرة الرأي العام اليهودي تجاه الإسلام والدولة العثمانية آنذاك. [7]

فقبل أكثر من مئتي سنة على وقوع هذه الأحداث، أرسل الحاخام اليهودي "إسحاق سرفتي" رسالة تحثُّ يهود أوروبا على الهجرة إلى تركيا، قائلا فيها: "أؤكد لكم أن تركيا بلاد لا ينقصها شيء، هُنا يسكن كل شخص بسلام تحت شجرة تينه ومع عشائه، هنا يُسمح لك بارتداء أثمن الملابس كما شئت، عكس ما نعيشه تحت حكم المسيحيين حيث لا يُمكِن لنا أن نختار لأبنائنا ما يرتدونه، خشية الشتم والضرب. إذن أليس من الأفضل لنا أن نعيش تحت حكم المسلمين؟"، وجاءت هذه الرسالة على خلفية ما عرفه الحاخام "سرفتي" من الاضطهاد المتزايد لليهود في ألمانيا، التي هاجر منها هو شخصيا سنة 1453. [8]

لم تسلم "مُحافظة" رئيس الوزراء "دزرائيلي" بالطبع من بعض الدعايات العنصرية القادمة من مُعسكر الليبراليين، الذين اتهموه بتجاهل حقوق المسيحيين العثمانيين الذين لم يشاركهم عقيدتهم.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن التعاطف الذي استشعره السياسيون البريطانيون الليبراليون تجاه المسيحيين الواقعين تحت حُكم الدولة العثمانية والراغبين بالاستقلال عنها؛ كان وراء رغبتهم في رؤية تفكُّك سريع للدولة العثمانية. وقد اتهمهم "دزرائيلي" المُحافظ كغيره من المحافظين بالانسياق وراء نزعات إنسانية لا مكان لها في السياسة، إذ إن تقصِّي قمع العثمانيين للمجتمعات المسيحية التي انتفضت ضد إسطنبول جسَّد بالنسبة لـ"دزرائيلي" هدفا إنسانيا بعيدا عن الأهداف الجيوسياسية لبريطانيا، التي سعت بالأساس لإيقاف الزحف الروسي. هذا وظل الخلاف مستعرا بين العديد من المحافظين والليبراليين حيال الموقف من "المسألة الشرقية" في العموم، مع انحياز الفريق الأول إلى حماية إسطنبول بوصفها "دولة أوروبية كبرى"، وانحياز الفريق الثاني إلى حق تقرير المصير لشعوب البلقان. [9] ولم تسلم "مُحافظة" رئيس الوزراء "دزرائيلي" بالطبع من بعض الدعايات العنصرية القادمة من مُعسكر الليبراليين، الذين اتهموه بتجاهل حقوق المسيحيين العثمانيين الذين لم يشاركهم عقيدتهم، والتعاطف مع يهود روسيا بدلا منهم.

بالأمس القريب.. اليهود في كنف الخلافة

جاء تعاطُف اليهود مع تركيا في حربها ضد روسيا إذن بعد تراكمات تاريخية عديدة. وقد جاء أغلب اليهود الذين حطُّوا رحالهم في تركيا حينئذ هربا من الاضطهاد بأوروبا، فهُم إما يهود سفرديون من إسبانيا، وإما يهود أشكناز من وسط أوروبا وشرقها. ولاحظ اليهود في شتى تجاربهم اختلاف التعامل معهم تحت ظلِّ الخلافة العثمانية بالمقارنة مع ما عانوه في أوروبا، حيث سُمح لهم في الدولة العثمانية بإنشاء مؤسساتهم الخاصة، مثل المدارس اليهودية، وهو حق سُمح به لجميع الأقليات في الأراضي العثمانية. هذا وكان لليهود أيضا دور مؤثر في الدبلوماسية العثمانية مع أوروبا، بالإضافة إلى ازدهار الأدب اليهودي في ذلك الوقت. [10]

بحسب "برنارد لويس" فإن "اليهود لم يُسمَح لهم بالاستقرار في الأراضي العثمانية فحسب، بل شُجِّعوا على البقاء فيها وسوعدوا في ذلك".

بحسب "برنارد لويس"، الكاتب والمؤرِّخ البريطاني ذي الأصول اليهودية، فإن "اليهود لم يُسمَح لهم بالاستقرار في الأراضي العثمانية فحسب، بل شُجِّعوا على البقاء فيها وسوعدوا في ذلك". ولم تأتِ القرابة التي شعر بها رئيس وزراء بريطانيا "بِنجامين دزرائيلي" والطبقات اليهودية العديدة في أوروبا تجاه الدولة العثمانية في حربها مع روسيا القيصرية من فراغ، بل جاءت بعد ما كانت الدولة العثمانية هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي عُدَّت مأمنا لهم.

في المقابل، قدَّم العلماء والمؤرخون اليهود الأوروبيون في هذه الفترة نظرة محايدة عن الإسلام والإنجازات الإسلامية في العلوم والفلسفة، بعيدا عن النظرة المنحازة والسلبية التي حملها الأوروبيون معهم منذ الحروب الصليبية، ومنذ فترة حكم المسلمين في الأندلس. ولعل أبرز هؤلاء المستشرق "غوستاف وَيل" (Gustav Weil) الذي صار أستاذا جامعيا في اللغة العربية، وقضى بعضا من حياته في إسطنبول والقاهرة والجزائر، حيث أتقن اللغات العربية والتركية والفارسية، ثمَّ أصدر عام 1843 أولى كتاباته، وهو كتاب عن السيرة النبوية. وسبق ونُشِرَت في أوروبا كتب عن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وعن تعاليمه، ولكن كتاب "وَيل" عُدَّ من أول الكتب التي حاولت تقديم النصوص الإسلامية إلى الأوروبيين من منظور محايد. وقد كتب "وَيل" بعدها كتبا عن نشأة الإسلام، وخمس مُجلَّدات عن تاريخ الخلفاء الراشدين، وتُعَدُّ كتاباته من معالم اكتشاف الغرب للإسلام في القرن التاسع عشر. [11]

قبل صعود النزعات القومية في فجر القرن العشرين، التي أدَّت إلى الحربَين العالميَّتَين الأولى والثانية، وقبل تبلور الصهيونية وفكرة الوطن الجامع لليهود؛ لم يرَ يهود أوروبا العالم الإسلامي عدوًّا لهم، ولا يعني هذا بالضرورة أنهم رأوه حليفا، بيد أن تجربتهم في الفلك الإسلامي بالأندلس والأراضي العثمانية جعلتهم أكثر تعاطفا مع المسلمين في مواجهاتهم مع أوروبا. وهذا ما يُبيِّنه تعاطف اليهود مع الخلافة العثمانية في حربها ضد روسيا، وتؤكِّده رسالة الحاخام "إسحاق سرفتي" التي خطَّ فيها جملته المثيرة للتأمُّل اليوم بعد مرور قرون على كتابتها: "أليس أفضل لنا أن نعيش تحت حكم المسلمين؟".

_____________________________________________

المصادر

  1. Zeit online. ZEIT ONLINE | Lesen Sie zeit.de mit Werbung oder im PUR-Abo. Sie haben die Wahl. 
  2. Islam in History: Ideas, People, and Events in the Middle East. Bernard Lewis. 1993.
  3. المصدر السابق.
  4. Benjamin Disraeli, the Earl of Beaconsfield. Gov UK. 
  5. Islam in History: Ideas, People, and Events in the Middle East. Bernard Lewis. 1993.
  6. Principles of British Foreign Policy 1815-1865 Marjie Bloy,National University of Singapore, 2002. 
  7. Islam in History: Ideas, People, and Events in the Middle East. Bernard Lewis. 1993.
  8. Letter of Rabbi Isaac Zarfati. 1454.
  9. Disraeli and the Eastern Question. 
  10. The Life of Ottoman Jews. 
  11. Islam in History: Ideas, People, and Events in the Middle East. Bernard Lewis. 1993.
المصدر : الجزيرة