شعار قسم ميدان

مصطفى النحاس.. حكاية الزعيم الديمُقراطي الأخير في مصر

عرفت مصر قادة كِبارا رسموا مسيرتها القومية الطويلة منذ أطلَّ المصريون برأسهم على صفحات التاريخ الحديث، وقد باتت تلك الأسماء أعلاما في مصر تُسمَّى بأسمائهم الطرق والميادين، وتتزيَّن الكُتب المدرسية بصورهم، ويُلقَّن الطلاب كفاحهم من أجل الاستقلال. وفي هذا المضمار لا يُضاهي أحد الزعيمَيْن "سعد زغلول" و"جمال عبد الناصر" اللذين جسَّدا المشروعَين السياسيَّين الأهم في تاريخ مصر، مشروع "حزب الوفد" الذي امتد منذ ثورة 1919 إلى ثورة يوليو 1952، والمشروع الناصري القومي الاشتراكي الذي امتد منذ ثورة يوليو إلى نهاية حرب أكتوبر عام 1973.

بيد أن رجلا مُهِما، لا يقل وزنه السياسي ودوره المحوري في صنع السياسة المصرية ومؤسَّساتها عن الاسمين السابقين، كثيرا ما يُنسى ذكره، رغم أنه ألقى بظلاله على الحياة السياسية المصرية طيلة 25 عاما فصلت بين وفاة "سعد زغلول" عام 1929 وظهور "جمال عبد الناصر" عام 1954. إنه "مصطفى النحاس"، زعيم مصر الأبرز في الربع الثاني من القرن العشرين، وتحديدا منذ عام 1927، عندما أورثه سعد زغلول قبيل وفاته بعامين رئاسة حزب الوفد، التجسيد المؤسسي لثورة 1919 وأول موجة للوطنية المصرية المقاوِمة للاستعمار. وقد ورث النحاس زعامة الحركة الوطنية الديمقراطية، وعبء تحديث الدولة القومية المصرية، وظل زعيما ذا شعبية طاغية رغم ما ناله من كراهية القصر وخصومة أعدائه في الساحة السياسية، حتى ظهور الضباط الأحرار مطلع الخمسينيات.

مصطفى النحاس قبل الزعامة

مصطفى النحاس هو ابن الشيخ "مصطفى سالم النحاس"، وُلِد في 15 يونيو/حزيران 1879 ببلدة "سَمَنُّود" بمحافظة الغربية في غرب الدلتا، قبيل انتفاضة "أحمد عرابي" ورفاقه الضباط في الجيش المصري ضد الخديوي توفيق عام 1881، وما لحقها من دخول الاحتلال البريطاني مصر عام 1882. وقد عاش الفتى الشاب في عهد الاحتلال وذروة القمع الذي لاقته الحركة الوطنية بعد نفي عرابي ورفاقه، وإحكام قبضة القصر والإنجليز على البلاد، وكان أبوه الشيخ سالم النحاس تاجر أخشاب ميسور الحال، وأنجب بنتا وسبعة أولاد من بينهم مصطفى.

مصطفى النحاس صغيرا (مواقع التواصل)

 

تعلَّم مصطفى في الكُتَّاب، فحفظ القرآن وقواعد اللغة العربية والحساب، ثم دفعه أبوه صبيا إلى مكتب التلغراف في المدينة ليكتسب المهنة، وأغرى ذكاؤه أحد كبراء البلدة أن يقنع أباه بإرساله إلى المدارس، وأن يسعى في إلحاقه بمدرسة الناصرية بالقاهرة، وهي مدرسة أبناء الطبقات العليا والأرستقراطية في مصر. وقد أكسبه تفوقه الالتحاق مجانا بالمدرسة، فانتقل من المدرسة الناصرية إلى المدرسة الخديوية الثانوية ومنها إلى مدرسة الحقوق التي تخرَّج فيها عام 1900، وكان ترتيبه الأول على دفعته. وقد اشتغل النحاس بالمحاماة في المنصورة ثلاث سنوات، ثم عُيِّن قاضيا وأمضى في قنا وأسوان بالصعيد ست سنوات، ثم نُقل إلى "ميت غمر" جنوبي المنصورة، ثم قاضيا بمحكمة عابدين في القاهرة، ثم رئيس دائرة بمحكمة طنطا.

وقد أيَّد النحاس الحزب الوطني الذي أسَّسه الزعيم الوطني "مصطفى كامل" في نهايات القرن التاسع عشر، وهو أحد مَن ورثوا دعوة "جمال الدين الأفغاني" ومواقفه المُعادية للاستعمار البريطاني. عمل النحاس كذلك بمكتب الزعيم الوطني "محمد فريد"، ثم صار عضوا نشطا بنادي المدارس العُليا الذي أُنشِئ عام 1905، وقيل إنه صار وكيلا للنادي. بيد أن المستشار "طارق البشري"، المُفكِّر القانوني المصري البارز، قال إن أغلب مَن كتبوا عنه أثناء حياته لم يعتنوا جيدا بتلك الفترة من حياته ولا بتجربته الأولى في الحزب الوطني بسبب الخصومة السياسية التي تطوَّرت بين حزب الوفد والحزب الوطني بعد ثورة 1919.

ففي تلك الفترة، اتصل مصطفى النحاس بمجموعات بني جيله من السياسيين لمناقشة مستقبل مصر بعد انهيار السلطنة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ويبدو أن النحاس كان جزءا من شبكة علاقات وفَّرت الإمكانات والمساحة للانشغال بالشأن العام المصري، وشكَّلت نواة المجال السياسي الآخذ في الاتساع آنذاك. وقد وصل إلى علم مصطفى النحاس عن طريق شبكة علاقاته تلك أن هناك وفدا يتشكَّل على مرحلتين؛ وفد صغير للقاء المندوب السامي البريطاني طلبا لإذن السفر إلى الخارج من أجل عرض قضية مصر على العالم، ثم وفد مصري رسمي كان من المُزمَع أن يسافر إلى باريس للغرض ذاته.

سعد زغلول (يمين) ومصطفى النحاس (مواقع التواصل)

تَشكَّل الوفد بالفعل عام 1918، وسرعان ما ضمَّ سعد زغلول إلى صفوفه مصطفى النحاس، الذي عُيِّن سكرتيرا عاما للوفد وعمره قد شارف على الأربعين. وكانت تلك الخطوة الأهم في حياة النحاس، إذ اعتُقِل سعد زغلول وعدد من أعضاء الوفد ونفاهم الإنجليز إلى خارج مصر، لتندلع بعدها مباشرة ثورة 1919. ويمكن القول إن تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى ما قبل ثورة 1919 وما بعدها، وإذا كان هذا الحدث بهذه الجذرية في تاريخ مصر، فقد كان أشد جذرية في تأثيره على مسيرة صُنَّاعه ومَن شهدوا الثورة وتطوُّر أحداثها إلى حراك سياسي واسع أنتج مفهوم الشعب المصري كما نعرفه اليوم، وشكَّل الوطنية المصرية الحديثة التي تزعَّمها سعد زغلول ومصطفى النحاس على التوالي، ثم تسلَّمتها دولة يوليو بعد الجمهورية بقيادة عبد الناصر ومحمد أنور السادات.

مصطفى النحاس زعيما

اختلف الاحتلال البريطاني لمصر عن صور كثيرة للاحتلال البريطاني حول العالم، فعندما دخل الجيش البريطاني إلى مصر وجد عاصمة مصر، القاهرة الخديوية، مدينة صاعدة تماثل المدن الأوروبية حداثة وجمالا، ووجدوا بها دولة حديثة نسبيا تكوَّنت من مجلس وزراء ووزارات ومصالح وإدارات وبيروقراطية نظَّمت أمور المجتمع، وجيش حديث خاض معارك تاريخية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن ذاته، ثم أُعيد بناؤه في عهد الخديوي إسماعيل في الستينيات وحارب في الحبشة وأعالي النيل. كما وجد الإنجليز شرطة نظامية وتقسيمات إدارية، وجهازا صحيا حكوميا حديثا نسبيا مقارنة بغالبية مناطق العالم الواقعة خارج غرب أوروبا، كما وجدوا نظما تعليمية وقضائية تقليدية وحديثة.

فوق كل هذا، وجد الإنجليز نخبة سياسية واجتماعية حداثية مُتمرِّسة، وكان مصطفى النحاس ابنا من أبناء تلك النخبة التي تَشكَّل لديها وعي بمصر وموقعها في العالم، وأخذت على عاتقها مهمة انتزاع سُلطة الدولة المصرية تدريجيا من الخديوي وإعادة تشكيلها وفق رؤاها الوطنية، وتنفيذ مشروع الاستقلال الوطني عن الإنجليز في الوقت ذاته. بيد أن زمن مصطفى النحاس اختلف اختلافا جذريا عن زمن سعد زغلول، فقد تولَّى النحاس قيادة الوفد في وقت طويت فيه تقلُّبات الثورة واستقرت فيه الحياة السياسية بدرجة كبيرة وفق معادلة ملكية دستورية أقرَّها جميع أطرافها، وكان الوفد هنا مُمثِّلا لمشروع النضال السلمي الدستوري من أجل تعميق تلك الأسس الدستورية والديمقراطية في وجه الاستبداد الملكي.

في الفترة التي تلت إعلان الدستور عام 1923 وحتى 23 يوليو 1952 تولَّى الوفد الوزارة سبع مرات، وسقط بنوع من الانقلاب الدستوري في أربع منها أعوام 1924 و1928 و1930 و1952. وفي المقابل، سقطت الوزارات غير الوفدية نتيجة فشل مفاوضاتها مع الإنجليز وعجزها قبل ذلك عن حشد الرأي العام لإضفاء الشرعية على نتائج هذه المفاوضات، ومنها وزارة "عبد الخالق ثروت" عام 1928، ووزارة "محمد محمود" عام 1929، وزارة "إسماعيل صدقي" عام 1946. كل هذه التجارب رسَّخت في الوعي الشعبي المصري أن المسألة الوطنية المتعلقة بالسيادة والاستقلال ترتبط ارتباطا وثيقا بالمسألة الديمقراطية والدستورية، بمعنى أن نجاح المصريين في إيجاد ممثل سياسي لهم في الحكومة والبرلمان إنما يعني خطوة نحو تحقيق أو انتزاع المطالب الوطنية في الاستقلال والتحرر الوطني.

بطبيعة الحال انعكس ذلك على الخطاب السياسي لحزب الوفد الذي رأى نفسه طليعة ومُمثلا للأمة المصرية ووكيلا عنها في صراعها من أجل الاستقلال، وقد كتب البشري في هذا الصدد قائلا: "ومن هنا كانت أحزاب الأقلية تجأر بالشكوى، مما أطلقت عليه استبداد الأغلبية، حيث كان تقدير الوفد لنفسه أنه التنظيم الجامع للأمة، وأن ما عداه ليسوا أحزابا سياسية مُنافسة، بل خوارج عليه وعلى القضية الوطنية التي يحملها الوفد على عاتقه"، ومن ثم كان أي انحراف عن الخط الدستوري الديمقراطي للحزب إنما يُمهد للتعاون مع الإنجليز.

أفول زمن النحاس ونهاية النظام البرلماني

بنهاية الأربعينيات، كان النظام السياسي والدستوري قد وصل فعليا إلى طريق مسدود، فمن ناحية أوغل الملك في عدائه مع الوفد حتى أبقاه خارج السلطة بين عامَيْ 1944-1950، وحكمت مصر أحزاب أقلية ساندها القصر، وعاشت حالة من القمع واسع النطاق لكل القوى السياسية. ومن جهة أخرى دخلت الحركات السياسية الجديدة مثل الإخوان والشيوعية ومصر الفتاة في مواجهة مفتوحة مع النظام الذي فرضه الاستعمار وحكومات الأقلية، وهي جهود شارك فيها الوفد بشبابه وطلابه، لكنه في الوقت نفسه فقد صفته مُمثِّلا أوحدَ عن الأمة المصرية بمنافسة الأيديولوجيات الجديدة، التي لم تشاركه بالضرورة قناعاته الدستورية والديمقراطية، لا سيما مع ما رآه كثيرون من عجز تلك المنظومة عن تحقيق مطلب الاستقلال الوطني. ومن ثمَّ عاشت مصر بعد الحرب العالمية الثانية حراكا سياسيا عنيفا شهد مظاهرات لم تتوقف تقريبا، وضلوع القصر في العنف ضد المعارضين له بالاغتيالات والاعتقالات، مع تأسيس الحركات السياسية لأجنحة مسلحة في ظل تآكل شرعية النظام الحاكم.

وفي عام 1950، وبعد استنزاف أدواته الاستبدادية -وخاصة بعد الهزيمة في حرب فلسطين- قرَّر الملك السماح بإجراء انتخابات برلمانية نجح فيها الوفد بقيادة النحاس الذي استطاع كسب تأييد الإخوان المسلمين والحركات الشيوعية، فوصل إلى السلطة ولكن في ظل تأزُّم سياسي غير مسبوق، وهنا وسط تأييد شعبي منقطع النظير أعلن مصطفى النحاس إلغاء معاهدة 1936 من طرف واحد، ومع انهيار شرعية الملك ودخول المصريين في مواجهة مفتوحة ومُسلَّحة برعاية الحكومة الوفدية ضد الوجود البريطاني، فإن النظام السياسي الذي تأسَّس بعد ثورة 1919 انهار فعليا. وقد كتب طارق البشري في هذا الصدد قائلا: "النحاس حينما ألغى المعاهدة، استخدم أقصى ما سمحت به النزعة الدستورية والديمقراطية للحزب، فاستصدر قانونا وافق عليه مجلسا الشعب والشيوخ ليُنهي به المفاوضات كوسيلة لحل المسألة الوطنية".

غير أن النحاس وهو رجل السياسة والقانون أعلن بإلغائه المعاهدة أن السياسة والقانون في مصر اللذين نتجا عن ثورة 1919 ودستور 1923 قد وصلا إلى أقصى ما يُمكِن في مواجهة القوة العارية لكلٍّ من الملك والإنجليز. أما الوفد، حزب الكفاح السلمي القانوني الدستوري، فلم يُرتِّب أوضاعه ولا صاغ مؤسسته ولا جنَّد رجاله من أجل عصر السياسة القومية الذي بدت علاماته تلوح في الأفق، ومن ثم كتبت تلك الفترة نهاية النظام الدستوري ونهاية مشروعية الوفد كليهما، وأذنت بظهور طليعة جديدة من السياسيين الثوريين كان منهم الضباط الأحرار.

كان النحاس أقل حظا بكثير من سلفه سعد زغلول، إذ مات سعد في ذروة مجده، بينما مات النحاس عام 1965 بعد إقصائه عن الحياة السياسية وتصفية حزبه.

كان النحاس أقل حظا بكثير من سلفه سعد زغلول، إذ مات سعد في ذروة مجده، بينما مات النحاس عام 1965 بعد إقصائه عن الحياة السياسية وتصفية حزبه وفي ذروة نظام استبدادي عسكري وإن كان ثوريا وقوميا. أما عن ذكراه بعد وفاته، وعلى عكس سعد الذي ارتبطت سيرته بأعظم ثورة مصرية في القرن العشرين حتى بات رمزا مُكافئا لها؛ ارتبط عمل النحاس بتقلُّبات الحياة السياسية في الثلاثينيات والأربعينيات، وتحوُّلات العالم الاقتصادية والسياسية الجذرية بدءا من الكساد الكبير عام 1929، مرورا بظهور الفاشية في ألمانيا وإيطاليا واندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى تبلور المسألة الفلسطينية وتأسيس دولة الاحتلال واندلاع حرب فلسطين، بالتزامن مع إرهاصات خروج الاستعمار من العالم الثالث.

لقد زرعت تلك المرحلة بذور حركات سياسية جديدة بدأت تنازع الوفد صدارة المشهد، لا سيما في صفوف جيل جديد من الشباب تأثَّر بالأحزاب الثورية وفقد إيمانه بالأساليب الدستورية والديمقراطية المُحافظة التي دشَّنها الوفد. وسرعان ما أفضت تناقضات وإخفاقات تلك الفترة إلى استحواذ الجيش على السلطة في الخمسينيات، وخوضه معركة حاسمة ضد الاستعمار أثناء حرب السويس حاز بها شرعية جديدة وأسَّس جمهورية غير ديمقراطية بقيت سبعين عاما، وهي أحداث شهدها النحاس وقد جاوز السبعين عاما، معزولا في بيته لا يُسمح له برؤية الناس، بعد أن كان زعيما بلا مُنازِع يقف ندا لأكبر قوة سياسية في العالم.

بيد أن الجماهير المأخوذة بدولة الحزب الواحد والضباط الصغار لم تنسَ زعيمها المحوري في الثلاثينيات والأربعينيات، وخرجت تُشيِّعه بالآلاف في جنازته عام 1965 التي انطلقت من جامع الحسين مرورا بميدان الأوبرا حيث يقف اليوم تمثال إبراهيم باشا، وصولا إلى ميدان التحرير، ومن بعده قصر النحَّاس في حي جاردن سيتي. وقد روى الصحافي "بهجت بدوي" أن الجنازة المهيبة كانت أشبه "بيوم الحشر"، وأن المباحث العسكرية حاولت تعطيلها وإلغاءها بحيازة نعش النحاس، لكن الجماهير ظفرت في الأخير وملأت ميدان التحرير في حشد شعبي مهيب لم يكن متوقعا في وداع رجل قضى سنواته الأخيرة أسير العزلة والانزواء. 4

_________________________________________

المصادر

  1. شخصيات تاريخية، طارق البشري، دار الهلال.
  2. الوطنية الأليفة، الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار، تميم البرغوثي، دار الكتب والوثائق القومية.
  3. البحث عن خلاص.. أزمة الإسلام والحداثة في مصر، الهيئة العامة للكتاب.
  4. مصطفى النحاس باشا.. الزعيم الذي رقص عجوز على جثته
المصدر : الجزيرة