شعار قسم ميدان

مسالخ باريس.. شهادة الجزائري بِن عيسى سُوامي حول التعذيب في عاصمة التنوير

جرائم فرنسا بالجزائر

"كنتُ أسمعُ خلال الطريق.. ماذا نصنع؟ هل نُلقيه في نهر السّين؟ من الأفضل وهو على هذه الحالة أن نُلقي به في مزبلة.. ثم قهقهات.. أثبتَ أحدهم قناة مسدّسه في رقبتي وقال لي: طلقة في رقبتك وتُصبح قطعة من اللحم العفن، أيها العُنصر الوسخ".

(بن عيسى سوامي في شهادته على تعذيبه في باريس)

على مدار 132 عاما هي عمر الاحتلال الفرنسي للجزائر، واجه الفرنسيون مقاومة لا هوادة فيها من أبناء هذا البلد العريق دفاعا عن وطنهم ومقدساتهم وحُرماتهم. وحتى تتمكَّن فرنسا من وأد كل محاولات المقاومة السلمية والعسكرية ضدها، عملت على تنفيذ إستراتيجية مزدوجة كان عنوانها شراء الذمم تارة، واستخدام الحديد والدم والقنابل تارات أخرى. ولم يكن إطلاق اسم "بلد المليون شهيد" على الجزائر من فراغ، فقد أزهقت الآلة الفرنسية الإجرامية دماء عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد بلا رحمة.

 

ولعلّ من المعلوم أن تاريخ التعذيب والترويع الفرنسي في الجزائر لم يكن محصورا في زمن الثورة المسلحة التي قادتها "جبهة التحرير الجزائرية" خلال السنوات الثمانية الأخيرة من عُمر الاحتلال الفرنسي (1954-1962)، لكنه موغل في القدم، حيث يعود إلى الأيام الأولى التي وطأت فيها أقدام الفرنسيين أرض الجزائر لاحتلالها عام 1830.

 

صراخ من هول التعذيب

مسالخ باريس.. شهادة الجزائري بِن عيسى سُوامي حول التعذيب في عاصمة التنوير

في 29 مايو/أيار 1950، وعلى صفحات جريدة "البصائر" الناطقة باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عدَّد الشيخ والمناضل العلامة "محمد البشير الإبراهيمي" (1889-1965)، رئيس الجمعية، مظالم فرنسا في بلاده، متناولا قضية التعذيب، وذلك في مقالة جعل عنوانها "حدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه"، وفيها يقول: "الديمقراطية هي دعوى زمنكم، ولكنها باطلة في الجزائر، وحُرمات المنازل والأعراض من تبجُّحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكنَّ الجزائرَ أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب، وأساليب التعذيب، وأصبحت تجارِبُه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار وصخب الساسة لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في آذانكم حفيف السياط بالصراخ، وليوشكن إن تمادى زمنكم في التفنُّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال، أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما".[1]

 

لكن العذاب الأليم الذي سقته فرنسا لأبناء الجزائر لم يجعلهم أقل عزما على نيل استقلالهم. وفي لحظة حاسمة من تاريخ البلاد (1954-1962)، قرَّر الجزائريون إعلان التعبئة العامة عازمين على طرد المُحتل. وإزاء هذه التطورات في الجزائر، قرَّرت الحكومة في باريس أن تتخذ سبيل الدم -وقد اتخذته طويلا- حتى قال وزير الداخلية الفرنسية -ورئيس البلاد فيما بعد- "فرانسوا ميتران": "أنا لا أقبل التفاوض مع أعداء الوطن، إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب". ومن ثمَّ أرسلت فرنسا مددا عسكريا واستخباراتيا، كما أرسلت فلذة أكبادها في الإجرام والقتل لتعذيب أبناء الجزائر، وقد تناولنا شهادة الجنرال الفرنسي "بول أوسارس" (1918-2013) في مقالتنا "شهادتي حول التعذيب".. الجنرال بول أوسارس وجرائم فرنسا المروعة، التي كشفت عن حجم الاستخفاف والوحشية التي مارستها فرنسا ضد الجزائريين آنذاك.

 

بيد أن جرائم تعذيب الفرنسيين المُمنهجة لم تقتصر على الجزائريين المقاومين في بلادهم، ولكنها طالت أيضا الطلبة الجزائريين ممن كانوا يتلقون تعليمهم في باريس وتعاطفوا مع قضية بلدهم ساعين بكل سبيل ممكنة في المجالات الحقوقية والفكرية والثقافية والسياسية ليكونوا عضدا وعونا لوطنهم. وقد دأبت فرنسا على تتبع هؤلاء الطلبة ومراقبتهم، واعتقلت العشرات منهم، حتى وقعوا بأجمعهم تقريبا ضحية لأبشع أنواع التعذيب والإجرام.

 

وُثِّقت هذه الجرائم في كتاب صدر عام 1959 بعنوان "الجرح المتعفن" وقد تُرجم إلى العربية بعنوان "الغنغرينا.. تعذيب الجزائريين في باريس". يسرد الكتاب وقائع التعذيب البشعة للطلبة الجزائريين -وهي العمليات التي قامت بها الشرطة الفرنسية عمدا- من خلال شهادة أربعة من الطلاب الذين أوقفتهم شرطة باريس في ديسمبر/كانون الأول 1958 بتهمة المساس بأمن الدولة، وهم: "البشير بومعزة"، و"موسى قبائلي"، و"بن عيسى سوامي"، و"مصطفى فرنسيس" شقيق "أحمد فرنسيس" السياسي المعروف. وقد قامت السلطات الفرنسية بمصادرة الكتاب بعد ظهوره بدعوى أنه يُسيء إلى سمعة الشرطة باتهام غير ثابت، وهو الأمر الذي لم يُقنع الصحافة الفرنسية.

الغنغرينا.. تعذيب الجزائريين في باريس

وقد ظلَّت جريدة المجاهد الجزائرية آنذاك تنشر تعاليق الصحف الفرنسية حول الكتاب وموقف السلطة منه. وفي عدد لاحق أوردت شهادة من بعض الطلبة تؤكد استعمال وسائل التعذيب كما نص عليها الكتاب.[2]

 

شهادة بطعم الدم

وقع بن عيسى سُوامي، طالب العلوم السياسية الجزائري في باريس آنذاك، تحت يد سلطات التعذيب الفرنسية، حيث رآه الفرنسيون فيما يبدو من الداعمين أو المتعاطفين مع الثورة الجزائرية، وأرادت التأكد من هذه الحقيقة عن طريق استجواب مُمنهج، لم يكن آدميا. وقد كنا نظن أن مثل هذه الوسائل لا تتم إلا في أعتى الديكتاتوريات في العالم الثالث، فإذا بفرنسا تنتهجها بواسطة أعوان أمنها ومفتشيها ومفوِّضيها ممن نالوا جوائز في هذا الميدان من أعلى السلطات، كما نصَّ الكتاب.

 

في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 1958، وفي تمام الساعة الثالثة والنصف صباحا، سمع بن عيسى سوامي طرقا على بابه، ففتح الباب ووجد أمامه "مسدسات ورشاشات يحملها ستة من المفتشين ذوو هيئات سينمائية انقضُّوا على غرفتي وطلبوا إلي أن أرفع ذراعي". "هل تحملون مذكرة تفتيش؟"، هكذا سألهم سوامي، لكن "الجواب عن هذا السؤال كان بضع لكمات شديدة، ثم وُضعت القيود في يديّ، وأوثِقتُ تجاه الجدار، وبدأ البحث والتفتيش وداما ساعتين".[3] وحين لم يجد المحققون "الأوراق والمستندات" التي كانوا يبحثون عنها، وأرادوا من خلالها التأكد من علاقة بن سوامي بالمقاومة في الجزائر، اصطحبوه إلى مقر الأمن في شارع "دو سوسَّا" بباريس، وبدأ محقق في أول الأمر يسأله بصورة هادئة، لكن بن سوامي نفى كل ما اتَّهمه به، وحينها جاء دور "الاختصاصيين" كما سموا آنذاك.

 

نجد في الكتاب أن مصطلح "الاختصاصيين" يُقصد به الأشخاص المسؤولون عن تعذيب المحقَّق معهم. وقد تنوعت وسائل التعذيب من التعذيب الجسدي الشديد بالضرب واللكم والتعليق من خلال مجموعة الأشخاص أقوياء البنية، وحتى نزع الملابس وإلقاء الماء على الجسد ثم التعذيب بالكهرباء في أعضاء الجسد المختلفة، وأخيرا الإيهام بالقتل سواء عن طريق الإغراق في ماء راكد عفن خليط من البول ومياه الصرف أو من خلال تصويب السلاح على المعذَّب بُغية الإدلاء باعترافات.

تعذيب الجزائريين في باريس

تعرَّض بن عيسى لكل هذه المراحل وكان الضرب واللكم لا يكاد يتوقف نهارا وليلا، وقد كتب عن إحدى هذه الجلسات "الاختصاصية الفرنسية" قائلا: "لم أكد أقف تماما حتى أُمطرت بسلسلة أخرى من الضربات أرجعتني إلى الأرض، والواقع أنني لم أعد أذكر عدد المرات التي سقطتُ فيها.. جاءت الفترة التي تلقيتُ فيها ضربة على كبدي بالغة العنف، فانهرتُ انهيارا تاما، وغبتُ عن وعيي فلا أدري كم بقيتُ على هذه الحالة.. أمسكت بي راحتان قويتان ورفعتاني، لقد كنتُ أرتعشُ، وكان في رأسي وكبدي ألم شديد.. كنتُ أسمع ضحكات كثيرة، أوامر وأسئلة، ولكنني كنتُ أنام واقفا، وتلقيتُ صفعات جديدة نزفَ لها الدمُ من أنفي".[4]

 

لم يُجدِ هذا الأسلوبُ نفعا في إجبار الشاب بن عيسى على الاعتراف بما أراده الفرنسيون منه، لذا اتجهوا للمرحلة الثانية من التعذيب. "راح المساعدُ يدير الآلة (الكهربية) بيده وآخر يمرِّر القُطبين الكهربيين فوق أعضائي التناسلية، فقدتُ الوعي بعد دقائق قليلة، فوضعوا في منخري بضع قطرات من سائل خاص، وعادوا إلى الآلة مرة أخرى.. أُعيد التعذيب بصورة أشد عنفا وقسوة، وراح في هذه المرة يمرر القطبين الكهربيين فوق جسدي كله". تكرر التعذيب الكهربي على هذه الحالة عدة مرات، وفي نهاية تلك الجلسة صاح "اختصاصي التعذيب" في بن عيسى: "والآن البس ثيابك أيها العفن وبسرعة!". تابع عيسى وصفه قائلا: "لقد كنتُ عاجزا لا عن القيام فقط، بل عن مد ذراعي حتى لو توفّرت لي كل إرادة في العالم". عاجلوه بالتوبيخ: "ألا تستعجل؟"، مع ضربات بالقدم، وصفعات، لينجح في النهاية في إمساك ثيابه بيد واحدة بعد أن اعتمد بالأخرى على الطاولة خوفا من السقوط. [5]

 

حرص المحققون الفرنسيون على اصطحاب بن عيسى إلى جهات مختلفة لاستكمال التعذيب والتحقيق لعلهم يستخلصون منه معلومة تُفيدهم في اختراق جبهة التحرير الجزائرية والمرتبطين بها داخل وخارج الجزائر، ولهذا السبب أخذوه إلى مقر آخر خارج باريس وهو معصوب العينين. وكان جوهر عملية التعذيب هذه المرة الإيهام بالغرق في حوض الماء القذر، وهي حيلة اشتهرت آنذاك. "قُيدت يداي إلى ظهري بقطعة من القماش الأحمر، ثم أُحني المقعد بحيث غطس رأسي في ماء الحوض الصغير، وقد دامت هذه العملية طويلا فتقيأتُ في الحوض، وأُرغمتُ على ابتلاع جزء من الماء الكريه، ثم فُكّت أربطتي، ورُفعت ثانية على السفود (عمود التعذيب) حتى الصباح".

 

تتابعت عمليات تعذيب بن عيسى لأيام وليالٍ سمع أثناءها أنين وصراخ تعذيب العديد من إخوانه الجزائريين الذين أشار إليهم في شهادته بأحرف أسمائهم الأولى، وبسبب هذه الجرعات المتوالية من التعذيب المتواصل انهار جسد بن عيسى تماما وفقد النطق، وهنا أدرك الفرنسيون أنه على مشارف الموت، فأرسلوه من فورهم إلى مستشفى. لم يدرِ بن عيسى كم بقي حتى تعافى، لكنهم أعادوه إلى سجن "فرزنْ" ومنه إلى المستشفى المركزي مرة أخرى وبقي فيه حتى 21 ديسمبر/كانون الأول، أي إنه بقي مدة 17 يوما تحت أسر الاعتقال والتعذيب. أنهى بن عيسى شهادته هذه بقوله: "لقد كنتُ في صميم عمليات التعذيب الرهيبة أفكر بقوة في إخوتي وأخواتي، كنتُ أفكِّر في (العربي) بن مهيدي، وجميلة (بوحريد)، وكنتُ دائما أُردِّد في نفسي أن من الممكن أن يُغطَّى المرءُ بالقاذورات، ثم يبقى أثناء ذلك نظيفا".[7]

العربي بن مهيدي
العربي بن مهيدي (مواقع التواصل)

رغم وحشية التعذيب الذي تعرَّض له بن عيسى، فإنه كان محظوظا بإطلاق سراحه في نهاية المطاف؛ إذ اغتيل جزائريون آخرون في قلب باريس بسبب ارتباطهم بالمقاومة الجزائرية. ومن هؤلاء "ولد عودية" الذي تلقى تهديدا بالقتل لأنه حمى أعضاء جبهة التحرير في فرنسا، وبعد تسعة أيام من التهديد اغتيل فعلا في باريس في مايو/أيار 1959، وقد اتُّهِمت منظمة فرنسية إرهابية بقتله.[8]

 

لم تكن شهادة بن عيسى سوامي سوى قصة من آلاف القصص حول فظائع الاحتلال الفرنسي في الجزائر، وهي قصة قادت الشجاعة صاحبها بعد أشهر من احتجازه هو وثلاثة من رفاقه إلى تدوين تجربتهم الأليمة بوصفهم مثقفين وطلبة جزائريين في "عاصمة التنوير". وقد أحسنوا بتسجيل تجربتهم للتاريخ، فبعد مرور أكثر من ستين عاما على تلك المآسي، لا تزال حكاياتهم شاهدا حيا على ما أجرمه هذا الاحتلال بحق ماضي الجزائر، بل وحاضرها ومستقبلها.

—————————————————————————

المصادر

[1] محمد البشير الإبراهيمي: حدثوننا عن العدل، آثار الإمام البشير الإبراهيمي 3/372.

[2] أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي 10/152.

[3] الغنغرينا، تعذيب الجزائريين في باريس ص40.

[4] السابق ص44، 45.

[5] السابق ص47.

[6] السابق ص51.

[7] السابق ص53.

[8] أبو القاسم سعد الله: السابق 10/155.

المصدر : الجزيرة