شعار قسم ميدان

نكبة غرناطة.. كيف مَرَّ آخر رمضان على المسلمين قبل سقوط الأندلس؟

جامع قرطبة

في ليلة كان الحزن فيها أثقل من برد الشتاء، وعلى أعتاب قصر الحمراء في غرناطة جنوبي إسبانيا، لم تشِ مخايل الثراء والترف بأن المدينة الحصينة تُكابد خطر الزوال، بيد أن المتاريس التي أقامها أهلها المذعورون على أبوابها تحكي قصص النوازل والنكبات التي عصفت بالأندلس، بعدما فقدت هيبة الخلافة منذ أمد بعيد جاوز ثلاثة قرون ووصلت إلى حالة يُرثى لها من الضعف والتفكُّك، إثر حروب الاسترداد التي شنَّتها ممالك الشمال المسيحية على الثغور الأندلسية، وانتهت عند آخر المعاقل في غرناطة، التي فرضت عليها جيوش الإسبان حصارا خانقا استمر تسعة أشهر، شهد المسلمون فيها آخر شهر رمضان تحت حكمهم الزائل.

 

على مدى ثمانية قرون، حكمت الأندلس عدة دول بدأت مع التوسُّع الكبير في عهد الأمويين، مرورا بإجبار أعظم حُكَّامها "الخليفة الناصر" الملوك الأوروبيين على القدوم إليه وتقبيل يده على مشهد من الناس، ثم وصولا إلى عهد ملوك الطوائف (وعددهم 22)، الذين دفعوا الجزية للملوك المسيحيين وهم صاغرون. وبعد ذلك، أتت صحوة عهد المرابطين الذين أخَّروا سقوط الأندلس أربعة قرون حتى زالت دولتهم، ثم خَلَفَهم الموحِّدون الذين حكموا بلاد المغرب، وتُنسب إليهم أسباب التصدُّع الأندلسي، فسقطت في عهدهم قرطبة، أهم مدن الأندلس، وانفرط من بعدها عقد المدن والثغور، وصولا إلى غرناطة التي تأسَّست بعد انهيار دولة الموحدين، لكنها سقطت نهائيا إلى غير رجعة في 2 يناير/كانون الثاني عام 1492. (1)

 

القسطنطينية مقابل الأندلس

القسطنطينية مقابل الأندلس

تحكي التراجم الأجنبية رواية أخرى للفتوحات الإسلامية التي ابتلعت العالم القديم من تخوم الصين إلى شواطئ الأندلس، إذ رأت الشعوب المغلوبة في الزحف الإسلامي وضياع القدس وفقدان أثر المسيح عقابا من الله لهم على ذنوبهم، واستمرت اللعنة تلاحقهم حتى قبل نصف قرن من سقوط الأندلس، حين نجح السلطان العثماني محمد الفاتح في إسقاط القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وقلب المسيحية في أوروبا لأكثر من 11 قرنا، ثمَّ أمر بتحويل أعظم كنائسها (آيا صوفيا) إلى مسجد، وفيما كان التفوق في الشرق إسلاميا بامتياز، كانت الأندلس تشهد تمدُّدا مسيحيا، مقابل روح استسلام أصابت المدن الإسلامية التي لم تجد لها نصيرا من الشرق، فسقطت تباعا كتساقط أوراق الخريف. (2) (3)

 

في سنوات معدودات، سقطت ولايات الأندلس الوسطى والشرقية كافة، ولم تتبقَّ سوى إشبيلية وغرناطة، وتحوَّلت الأندلس كلها إلى الجنوب الذي أصبح ملاذ المغلوبين على أمرهم، وبينما غرق آخر ما تبقى من أرض الأندلس في الحروب الداخلية والصراعات والدسائس، أخذ الشمال المسيحي يُرتِّب صفوفه عبر اندماج مملكتَيْ "ليون" و"قشتالة" تحت راية الملك المُتعصِّب "فيرناندو الثالث"، وبدأ الأخير في مراسلة ملك غرناطة "محمد بن الأحمر"، حتى انتهت المراسلات بتوقيع معاهدة نصَّت في أحد بنودها على أن يدفع بنو الأحمر جزية سنوية لملك قشتالة، علاوة على التبعية العسكرية له في أي حروب قادمة يخوضها، وتسليم عدد من الحصون التي خضعت سابقا لسيادة جناح غرناطة.

اندماج مملكتي "ليون" و"قشتالة" تحت راية الملك المُتعصِّب "فيرناندو الثالث"
فرديناندو الثالث، وإيزابيلا، ملكي أراجون وقشتالة

بموجب تلك المعاهدة، جنَّدت الممالك المسيحية جيش غرناطة المسلم لحصار مدينة إشبيلية، أعظم حواضر الأندلس بعد قرطبة، وآخر مدن المسلمين سقوطا قبل غرناطة، وبينما كان جيش ابن الأحمر يُطوِّق أسوار القلاع، لعب ملك غرناطة دورا سياسيا هو تثبيط هِمَمِ الحاميات الإسلامية، وإقناعها بتسليم المدن حقنا للدماء. ونتيجة للواقع على الأرض، وامتداد الحصار على إشبيلية 12 شهرا، استسلمت في الأخير بأيدي المسلمين ودخلها فيرناندو، وصارت بعدها عاصمة مُلكِه بدلا من طُلَيْطِلَة الإسلامية التي سقطت هي الأخرى قبلها.

 

ساهم الالتزام الصاغر الذي تعهَّد به ابن الأحمر في ضياع إشبيلية ومن بعدها غرناطة، آخر ولاية إسلامية في الأندلس، وحين فرغ الشمال المسيحي من انتصاراته، بدأ آخر فصل من حروب الاسترداد بتجهيز حملات لإسقاط غرناطة. وقد استطاعت المدينة الصمود نحو عشر سنوات، حتى ضُرب عليها حصار طويل في أوائل عام 1491، حيث شهد المسلمون آخر شهر رمضان تحت حكمهم. وتتفق المصادر العربية والأجنبية على أن الجيش الإسباني استخدم المدفعية الثقيلة في حربه، ثم أحرق جنوده كل المزارع والمحاصيل خارج الأسوار. ويذكر المؤرخ "محمد عبد الله عنان" في موسوعته "دولة الإسلام في الأندلس" أن السكان المستضعفين لم يجدوا ما يأكلونه في الصيام، فذبحوا القطط والكلاب، وأكلوا الفئران. (4)

 

فعلت روح الهزيمة والاستسلام بالمسلمين في غرناطة ما عجزت عنه آلة السلاح، وقد أشارت المصادر إلى أن الكثافة السكانية للمدينة التي جمعت شتات المسلمين بعد زوال مُلكهم، إلى جانب حصونها المنيعة وأسوارها العالية، مَكَّنتها من الصمود أمام ممالك الشمال المسيحية. هذا ويُنسب إلى ابن الأحمر أنه ثبَّط من عزيمة الجيش الذي أراد القتال، ودخل في مفاوضات سرية لتسليم المدينة دون قتال لفرديناندو الثالث وإيزابيلا، ملكَيْ أراجون وقشتالة، مقابل معاهدة احترام حرية المهزوم، لينتهي بسقوط غرناطة حكم إسلامي دام قرابة ثمانية قرون.

رمضان بعد سقوط الأندلس

كان يُنظر إلى انتزاع غرناطة من الحكم الإسلامي على أنه عمل مُوازن خسارة القسطنطينية لصالح الأتراك العثمانيين، وفيما كان الشرق الإسلامي يموج بانتصاراته وأمجاده، كان الغرب المسيحي بدوره قد دخل في صلوات شكر، وارتفعت أصوات جرس الكنائس، وشوهدت الصلبان فوق أسوار غرناطة، وماجت شوارع الممالك المسيحية بالاحتفالات الصاخبة تزامنا مع برقيات التهنئة التي توالت على ملوك إسبانيا، بينما المهزوم الذي لم يغادر بلاده بعد كان قد ودَّع آخر رمضان، ومعه الأندلس كلها التي فتحها أجدادهم في الشهر نفسه بقيادة طارق بن زياد الذي منحها لقبها الذي ارتبط بها إلى اليوم.

نصَّت معاهدة تسليم غرناطة على ضمان ممارسة المسلمين لشعائرهم دون المساس بجوامعهم ومناراتهم، كما لم يُمنعوا من الصيام، لكن الشعوب المغلوبة التي استقبلت رمضان بعد عدة أشهر من السقوط فرض عليها المنتصر إخفاء كل قديم مُتعلِّق بالحكم الإسلامي، فاختفت موائد الرحمن، ومعها الأطعمة والحلوى التي اشتهرت بها الأندلس، كما لم تعد المساجد تمتلئ بالمسلمين في صلوات التراويح والقيام. وبعد سنوات عدة من التضييق الخفي، أصدرت محكمة التفتيش مرسوما عام 1499 قضى بإغلاق المساجد كافة، مع تبني المملكة حملة تطهير عِرقي لتنصير الشعوب المغلوبة التي عاشت على غير دين الملك، لتُلغى بذلك رسميا كل الحقوق التي وقَّع عليها ابن الأحمر.

مَنَع القانون حتى الأسماء العربية، كما أجبرت محكمة التفتيش المسلمين على التخلي عن لغتهم وأزيائهم، ومن ثمَّ اندلعت أول انتفاضة في غرناطة في رمضان عام 1499، وقد قابلتها الكنيسة بوحشية ونجحت في إخمادها، ورُغم تخلِّي عدد من المسلمين عن دينهم، وتعرُّضهم للتنصير القسري، أشار المؤرخ الفرنسي "لويس كاردياك" في كتابه "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون 1492-1640" إلى أن محاكم التفتيش كانت تستقبل قضايا في شهر رمضان أكثر من أي شهر غيره، وأن المورسكيين الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي وأُجبروا على اعتناق المسيحية حافظوا على الصيام سِرًّا في رمضان، وذلك حتى مرور نحو قرن على سقوط الأندلس.

كتاب الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون 1492-1640
كتاب "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون 1492-1640"

وقد أشارت التراجم الأجنبية إلى حيلة اتبعها المسيحيون الذين راودهم الشك في أبناء ديانتهم الجُدد، حيث طبَّق هؤلاء المثل القديم الذي ينصح بإثارة الصديق ودفعه إلى الغضب، بقصد التوصُّل إلى حقيقة أفكاره، وفي كثير من الأحيان لم يتحمَّل الموريسك مَن كال السباب إلى الإسلام، كما لم يمنعهم سوء العاقبة من الرد على مَن توجَّه بعبارات مسيئة للنبي محمد ﷺ.

 

رغم كل تلك الفظائع،ـ احتفظ المورسكيون الذين مُنِحُوا أسماء مسيحية بهويتهم الإسلامية سِرًّا، وعلنا في بعض الأحيان، حتى إن بعضهم رفض تناول الخمر ولحم الخنزير في نهار رمضان أمام أعضاء محاكم التفتيش، التي دأبت على تلك الوسائل للتأكد من أنهم مسيحيون مخلصون. ورغم ذلك، كانت الوشاية كفيلة بإسقاط مَن صمد منهم، وكان مندوبو محاكم التفتيش ينتشرون فوق التلال للقبض على أي موريسك خرج لاستطلاع شهر رمضان، ونتيجة لكثرة أعداد المقبوض عليهم، منحتهم الكنيسة عفوا في بعض الأحيان شرط ألا يعودوا إلى طقوسهم الإسلامية، وإلا واجهوا عقوبة القتل حرقا. بيد أن سجلات محاضر التفتيش تُشير إلى أن معظمهم قُبض عليه مرة أخرى، وفي عام 1906 أطلق الملك "فيليب الثالث" مرسوما بعد موافقة رئيس الأساقفة بطرد المورسكيين كافة من إسبانيا، لاستعادة وضعها القديم قبل دخول الجيوش العربية إليها، ليُغلَق بذلك للأبد فصل الأندلس الإسلامية من تاريخ الجزيرة الإيبِرية.

 

عودة للوراء.. رمضان قبل سقوط الأندلس

جامع قرطبة

على مدى ثمانية قرون، استقبل الأندلسيون شهر رمضان بحفاوة تفوق خصوصيته الدينية التي حظي بها في بلاد المشرق الإسلامية. فقد بدأ فتح تلك البلاد وما حولها في اليوم الأول من رمضان سنة 92 للهجرة و711 ميلاديا، وذلك على يد جيوش "طارق بن زياد". بيد أن في رمضان أيضا تلقَّى المسلمون هزيمة ساحقة في معركة بلاط الشهداء عام 732 ميلاديا، التي يُؤرِّخ لها الغرب بأنها حفظت المسيحية ديانة لأوروبا. ومثلما شهدت الممالك المسيحية أيضا أكبر انتصاراتها في هذا الشهر، فإنها عاصرت أقسى هزائمها في معركة "الزلاقة" عام 1086، التي يُنسَب إليها أنها أخَّرت سقوط الأندلس قرنين من الزمان على يد جيش المرابطين بقيادة "يوسف بن تشافين".

 

لأزمنة طويلة، كلما حلَّ رمضان على المسلمين في الأندلس، دفع أمراؤها وحكامها الأقوياء نصيبا من المال من خزينة الدولة من أجل تزيين المساجد المطبوعة بعمارة العهد الأموي في الشرق، إلى جانب إضاءة المصابيح في الشوارع والطرقات، وكذلك أقاموا الولائم للفقراء وطلاب العلم الذين ارتحلوا من أمصارهم وتلقوا الدروس في جامع قرطبة. وقد أشارت المصادر العربية إلى انتشار ما عُرف بالأسمطة، أو "تكية السلطان" في كل بقاع الأندلس، التي تُعرَف اليوم في الشرق باسم "موائد الرحمن"، وتُصرَف لها أموال مجزية وتُقام طيلة شهر رمضان، هذا ويُنسَب إلى الأندلس أيضا اختراع مشروب "قمر الدين".

 

حتى اللحظة، ما زالت الجالية المسلمة في إسبانيا تحفظ بعضا من عادات أجدادهم إلى اليوم، بعد قرون من زوال دولتهم، ويشعل هؤلاء الشموع ليلة القدر، إلى جانب رش المسك في أرجاء المساجد التي تعم إسبانيا ويبلغ عددها نحو 300 مسجد حاليا، ويذكر الشعر الأندلسي رواية أقرب للحدث على لسان "أبي خصال الأندلسي" قال فيها:

أجدّك لم تَشهَد بها لَيلَةَ القَدرِ

وقد جاشَ مَدُّ الناسِ منه إلى بَحرِ

وقد أُسرِجَت فيهِ جبالٌ من الزّهرِ

فلو أنَّ ذاكَ النّور يُقبَسُ من فجرِ

لأوشَك نور الفجر يَفنى ويَنضُبُ

——————————————————————

المصادر

  1. دولة الإسلام في الأندلس.
  2. اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها.
  3. الفتوحات العربية في روايات المغلوبين.
  4. الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون 1492-1640.
المصدر : الجزيرة