شعار قسم ميدان

السلطان السعيد بركة.. لماذا أصرّ "بيبرس" على توريث السلطة لابنه؟

اشتُهرت دولة المماليك بالقوة العسكرية والفتوحات الظافرة ونجاحها في القضاء على أعظم خطرين واجهما المسلمين، وهما المغول والصليبيون، وكانت السنوات الأولى في ظل سلطنة قطز وخليفته بيبرس من أخطر هذه السنوات التي واجهت الدولة، حتى إن باحثا إنجليزيا اسمه "جيمس واترسون" يقول: "كان بيبرس واثقا شجاعا في تعاملاته مع خصومه على المستوى العام…، وظل محافظا على ولائه لرفاق الخشداشية، ولكنه كان قاسيا لأقصى الحدود مع أعدائه…، وكان زعيما محاربا تركيا بقدر ما كان سلطانا مسلما…، كما أنه حكم من فوق فرس الجهاد أكثر من قصر السلطان"(1).

إن الحكم من فوق صهوة الخيل هو التعبير الأكثر مناسبة لوصف عصر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، الذي استمر بين عامي 658-676هـ/1260-1277م، فقلما مكث السلطان في القاهرة أو دمشق، أهم مدينتين آنذاك، لصالح جولاته وحروبه التي أفنى فيها سلطنته في مواجهة الأعداء المغول والصليبيين وغيرهم، فضلا عن المؤامرات الداخلية والمحاولات الانقلابية من خصومه في داخل الدولة. ورغم أن دولة المماليك قامت وفق الأسس العسكرية التراتبية الصارمة، واحترام مبدأ الأقدمية، والخشداشية، أي الزمالة في الرتبة العسكرية؛ فقد غلب الطابع البشري على البناء التنظيمي للدولة في كثير من الأحيان حين أعلن السلطان ابنه وليا للعهد، وسلطانا من بعده لهذه الدولة العسكرية الصارمة.

ولاية العهد

لقد حاول المماليك أن يسيروا على درب أسيادهم الأيوبيين ومن قبلهم السلاجقة من استعارة النظم الحاكمة والإضافة إليها بما يتوافق مع الدولة الجديدة الطامحة، بما في ذلك ولاية العهد لأبنائهم، بيد أنهم فشلوا في تلك الأخيرة، ولم تُستثنَ من ذلك إلا الأسرة القلاوونية التي لم يحكم فيها على الحقيقة من أبناء قلاوون سوى ولديه الأشرف خليل الذي مات مقتولا، والناصر محمد الذي لاقى عنتا وانقلابينِ مدبرينِ على حكمه، حيث خُلع من الحكم وحُجر عليه.

لعل أهم سببين جعلا السلطان بيبرس يعلن عن ابنه الصغير وليا للعهد هي القوة العسكرية والسياسية التي بات يتمتع بها بعد انتصار عين جالوت ومعركة حمص الأولى. (مواقع التواصل الاجتماعي)

كانت أولى المحاولات الحقيقية لإقرار مبدأ وراثة العهد في بدايات العصـر المملوكي عقب مقتل السلطان المعز أيبك سنة 655هـ/1257م، حيث اتفق مماليكه المعزِّية وعلى رأسهم قطز على سلطنة ابن سلطانهم الأمير نور الدين علي بن أيبك، ولولا وجود هذا الدعم القوي من كبار رجال الدولة لما نجح المنصور علي في ارتقاء السلطنة، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل بعد عامين فقط بسبب ضعف نور الدين وصغر سنه، وبسبب التحديات الخارجية المتمثلة في الصراعات مع الأيوبيين والمغول في بلاد الشام، وسرعان ما ارتقى قطز للحُكم.

أما السلطان بيبرس فحين وطّد دعائم الأمور لنفسه، ورضيه الأمراء والعامة، وأبدى هِمَّة عظيمة في جهاد العدو، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية؛ فقد أعلن دون مواربة تعيين ولده السعيد بركة خان محمد وليا للعهد في مرحلة مبكرة نسبيا من سلطنته، وجعل الأمراء يُقسِمون ولاء الطاعة لابنه الملك السعيد سنة 660هـ/1262م، ثم ما لبث أن أعلنه وليا للعهد بصورة رسمية في شوال 662هـ/1264م(2).

ولعل أهم سببين جعلا السلطان بيبرس يعلن عن ابنه الصغير وليا للعهد هي القوة العسكرية والسياسية التي بات يتمتع بها بعد انتصار عين جالوت ومعركة حمص الأولى، والقضاء على التمردات الداخلية في مصر والشام، وأيضا استمرار وجود الخطر المغولي في ذلك الحين، الذي أجبره على ترك من يثق فيه نائبا عنه في مصر. وقد قال مؤلف سيرته، القاضي والمؤرخ محيي الدين بن عبد الظاهر: "وأشار بعض الأمراء بسلطنة الملك السعيد، ولد السلطان؛ ليكون في الديار المصرية"(3)، وهذا يعني أن الرأي نبع أصلا من عند بعض الأمراء الكبار وليس من عند بيبرس، وربما أيضا كان بإيعاز منه.

على كل حال، في شوال 662هـ/1264م، نُصِّب الأمير السعيد بركة بن بيبرس وليا للعهد في احتفال عظيم، وكتب الوثيقة الرسمية لتقليد الولاية كاتب الإنشاء والمؤرخ ابن عبد الظاهر، وقد أوردها كاملة في تأريخه لبيبرس، ومما جاء فيها: "فليتقلد الولدُ ما قلدناه من أمور العباد، وليُشركنا فيما يباشره من مصالح الثغور والقلاع والبلاد"(4). ولخشية بيبرس على ولده السعيد، ومعرفته أن كبار الأمراء لا يرضون لأنفسهم إلا تولية واحد منهم عند موته، كتب وصيّة سرّية لابنه حذره فيها من الأمراء المحيطين به، وقد جاء فيها: "إنك صبي، وهؤلاء الأمراء الأكابر يرونك بعين الصبي، فمَن بلغك عنه ما يشوِّش عليك ملكك، وتحققت ذلك عنه، فاضرب عنقه في وقته ولا تعتقله، ولا تستشر أحدا في هذا، وافعل ما أمرتُك به وإلا ضاعت مصلحتك"(5).

سياسات السلطان الطائش

(مواقع التواصل الاجتماعي)

في المحرم 676هـ/1277م توفي السلطان ركن الدين بيبرس البُندقداري في دمشق بعد مرض ألمَّ به لمدة أسبوعين عن عمر ناهز السادسة والأربعين، ولهذا السبب قدم عليه كبار الأمراء من مصر وعلى رأسهم ولي العهد، الذي صار لقبه منذ ذلك الحين "السلطان الملك السعيد"، ثم اتفق الجميع على مبايعته امتثالا للعهد الذي كُتب له سنة 662هـ، ومن هنا بدأ السلطان السعيد سلطنته بتثبيت كبار الأمراء الأقدمين في وظائفهم العسكرية والسياسية، فأقرَّ الأمير بدر الدين بيليك نائبا للسلطنة، وأقر الصاحب بهاء الدين بن حنا وزيرا للدولة، وغيرهما.

ارتقى السلطان بركة سدة السلطنة المملوكية وهو فتى يبلغ من العمر 19 عاما، وظل في الحكم لمدة عامين فقط ارتكب فيهما العديد من الأخطاء الكبرى، فقد أشرك والدته في حكم المملكة من بادئ الأمر، ولم يُعهد هذا الأمر من قبل إلا في زمن شجرة الدر التي خلعها المماليك، ثم الأغرب من ذلك أن مكافأة الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة على ما قام به من دور حاسم في انتقال السلطة إلى سعيد، أن جرَّعته أم بركة السم فمات في ربيع الأول 676هـ بعد أسابيع قليلة على ارتقاء ابنها السلطان بركة، وكانت هذه الحادثة بداية لتربص كبار الأمراء المماليك بالسلطان الجديد وإدراكهم مدى خطره.

لم يكتفِ السلطان بركة بهذا الإجراء فقط، بل بدأ باعتقال كبار الأمراء ممن شكلوا خطرا على طموحه، مثل الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، فـ"اعتقلهما بقلعة الجبل، وكانا من أكبر الأمراء، وأخصَّهم بصحبة السلطان والده، فتغيرت لذلك قلوب الأمراء"(6)، كما يقول المؤرخ النويري في "نهاية الأرب". ثم تمادى السعيد في سياسة اعتقال كبار الأمراء من رؤوس النظام القديم، فاعتقل النائب الجديد له الأمير شمس الدين آقسُنقر الفارقاني، وتركه للأمراء الخاصكية، وهم الحرس السلطاني الخاص من صغار الأمراء (الضباط)، فأهانوه وعذّبوه، وسرعان ما توفي آقسنقر بسبب هذا التعذيب والتنكيل.

على أن الأخطر من ذلك أن السعيد أكثَرَ من تعيين كبار الأمراء وعزلهم، ورضخ لتدخل الأمراء الخاصكية، ولم يكن لديهم لا الخبرة السياسية ولا العسكرية، ولهذا السبب زاد نفوذ الأمراء الخاصكية الظاهرية والسعيدية، وهم أكثر فرق الجيش ولاء له، ومن ثم بدؤوا في الاستيلاء على الإقطاعات الجزيلة، وهي العوائد المالية الضخمة التي أتت من الأراضي الزراعية في مصر والشام؛ ما أدى إلى استعداء الأمراء الصالحية والمظفّرية وقُدامى الأمراء ممن تأسست على أكتافهم الدولة.

كل هذه الأفعال الخطيرة أدت إلى اجتماع كبار أمراء الدولة في القلعة ليناقشوا السعيد في هذه التصرفات المشينة التي هدَّدت وحدة الجيش، وقد قابل السلطان تهديداتهم بالتسكين والاسترضاء في بادئ الأمر، لكنه كان يُضمر خطة في داخله. وفي بداية عام 677هـ/1279م سافر السلطان إلى دمشق، ومن هناك بدأ في تنفيذ خطته السرية الأكبر، وهي إبعاد كبار الأمراء بحجة ملاقاة الأعداء، وإظهار هيبة الدولة أمامهم، إذ أرسل الأمير سيف الدين قلاوون الألفي إلى العاصمة الأرمنية "سيس" (قوزان التابعة لأضنة التركية اليوم) على رأس جيش كبير، وأرسل الأمير بدر الدين بيسرى إلى السلاجقة في الأناضول على رأس جيش آخر، وأراد بذلك "أن يتمكن في غيبتهم من التدبير عليهم، وعزم أنهم إذا عادوا قبض عليهم"(7)(8)، كما ذكر النويري.

في غضون ذلك، تمادى نفوذ الأمراء الخاصكية (الحرس السلطاني الخاص)، وبلغ نفوذهم إلى حد الطغيان، ولهذا السبب رفض نائب السلطنة الأمير سيف الدين كوندك سنة 678هـ/1280م أن يُوقِّع على مرسوم سلطاني بإعطاء الخاصكية مكافآت مالية دون سبب، الأمر الذي قابلوه بالاستهجان، وتمكنوا من استصدار مرسوم من السعيد بركة بعزله عن منصبه. وكان الأمير الكبير سنقر الأشقر حاضرا، فحمى كوندك وضمنه، وساءه هذا الفعل الذي لم يكن من تقاليد الدولة، وسرعان ما أعلم به بقية الأمراء الكبار الذين كانوا قد بدؤوا في الرجوع من الحملات العسكرية الشمالية(9).

نهاية غير سعيدة للسلطان السعيد

(مواقع التواصل الاجتماعي)

لما علم الأميران الكبيران سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيسرى بهذه السياسات الفاسدة، أرسلا إلى السلطان يُطالبانه بأن يبعث إليهما المتسببين في هذه الفتنة من الأمراء الخاصكية بصحبة الأمير سيف الدين كوندك ليحكما عليهم، وهو تدخل اعتبره السلطان تعديا على صلاحياته. ومن جهته أرسل السلطان السعيد بركة عدة رسائل سرية إلى كبار الأمراء الظاهرية أمراء والده بيبرس في صفوف تلك العساكر يأمرهم بعدم الامتثال لقرارات الأميرين قلاوون وبيسرى، وكذلك العودة إلى دمشق، لكن الرسائل وقعت في أيدي الأميرين، فأعلنا العصيان العسكري على السلطان، ولم تُفلح محاولات الصلح بين الطرفين، وسرعان ما تركا دمشق وتوجها إلى القاهرة التي نجحا في دخولها بعد فشل عصيان الأمراء الموالين للسعيد.

عقب الاستيلاء على القاهرة أُجبر السلطان السعيد على الرحيل من دمشق لاستخلاص العاصمة من يد كبار الأمراء، لكن أكثر الجنود الشامية والعربان انفضوا عنه؛ لأنهم أدركوا ضعفه وعدم تأهله للسلطنة. ورغم دخوله إلى قلعة الجبل في بادئ الأمر، حوصر السلطان، ثم وقع الصلح بين الفريقين على أن يتنازل السعيد عن السلطنة مقابل تملّكه الكرك وقلعتها في الأردن، "وأن لا يُكاتب أحدا من النواب ولا يستميل أحدا من الجند، وحلفوا له أنهم لا يؤذونه في نفسه ولا يُغيرون عليه. وسفَّروه لوقته صحبة الأمير سيف الدين بيغان الركنى وجماعة يوصلونه إلى الكرك"(10).

كان تنازل السعيد بركة بن بيبرس عن عرش الدولة المملوكية في ربيع الآخر 678هــ/سبتمبر 1279م، بعدما ظل في الحكم لمدة عامين وشهرين، أمرا متوقعا في ظل سياسته الرعناء، فكان مصيره مثل سابقه السلطان المخلوع نور الدين علي بن المعز أيبك، وتجنبا لتكرار سوء الحكم والإدارة، اتفق المماليك على تولية الأمير الكبير قلاوون الألفي السلطنة، لكنه رفض وقال: "أنا ما خلعتُ الملك السعيد طمعا في السلطنة، والأولى ألا يخرج الأمر عن ذرية الملك الظاهر"(11)، وقصد تعيين ابن السلطان بيبرس الأصغر الأمير بدر الدين سلامش ابن السبع سنوات.

وقد فسَّر بعض المؤرخين هذا التمنُّع من قلاوون على أنه رمى من ورائه إلى إتاحة الفرصة لنفسه، واستغلال عامل الوقت، حتى يستطيع إخماد نار الفتنة التي أشعلها المماليك الظاهرية والسعيدية أنصار الظاهر بيبرس والسعيد بركة، وقد كانوا عنصرا فعالا ومؤثرا في بنية الجيش المملوكي، فضلا عن إبعاد الأمراء الموالين لأسرة بيبرس عن مناصب الدولة القيادية والمفصلية(12). وبهذا فشل مبدأ ولاية العهد مبكرا في عصر دولة المماليك، وسنجد أن هذا المبدأ فشل طيلة عصر هذه الدولة، إلا مع السلطان القوي الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة التي استطاع فيها أن يقضي على خصومه بقوة وسرعة ودون تردد أو رحمة.

_______________________________________

المصادر

  • جيمس واترسون: فرسان الإسلام وحروب المماليك ص248، 249.
  • ابن عبد الظاهر: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ص203، 204.
  • ابن عبد الظاهر: السابق ص203.
  •  ابن عبد الظاهر: السابق ص208.
  • جمال الدين الشيال: تاريخ مصر الإسلامية 2/162.
  • النويري: نهاية الأرب 30/372.
  • أي الأموال المتحصَّل عليها من الإقطاع العسكري المخصص لكل منهم.
  • النويري: نهاية الأرب 30/386.
  • تاريخ ابن الفرات 7/140، 141.
  • النويري: نهاية الأرب 30/398.
  • المقريزي: السلوك 2/120.
  • جمال الدين سرور: الظاهر بيبرس ص130.
المصدر : الجزيرة