شعار قسم ميدان

قلعة الصليبيين في البحار.. لماذا نسي المماليك والعثمانيون عداوتهم أمام شواطئ رودس؟

جزيرة الصليبيين.. لماذا اتفق العثمانيون والمماليك على الهجوم على جزيرة رودس؟

في عام 690هـ/1291م نجح المماليك في طرد الصليبيين نهائيا من سواحل بلاد الشام بعد احتلالهم لها لمدة قرنين، وبعد سبع حملات صليبية على الأناضول والشام ومصر سقط فيها مئات الآلاف من الأبرياء، واصطدم فيها المشرق الإسلامي بموجات متلاطمة من صليبيي أوروبا بمختلف لغاتهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية.

 

وإذا كان المماليكُ بقيادة السلطان الأشرف خليل بن المنصور قلاوون الألفي قد نجحوا في إتمام مهمة الطرد؛ فإن ثمة ثلاث بقايا كبرى ظلت للصليبيين في الشرق الأدنى الإسلامي طوال القرن الرابع عشر الميلادي وشطر من القرن الخامس عشر، وهذه البقايا أو القواعد الثلاث كانت دولة أرمينية الصغرى على خليج الإسكندرون في جنوب الأناضول، ودولة لوزجنان اللاتينية في جزيرة قبرص، ودولة الفرسان الإسبتارية في جزيرة رودس القريبة من سواحل الأناضول الجنوبية. وكما يقول المؤرخ الدكتور سعيد عاشور: "جميع هذه البقايا كانت وليدة الحركة الصليبية، ونشأت بفعل تيار تلك الحركة، ومن ثم أخذت على عاتقها مهمة استئناف محاربة المسلمين سياسيا واقتصاديا وحربيا"[1].

 

وقد أدركت دولة المماليك في مصر والشام خطورة هذه الجيوب الصليبية الباقية في شرق البحر المتوسط، وأنها ستكون منطلقا دائما للهجوم على السواحل المصرية والشامية لاستعادة أمجاد الصليبيين، أو لاستنزاف تجارة المسلمين في البحر المتوسط والتعرُّض لها. ولهذا السبب عملوا سريعا على التخلص من مملكة الأرمن الصغرى المطلة على خليج الإسكندرون في منطقة أضنة وما حولها، ونجحوا بالفعل في تحقيق هذا الغرض سنة 775هـ/1374م في عصر حفيد الأسرة القلاوونية التي طردت الصليبيين من الشام، وهو السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، ثم في عصر دولة المماليك الشراكسة، حيث نجح السلطان الأشرف برسباي بعد عدة حملات في إخضاع جزيرة قبرص وضمان تبعية آل لوزجنان إلى القاهرة بعد أسر ملكهم جانوس الذي جاء ذليلا في أغلاله إلى مصر، وبذلك لم يبقَ سوى دولة الفرسان الإسبتارية في رودس. فكيف حاول المماليك إخضاع هذه الجزيرة؟ ولماذا استعصت عليهم؟ ولماذا انشغل العثمانيون عنها رغم وقوعها قُرب سواحلهم الجنوبية؟ ثم لماذا اتحد الغريمان المتنافسان للقضاء على قوة هذه الجزيرة؟

 

اتفاقية الدفاع المشترك بين الغريمين

صور تاريخية

عقدت دولتا المماليك الجراكسة في مصر والشام والعثمانيين الأتراك في الأناضول والبلقان اتفاقية دفاع مشترك أملتها عليهم مستجدات غزوات إمبراطور المغول الشهير تيمورلنك في الشام والأناضول في بداية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وكذلك أطماع ابنه شاه رُخ والإمارات التركمانية من خلفه. ولذا في عصر السلطان العثماني مراد الثاني، الذي واجه حلفا صليبيًّا من قوى غرب وشرق أوروبا أرادت التوجه صوب البلقان للقضاء على القوة العثمانية، أرسل السلطان رسالة عاجلة إلى المماليك في القاهرة يرجوهم فيها بإعادة تفعيل اتفاقية الدفاع المشتركة التي أُبرمت قبل نصف قرن بين الدولتين في زمن السلطانيْن برقوق المملوكي وبايزيد الأول العثماني، وضرورة إسراع دولة المماليك بالهجوم على جزيرة رودس التي كانت في إطار الحلف الصليبي ضد العثمانيين؛ كنوع من فك الارتباط والضغط على العثمانيين من الجنوب لانشغالهم في الغرب بكل قوتهم وعتادهم، وإشغال الفرسان الإسبتارية وأسطولهم القوي.

 

علم جنود الإسبتارية بشأن هذا التحالف المملوكي العثماني الجديد، فكلَّف فلوفيان رئيس الإسبتارية في جزيرة رودس مندوبه بالإسكندرية لكي يعرض على السلطان المملوكي برسباي عقد معاهدة عدم اعتداء على الجزيرة، وقدَّم إليه هدية قيمة، ووعده بدفع جزية سنوية للدولة المملوكية. وفي الوقت عينه لم تسمح ظروف دولة المماليك التي انهمكت في أوضاع اقتصادية وسياسية متقلبة، لم تسمح للسلطان برسباي أن يتابع خطواته الهجومية والعسكرية ضد الجزيرة؛ إذ انشغل بالتطورات السياسية التي جرت على أطراف دولته بين شاه رُخ ودويلة الشاة البيضاء (أق قويونلو)، فضلا عن بعض الاضطرابات الداخلية من فساد العربان وتمردات المماليك الأجلاب.

 

وحين اعتلى السلطان الظاهر سيف الدين جَقْمق عرش المماليك، وكان قائدا للجيش قبل توليه السلطنة، والمسؤول بحكم منصبه عن الهجوم على جزيرة قبرص وإخضاعها في عصر برسباي، فإنه أصرَّ على إرسال حملة عسكرية مملوكية تجاه رودس سنة 844هـ، متخذا من بعض حوادث القرصنة في البحر المتوسط ذريعة لإعلان الحرب عليها، لا سيما أن السلطان العثماني مراد الثاني أعاد تحريضه وطلبه للمماليك بضرورة غزو رودس حتى يُشغل بذلك فرسان الإسبتارية عن الانضمام إلى الحلف الأوروبي الصليبي ضد العثمانيين.

 

في هذه المرة أرسل الرئيس الجديد للإسبتارية في الجزيرة واسمه لاستيك وفدا من قِبَله إلى السلطان العثماني مراد الثاني، حيث عرض عليه تجديد المعاهدة القديمة بين العثمانيين والإسبتارية، غير أن السلطان العثماني رفض توقيع هذه الاتفاقية لعلمه بخطة المماليك واتفاقه معهم، ولم يجد لاستيك مفرا من التأكد من استعدادات المماليك العسكرية ومتابعة تحركاتهم، وبالفعل علم من خلال مندوبه في مصر بحقيقة الاستعدادات، فأخذ عند ذلك يُحصِّن الجزيرة، ويقوي من استحكاماته العسكرية والدفاعية[2].

 

حملات مملوكية ضعيفة

صور تاريخية

كانت الحملة الأولى التي أعدَّها الظاهر جقمق مكوَّنة من 200 جندي على رأسهم أميران من الأمراء أصحاب الرتب العسكرية المتوسطة في الجيش، وانضم إليهم على حد وصف العلامة المقريزي "طوائف من أوغاد العامَّة وأراذل المفسدين ومن الزُّعر المجرمين حتَّى بلغوا ألفا أو يزيدون"[3]، وركبوا 15 سفينة حربية من ساحل بولاق على النيل وذهبوا باتجاه دمياط في ربيع الآخر سنة 844هـ.

 

كانت الخطة المُعدَّة لهم أن يسيروا إلى جزيرة قبرص التي أصبحت جزءا من الإمبراطورية المملوكية قبل هذا التاريخ بأربع عشرة سنة؛ ليتموَّنوا منها بالإمدادات العسكرية والغذائية اللازمة، ومنها يتجهون شمالا إلى مدينة العلايا (آلانيا في تركيا اليوم) على ساحل البحر المتوسط في جنوب الأناضول، وكانت تابعة آنذاك للقرمانيين التركمان الخاضعين للسيادة المملوكية، فانضم إليهم عدد من المحاربين والسفن التركمانية، ثم اتجهت الحملة العسكرية المملوكية التركمانية صوب رودس[4].

 

وبالفعل بلغت الحملة إلى ميناء العلايا ومنها اتجهت إلى جزيرة صغيرة قبل رودس كانت تُسمى الحصن الأشهب (وخضعت للفرسان الصليبيين الإسبتارية)، وسرعان ما استولى عليها الأسطول المملوكي والتركماني المعاوِن لهم. ولقد كانت جزيرة رودس على أتم استعداد لمقاومة هذا الأسطول، ولذلك لما وصل المماليك إلى الجزيرة هالتهم حصانتها واستعدادها، وفشلوا في الرسو في أيٍّ من شواطئها، ولهذا السبب اتجه الأسطول إلى شمال الجزيرة بغية الرسو في مكان آمن، لكن دهمه أسطول الإسبتارية فأوقع به خسارة كبرى، "وقُتل من المسلمين اثنا عشر من المماليك وجُرح كثير، وقُتل وجرح من الفرنج كثير… وأسفر وجه الأمراء أنهم لم يكن لهم طاقة بأهل رودس"[5]، كما قال المقريزي في تاريخه. وعادت الحملة بفشلها في آخر شهر جمادى الأول بعد شهر ونيف من إقلاعها من العام نفسه.

 

فشل عسكري ونصر سياسي

حصار رودوس
رسم توضيحي لـ"حصار رودس" (مواقع التواصل)

لم تُثنِ هذه الهزيمة من عزم سلطان المماليك جَقْمَق على التجهيز لحملة عسكرية وبحرية ثانية، وظلت تتجهز لها لمدة عامين، حيث خرجت من القاهرة في محرم 846هـ/1442م، وأُسلمت مهام قيادتها إلى أمير من كبار الرتب العسكرية هذه المرة، وهو الأمير إينال العلائي، الذي سيصبح سُلطانا للمماليك فيما بعد، وأُضيف إليه ألف وخمسمئة جندي، فضلا عن أعداد كبيرة من المتطوعين والعامة، وقد توجَّهت هذه الحملة إلى دمياط "ليجتمع بها المراكب التي جُهِّزت من الشامات وغيرها"[6]، كما ذكر العلامة ابن حجر العسقلاني الشاهد على الأحداث.

 

ثم اتجهت الحملة إلى جزيرة قبرص للتزود بالمؤن، ومن هناك تحركت إلى العلايا، لكن حدث أن جزيرة الحصن الأشهب أطلقت مدافعها على الحملة على سبيل الاستهزاء، فأثار هذا العمل غضب المماليك والمتطوعين، فهاجموها واستولوا عليها، وكان الفقيه والمؤرخ برهان الدين البقاعي ممن اشتركوا في تلك الحملة، وأرسل تقريرا بكل تفاصيلها على سبيل الرسالة الأخوية إلى صديقه العلامة ابن حجر العسقلاني الذي أوردها كاملة في تاريخه "إنباء الغمر"[7]. وقد أدَّت هذه المجابهة إلى تغيير في وجهة سير الحملة بسبب نفاد المؤن والذخيرة واقتراب فصل الشتاء، مما اضطر الأمير إينال العلائي أن يُعلن الانسحاب والعودة إلى مصر بعدد قليل من الأسرى بلغ نيفا وعشرين أسيرا من الصليبيين وعددا آخر من أسرى المسلمين[8].

 

أرضت الحملة الثانية بقيادة الأمير إينال السلطانَ جقمق قليلا، لكنه أصرَّ على إعداد حملة أكبر لإتمام عملية الفتح، فظل يُجهِّز للحملة الثالثة حتى أمر بخروجها في آخر محرم 848هـ/1444م، وكانت هيئة القيادة العليا للحملة مكوَّنة من الأمير إينال العلائي (سكرتير السلطان) القائد العام للحملة ورئيس القوات البرية، وقائد الحملة السابقة. والأمير تمُرباي (رئيس الأركان) ومهمته حفظ الأسطول في البحر والاشتباك البحري مع الصليبيين إن لزم الأمر، وذلك أثناء نزول القوات البرية يُعاونه في ذلك الأمير يلخُجا الساقي الناصري (نائب رئيس الأركان).

 

وقد قُدِّر عدد القوات المملوكية النظامية المشتركة في تلك الحملة بنحو ألف وخمسمئة جندي أو أكثر بقليل، وانضم إليهم عدد من أمراء الشام بقواتهم فالتحموا جميعا في الإسكندرية في شهر ربيع الآخر 848هـ/1444م. وقد فُتح المجال أمام المتطوعين وعلى رأسهم الفقهاء والصوفية وغيرهم مثل غالب حملات تلك العصور، وكان الشيخ برهان الدين البقاعي الفقيه والمفسر والمؤرخ المعروف ممن شاركوا في تلك المعركة، وكُسرت قدمه فيها[9].

السلطان جقمق
السلطان جقمق (مواقع التواصل)

وبهذه الاستعدادات الكبيرة عُدَّة وعددا وصلت القوات المملوكية إلى جزيرة رودس في جمادى الأولى من العام نفسه، واشتد القتال بين الفريقين، واستمر الحصار المملوكي للجزيرة لمدة أربعين يوما متواصلة، تمكَّن الفرسان الإسبتارية فيها بشق الأنفس من إرسال رسائل الاستغاثة إلى الصليبيين في أوروبا، فجاءتهم الأمداد التي مَكَّنتهم من مباغتة الأسطول المملوكي بهجوم قوي قُتل فيه عدد كبير من المماليك، مما اضطر قادة الحملة للاستغاثة بالقاهرة، ومنها رسالة كتبها شيخ اسمه نور الدين القُصيري مؤرخة بالتاسع من جمادى الأولى 848هـ، ومما جاء فيها: "إنه أُصيب من المسلمين خلق كثير بما رماهم به الفرنج من أعلى الحصن، وكُسر من المراكب نحو ثلاثة مراكب، لكن لم يحصل -ولله الحمد- لواحد منها غرق؛ بل وقع إصلاحها، وأن أكثرهم حصل له الفشل والخور بسبب مَن أُصيب منهم"[10].

 

من جانبه أرسل السلطان جقمق مددا لهم، "وهو خمسمئة مملوك وثلاثة من الأمراء الصغار"[11]، لكن هذا المدد لم يُغنِ عنهم شيئا، فقد خافوا المحاصرة وقدوم الشتاء وفناء مَن بقي بعد الهزيمة الثقيلة التي منوا بها، "فاتفق أكثرهم على الرجوع، فلم يسعه إلا موافقتهم، فتوجَّهوا ووصلوا أرسالا (مجموعات)، فكان آخر مَن وصل كبيرهم إينال العلائي، فوصل في آخر جمادى الآخرة منها"[12].

 

كانت نتائج الحملات الثلاث وما أُنفق فيها من أموال طائلة سببا في قبول السلطان جقمق لوساطة التاجر الفرنسي الشهير آنذاك جاك كير الذي طالبه لاستيك رئيس الفرسان الإسبتارية في رودس بهذه الوساطة، وكان لهذا التاجر علاقة طيبة بالسلطان المملوكي جقمق، فضلا عن سُمعته العالية. وقد وافق السلطان على الصلح مع الفرسان الإسبتارية، وأخذت رودس توثِّق علاقتها بعد ذلك مع جزيرة قبرص الخاضعة للسيادة المملوكية، وكتب لاستيك إلى جقمق بأنه تابع لقبرص، أي إنه صديق للمماليك في واقع الأمر[13].

 

وبهذا الانتصار السياسي لا العسكري، والتعاون الإستراتيجي بين الغريمين الإقليميين، حقّق المماليكُ والعثمانيون هدفهم بتحييد جزيرة رودس وفرسانها الصليبيين الإسبتارية، وإقصائها عن المعسكر الأوروبي طوال أكثر من ثمانين سنة تالية، حتى استطاع العثمانيون إخضاعها نهائيا في حملة عسكرية ناجحة قادها السلطان الشهير سليمان القانوني في بداية سلطنته سنة 926هـ/1522م.

——————————————————————————————–

المصادر

[1] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 2/426.

[2] محمد سهيل طقوش: تاريخ المماليك ص522.

[3] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 7/460.

[4] المقريزي: السلوك 7/363.

[5] المقريزي: السلوك 7/363، 364.

[6] ابن حجر: إنباء الغمر 4/208.

[7] ابن حجر: إنباء الغمر 4/212 – 216.

[8] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 15/351، 352.

[9]Stanley Lane-Poole: A history of Egypt in the Middle Ages, p.339.

[10] السخاوي: التبر المسبوك 1/202.

[11] السخاوي: التبر المسبوك 1/202.

[12] ابن حجر: إنباء الغمر 4/227.

[13] طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة ص111، 112.

المصدر : الجزيرة